نهر النيل .........
مابين السَقـّا المصري والخَرّاجِي الأفريقي
السَـقــّا المصري
السقـّا والخرّاجي هما مسميان لمهنة واحدة في وادي النيل ، مهنة قديمة قدم النيل واللغة العربية فيه .... وهي مهنة جلب وتوصيل الماء العذب في قِرَبٍ جلدية أو صفائح أو براميل صغيرة وبيعها للأهالي في البيوت والأسواق.
ويبدو أن الزمان قد دار دورته وباتت الأنظمة الحاكمة في دول حوض النيل على وشك ممارسة هذه المهنة القديمة الجديدة بتوصيل وبيع الذهب الأزرق لإسرائيل.
الخَـرّاجي الأفريقي
لقد وضح الآن بجلاء أن الحكومة المصرية قد رضخت للأمر الواقع . وإختارت أن تحني رأسها لرياح التغيرات في منابع النيل البعيدة عن متناول يديها . فخففت من حدة لهجتها والتهديدات الجوفاء التي روج لها إعلامها في الفترة الماضية دون أن تجد الصدى المأمول سواء في أدغال المنابع أو بطاح السودان ، لأن الجميع كان يدرك أن هذه التهديدات والتلميحات القوية ليست سوى محاولة يائسة للتخويف ونفخ في قِـربة متعددة الأخرام ؛ وتفتقر إلى آلية التنفيذ من كافة الجوانب السياسية والإقتصادية والعسكرية والقدرات اللوجستية..
لقد أتت محنة مياه النيل الأخيرة لتعطي إنطباعا مؤكدا بأن الخرطوم ودول منابع النيل قد بلغت سن الرشد في تعاملها مع مصر التي إستنفذتها كامب ديفيد ، وجعلتها أزمتها الإقتصادية والسياسية الداخلية وقضية توريث الحكم دولة مهيضة الجناح ... ولم يعد الأمر كما كان عليه الحال في السابق حين كانت مصر تعطس فيصاب السودان بالزكام ، أو حين كانت القاهرة تزأر فيتسلق الأفارقة الأشجار ....
ومن ثم فقد كتفت الخرطوم يديها شماتةً من فرط حنقها على دور مصر المفصلي في إفشال إتفاق الدوحة الذي إستنفذت فيه مع قطر وتشاد والسعودية أقصى ما يمكن من جهد وبذل وعطاء ، ... وعلى وقع ما يجري برمته من المنابع وحتى المصب فقد إستغرقت جوبا سيلفاكير في الضحك الذي يقطّع المصارين أمام الوفد المصري برئاسة وزير الخارجية ومدير المخابرات الذي زار جوبا مؤخراً ، وهي مشغولة بمكياج وجهها وتكميل زينتها تتأهب لتصبح الدولة رقم (11) في حوض النيل ؛ ولها بعد يناير 2011م حساباتها "الدفترية" الخاصة بها في المياه.
الذهب الأزرق .... من المحال أن تنفرد مصر وحدها بمغانم بيعه لإسرائيل
وأما دول منابع النيل فقد مضت كالسلحفاء التي سابقت الأرنب وبلغت نهاية الشوط من سعيها الصبور الدؤوب لترسيخ وتكريس حقوقها في المياه بعد أن بدأت تلوح في الأفق بوادر إستعدادات الحكومة المصرية لنقل وبيع جزء من حصتها في ماء النيل إلى إسرائيل تحت ستار نقل الماء إلى صحراء سيناء بهدف توطين البدو الرحل .......
جميعنا يعلم أن لا حاجة لدول منابع النيل إلى الماء خلال الظرف المناخي المطير الذي يسود أجوائها وتخلف وتيرة التنمية فيها بسبب الفساد والجهل أو قلة الإمكانات . وأن حاجتها جميعا منه تكاد تناهز بالكاد 6.5 مليار متر مكعب ..... ولأجل ذلك فإن وراء الأكمة ما وراءها .. ولكن ليس هناك من نظرية مؤامرة إسرائيلية في مسألة المياه بالذات .. وهل تتآمر إسرائيل على مصالحها التي إكتسبتها من كامب ديفيد على يد السادات؟ ...
كل ما في الأمر أن دول المنبع ترغب في تسجيل حصتها الدفترية في ماء النيل . وبما يعني رفع حصتها النظرية منه لأجل أن يجمع الحساب تاليا عند تنفيذ مصر لبند سري آخر من بنود كامب ديفيد. وهو المتعلق بتوصيل جزء من ماء النيل لإسرائيل وبيعه لها.
لقد تم إحياء هذا البند بإلحاح مؤخرا على لسان نتنياهو الطويل . وتدخلت الولايات المتحدة بقوة لوضعه موضع التنفيذ بعد أن فشلت المفاوضات بين إسرائيل وتركيا لمدها بالماء العذب ، نظرا لإرتفاع ثمن العرض التركي الذي بدأ وكأنه تعجيزي ، لاسيما عقب وصول أردوغان للسلطة ....
دول حوض النيل ... ستصبح بعد إنفصال جنوب السودان 11 دولة
آجلا أو عاجلا ستجلس الحكومة المصرية مع ممثلي أو زعماء دول المنابع للبحث في إتفاق جديد سيكون من أهم شروطه تقرير حصص دفترية معينة لدول المنبع تبيعها لإسرائيل مباشرة على أن يتم توصيل البضاعة (الماء) عبر مواسير مصر ضمن ما تبيعه مصر لإسرائيل من الذهب الأزرق.
ويبقى الخاسر الوحيد في هذه الصفقة هو السودان بدون أدنى شك ...
ولا ندري كيف ستواجه الحكومة السودانية مثل هذا الموقف الذي ربما يؤدي إلى تفويت حصيلة بيع 9 مليار متر مكعب سنويا يتنازل عنها الشعب السوداني طواعية إلى "أشقائه" المصريين في الوقت الحالي لعدم حاجته الماسة لها ... وبالتالي فلن يحصل السودان على دولار واحد من حصيلة بيع دول المنبع ومصر الماء لإسرائيل . اللهم إلا إذا تم التوصل لإتفاق ثنائي بينه وبين مصر يتعهد فيه "السقّاء المصري" بتجنيب جزء من حصيلة البيع وتحويلها للخزينة السودانية ..... فهل تتمنـّع الخرطوم (وهي راغبة) عن هذا الرزق الحلال أم تفكر بالطريقة المصرية الشهيرة :- "فتِّحْ مُخّكْ تاكُل مَلْبَنْ" ؟ .... و "اللي إختشوا ماتوا" ؟
تمساح النيل ... هل يذرف الدموع حزنا على فراق أفريقيا أم فرحا بمعانقة المستوطنين في مزارع بني صهيون؟
وبالطبع لن تسكت حكومة جوبا بعد يناير 2011م عن حقوقها المالية في حصيلة بيع ماء النيل لإسرائيل إسوة بغيرها ، لاسيما وأنها بصفتها دولة أفريقية لن تكون منوطة أو ملزمة بإتخاذ أو تبني أية مواقف محددة تجاه إسرائيل.
فهل يدخل السودان في منظومة "السَقّا المصري" و"الخَرّاجَة الأفارقة" من باعة الماء بالمتر المكعب لإسرائيل ولسان حاله يردد "الموت وسط الجماعة عرس" ؟ .... و "فتِّحْ مُخّكْ تاكُل مَلْبَنْ" ؟ ..... أم يتمسك السودان بـ "حقوقه العربية التاريخية" في العداء مع إسرائيل ، والتي لم يعد أحد من العرب الرسميين الأحياء (بمن فيهم منظمة التحرير الفلسطينية) يناصبها في حقيقة الأمر العداء؟
ربما يخرج علينا أحد الخبثاء بحل وجيه يقترح أن تبيع الخرطوم هذه المليارات المكعبة التسع من حصة السودان الذي يتنازل عنها طواعية لمصر ... يقترح بيعها لتجار الجبهة الإسلامية المصابون بعمى الألوان. ولهؤلاء الخيار في بيعها لمن يشاؤون...... وبذلك ترضي الخرطوم عزيز مصر وتمير أهلها وتزداد كيلَ بعير ... ذلك كيلٌ يسير.
التعليقات (0)