مواضيع اليوم

نهاية ليلة شتائية (قصة قصيرة)

nasser damaj

2009-05-04 02:42:27

0

قصة قصيرة: بقلم خليل إبراهيم الفزيع

 

نهاية ليلة شتائية

 

غاص في أعماق ذاكرته.. الحمى تكاد تفتك بجسده الواهن.. استرجع صفحات من تاريخ حياته.. توسد الحلم.. حاول أن يغفو لينجو من وطأة المعاناة، لكن إحساسه بالأسى لا يلبث أن يعاوده أشد وأقسى.. إحساسه بالظلم يكاد يمزق قلبه.

شعوره بالإهمال يكاد ينهش فؤاده.. السنين العجاف في حياته أكثر من أن تحصى، والريح التي غذت مواجعـه بسمومها لا يكاد ينقطع هبوبها، فمن ذا الذي يهتم بسـهده، أو يعبأ بألمه، أو يرثي لحاله؟ غـير هذا الكلب الـذي يتمـدد غـير بعيد عنه في ذلة وانكسار، وكأنمـا يريـد التعـبير عـن مشـاركته في مأساته.. زاد من ألمه أن هناك من يريد طرده من هذا المكان الذي يأويه ويحـميه من غائلة البرد، وقسوة التشرد.. ويمنحه الحد الأدنـى من الأمــان.

أصغى لصوت الريح العاتية تجتاح أركان غرفته من كل جانب، كما يجتاح الألم كيانه.. أحزنه صوت المطر وهو ينهمر مدرارا ليخترق سقف غرفته كما يخترق الوجع أعصابه، وهو قابع في فراشه، متكور حول نفسه، لا يريد أن ينهض من مكانه، بل لا يستطيع أن ينهض، وإن نهض ماذا يستفيد من ذلك؟ لا يستطيع دفعا لما يجرى حوله، حتى كرسيه المتحرك لم يعد قادرا على الوصول إليه.. في هذه الليلة الشتائية.. لا يملك إلا أن يدفن جسده النحيل تحت لحافه الثقيل، من البطانيات القديمة التي تخاصمت مع النظافة منذ وقت طويل، حتى ليخيل للناظر أنه أمام أكوام من الأشياء البالية المتراكمة فوق بعضها، في غياب الحركة تحت هذه الأكوام، وهو يكاد لا يتنفس من ثقلها ووطأة المرض.. وشدة المعاناة.

    ما زال المطر ينهمر وهـو تحت لحافه يفكر في دنياه.

منذ عرف الحياة وهو على هذه الحال، رهين الكرسي المتحرك، بعد أن أقعده شلل الأطفال.. تسليته الوحيدة هي الحديث عن مأساته لمن يعرف ومن لا يعرف من الناس المتعاطفين معه، أو المتنكرين له ولآلامه وأحزانه.. يحدثهم عن طفولته المعذبة.. قسوة زوجة خاله الذي كفله بعد وفاة والديه ولما يبلغ العاشرة، ولأن أمه أوصت أخاها خيرا بابنها، فقد كان حفيا به، لكنه ضعيف أمام زوجته، ولم يستطع حمايته.. لم يستطع أن يدفع عنه الأذى إلى أن فارق الحياة.. تمادت زوجة خاله.. تفننت في تحويل نهاره إلى ليل حالك السواد، كانت دائمة الإيثار لأبنائها.. تناصرهم عليه في كل خلاف، وتحرمه من كل النعم التي تسبغها عليهم، مع أن أمه تركت له من الإرث ما يمكن أن يقيه مذله السؤال ومهانة النفس وانكسار الخاطر، لكن بوفاة خاله استولت على كل ما هو من حقه، حتى اضطرته إلى امتهان التسول، والاستيلاء على حصيلة تسوله أولا بأول.. ولم يجد بديلا إلا الهروب من جحيمها، ليجابه جحيم الحياة.. يرافقه كلب عقد معه صداقة، بعد أن وجد فيه رفقة تؤنس وحشته.. أصبح صاحبه الوحيد في ضرائه التي لا تبدو لها نهاية.. لم يألف الناس في مدينته أن يصاحب الإنسان كلبا، فكانوا ينفرون منه، ولعل الكلب قد عرف هذا الإحراج الذي يسببه لصاحبه، فكان يبتعد عنه عندما يمارس التسول، عند أبواب المساجد القريبة من غرفته.. مكتفيا بهز ذيله والابتعاد المتيقظ لمجابهة أي خطر قد يتعرض له صاحبه.

سأله ذات مرة:

ـ هل كل الكلاب أوفياء مثلك؟

نظر إليه الكلب مليا ثم حول نظره باتجاه البعيد، فخيل إليه أنه أراد القول:

ـ الكلب أكثر وفاء من الإنسان، ومع ذلك فليس كل الكلاب أوفياء.. هناك كلاب تعض، وأخرى تنهش جسم الإنسان بلا رحمة، وأخرى تحارب بعضها. وأخرى تبغي السلامة فقط. 

كانت صداقتهما قد بدأت منذ وجد ملاذه في هذه الغرفة الواقعة في أطراف المدينة، ضمن غرف أخرى أنشأتها البلدية لأغراض لا يعرفها، ثم أهملتها ليجد فيها بعض المحرومين.. ملجأ يأوون إليه، كلما جن عليهم الليل.. كان يأوي إليها مع كلبه مبكرا، أما بقية نهاره، فقد كان يمضيه في التسول مشدودا إلى كرسيه المتحرك، الـذي كثيرا مـا انغـرست عجـلاته في الرمال، وفي كل مرة ينقذه أحد المارة بعد أن يلفت نظره نباح الكلب إذا حلت بصاحبه هذه المصيبة.. الـتي يحـاول دائمـا تجـنب الـوقـوع فيهـا.

الصاعقة والطامة الكبرى بالنسبة إليه.. يوم جاءه ذات يوم موظف البلدية طالبا منه إخلاء المكان بعد أن تقرر إعادة إعماره.. لقد ماطله، وتحاشى اللقاء به مرة أخرى، لكن يبدو أنهم جادون في طرده من مأواه.. أين سيذهب بعدها.. حاول في أحد المرات أن ينام في الحديقة العامة فطرده حارس الحديقة، حاول أن ينام على رصيف الشارع، فاعتدى عليه وعلى كلبه الأشقياء وسلبوه ما يملك.. حاول أن ينام في الكورنيش، فأقلقه سهر الناس وضوضاء حركة السيارات، ثم مضايقات عمال النظافة وهم يعاملونه كما تعامل المخلفات التي يجب التخلص منها للمحافظة على النظافة العامة.. أين يذهب؟

     اشتدت عليه وطأت الألم.. اختلطت في ذهنه الرؤى.. تمادت الحمى في تغييبه عن الوجود.

في اليوم التالي.. أشرقت الشمس بعد ليلة شتائية عاصفة وممطرة.. الطيور تغادر أوكارها.. الأزهار تتفتح معلنة وداعها للندى المتساقط متسللا من الأعالي.. انتشرت حول المباني القديمة خارج المدينة برك صغيرة من يقايا الأمطار التي امتصت الأرض العطشى معظمها.. سمع الناس وهم في الطريق إلى أعمالهم صوت بومة تنوح دون أن يعرفوا مصدر ذلك الصوت.. تلاه نباح متواصل لكلب في غرفة مغلقة.. اتجه إليها بعض العمال.. بركلة واحدة من قدم أحدهم تهاوى باب الغرفة، ليجدوا الكلب غير عابئ بما يحيط به من مياه تكاد تخفي قوائمه.. وهو يحاول سحب البطانيات المهترئة.. بعيدا عن جثة صاحبه.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات