نهج الحكمة:4
الغيرة والعلماء:
الغيرة هي غريزة بشرية توجد في داخل كل انسان وتولد معه،وهي مشاعر واحاسيس نابعة من الحرص على كل ما يحبه الانسان ويحاول قدر الامكان المحافظة عليه او ابعاد الاخطار عنه حسب ما يراه هو!.
الغيرة قد تكون ايجابية وقد تكون سلبية وهي ليست مختصة بنوع معين من البشر خاصة اذا اخرجناها من حالة العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة والتي تنتشر على اوسع نطاق بين البشر ويتم تداول قصصها بين الجميع، بل الغيرة تكون واردة في جميع العلاقات الانسانية الاخرى او بين الانسان وحرصه على حفظ ما يعتقد به ايضا من عقائد وافكار واعمال،مما يعني ان الغيرة الواردة في الاحاديث المروية من قبيل قول الرسول(ص):ان الغيرة من الايمان،هي تختص بالحرص على كل ما يحض الدين عليه من ايجابيات من قبيل الحرص على تطبيق تعاليم الاسلام او التصدي لاعداء الاسلام وغيرها وليست معناه هي عمومية الغيرة.
والغيرة لا تختص بالمسلمين فحسب بل هي موجودة عند كل الاديان والمذاهب السماوية والوضعية وايضا في التجمعات البشرية المختلفة، ونلاحظها على سبيل المثال في حالات التنازع من قبيل تخوين الاخر اذا لوحظ عنه انحراف ما عن عقيدته او منهجه الفكري بل وقد يحدث احيانا اثناء مناقشة امرا ما قد تم التعارف عليه سابقا وجعله من واجبات الاعتقاد وهو قد يكون ناتج من الاجتهاد الزمني المتوارث،ويصل التصادم حدا قد يخرج من المعقول الى الجنون من خلال تدمير الاخر ماديا او معنويا حتى ولو كانت هنالك مشتركات ضمن قاعدة فكرية عريضة! كما لاحظنا ذلك في الصراع الدموي بين اصحاب واتباع المدارس الشيوعية المختلفة والتي وصلت حد ابادة الاخر وسلب كل حق وكرامة له!...هذا يعني ان جعل تهمة الغيرة سواء الايجابية او السلبية ضمن فئة او دين معين هي خاطئة، ولكن ذكرها في تعاليم الاسلام هي للدلالة على حث الانسان المؤمن ان يكون خير حافظ لتعاليم الدين وان يكون حريصا عليها سواء من التشويه او التدليس.
وهناك ذم واضح للتغاير في غير موضعها الطبيعي،فقد ورد في الحديث عن النبي محمد(ص) قوله:من الغيرة مايحب الله،ومنها ما يكره...وفي حديث للامام علي(ع) قوله في وصيته لابنه الحسن(ع):اياك والتغاير في غير موضع الغيرة...وهذا يعني ان الغيرة السلبية هي مضرة لا يجوز التقرب لها او الدعوة لها،وعلى الانسان المؤمن او المسالم المحب للخير الابتعاد عنها سواء في شعوره او في عمله...
مع كل هذا الذم الواضح للغيرة،فأنها توجد بين العلماء بدرجة مثيرة للاهتمام وتصل الى درجة مخيفة من المساوئ كالحسد او الكذب والنفاق، وطبيعي ان ذلك لا ينحصر ضمن نطاق علماء الدين بل حتى علماء المدنية بعلومها وآدابها وكم لاحظنا من صراع ظاهر او باطن بينهم في ابسط الامور حتى نجد مثلا الغيرة بين الروائيين او بين الادباء والشعراء الى درجة مسيئة للجميع! وقد ينشأ ذلك من اسباب عديدة يعود اغلبها الى الحسد من بروز الاخر وتفوقه وزعامته التي يحرص الجميع على الوصول اليها او الى الحرص على الثوابت المعلنة من المتغيرات بطريقة واقعية او غير عقلانية ناتجة من تعصب واضح!.
ومع استبعاد الغيرة بين علماء علوم المدنية في بحثنا كون ان تاثير المبادئ الدينية الاخلاقية فيهم ليست بالدرجة التي تمنعهم من ابعاد شرور النفس وانما يعتمد الابعاد عندهم خاصة عند غير المتدينين على المبادئ الاخلاقية العامة النابعة من ضمير الانسان وتفكيره،ونركز هنا على حالة رجال الدين المسلمين السالكين لنهج الحكمة التي تحاول السمو بالانسان وترفعه الى اعلى المراتب واخراجه من كل ما يحط من قيمته ناتجة من اقوال وافعال منافية للخلق السليم،فهي موجودة عند كافة المذاهب الاسلامية دون استثناء، وخطورتها انها تصل احيانا الى درجة تكفير الاخرين واستغلال تلك التهمة بطريقة بشعة للغاية مما يعني ان تهمة العداء قد تصل الى هذا المدى الخطير والذي يتجاوز حالات التحقير او الحط من منزلة وكرامة الاخر وهي موجودة عند العلمانيين ولكن بمسميات اخرى غير دينية!...
وشيوع تلك الحالات هو ناتج من طبائع البشر المختلفة المتوارثة والتي تعجز تعاليم الاسلام عن استئصال ماهو سلبي وسيء! بالرغم من ان دعاة الدين عليهم واجبات التطبيق على انفسهم قبل غيرهم كونهم عارفين بحقيقة تلك التعاليم وبخاصة نوعية الغيرة المباحة من الغيرة السلبية المحرمة! ولأنهم حاملي علوم الدين وحماة فرض واجباته وحدوده ونواهيه،فأذا كانت الاستباحة منهم فمعنى ذلك ان حالة القدسية المستمدة من التعمق في دراسة الدين وتطبيقه على الذات والاخر وايضا المكانة الاجتماعية الهامة والعلمية الرفيعة سوف تتزعزع وسوف ينتج عنها استهانة واضحة ليس فقط بالاخر بل ايضا في مصدر الغيرة السلبية والداعي لها وسوف يزيد من حالة الفوضى والتشرذم!.
فكثير من العلماء المخلصين قد فقدوا ارواحهم او مكانتهم الدينية والاجتماعية او تمت محاربة افكارهم وازيلت آثارهم! نتيجة للغيرة الناتجة من زملاء اخرين لدى السلطة او الطبقات الشعبية التابعة والتي يحرص الجميع على استمالتها الى جانبه،ويمكن لنا استعارة تذكر حالة محنة ابن رشد او السهروردي قبل الف عام تقريبا او حالة حالة محنة ائمة ال البيت(ع) ومحنة ائمة المذاهب الاربعة مع الدولتين الاموية والعباسية والناتجة من التحريض المستمر من قبل علماء اخرين! وفي العصر الحديث حالات عديدة من قبيل محنة سيد قطب والشيخ كشك في مصر او الامام محمد باقر الصدر وبقية العلماء في العراق،وكل ذلك لاجل المنافسة الغير شريفة والناتجة من الغيرة القاتلة التي لا تمت للدين بصلة ويمارسها بوعي او بدون وعي كل راغب بالسلطة والزعامة الفارغة!.
ان مجاهدة النفس هي ليست بالمهمة السهلة كما يتصورها البعض،بل هي سلوك منهج قاسي مخالف للواقع ولكن يسمو بالانسان حتى ولو كان مجهولا وفاقدا للزعامة والشهرة الفانية،ولو كانت سهلة لما رأينا كيف يسقط في طريقها من لا يقوى على الصمود من ادعياء الدين وقد يكون بعضهم مخلصا ولكن غرائزه الذاتية تفوق مجاهدته لها في رغبته بترويضها وتقويمها،وبالتالي فأن الطريق صعب على الاقل في حالة الغيرة في الموارد السلبية.
التعليقات (0)