كثيرة كانت الآراء المتابينة حول نظرية فوكوياما بخصوص "نهاية التأريخ" والتي ورغم تراجع الأخير عنها ، فإن العديد من الكتاب والمفكرين مازالوا يبحثون في طياتها عن الأبعاد الفكرية المختلفة لها . فوكوياما حين کان يتنبأ بنهاية التأريخ كان ذلك أساسا نتيجة رؤية خاصة منبثقة أساسا من استقراء للحصيلة التأريخية التي تجمعت في السلة الحضارية للإنسان .
لكن فوكوياما لم يكن متفائلا كويل ديورانت ولا متشائما كشوبنهاور ولا حانقا ككولن ولسن ، بل كان يحاول أن يمضي في بحثه بخطى غاية في التأني حتى يقدم "من وجهة نظره" أفكارا أقل ما يقال عنها أنها تتسم بالإعتدال والعقلانية . إلا أن فوكوياما وجد نفسه في خضم البحث وقد جرفته تيارات الواقع العالمي المتباينة في اتجاهاتها وأهدافها وأسسها بعيدا عن المجريات المنطقية لبحثه حتى تيقن في النتيجة أنه قد بنى حصيلته واستنتاجه للأمور على حيثيات مستندة على ما أفرزه ويفرزه الواقع السياسي والفكري والإقتصادي والإجتماعي ، وهو يعني بالضرورة الإنسياق ضمن تداعيات اللعبة الحضارية بين بني الإنسان . وقد لا يكون السبب الحقيقي الكامن لتراجع فوكوياما عن نظريته هي في إحساسه بالخيبة والإخفاق في استنطاق التأريخ الإنساني والحكم بإنهائه بقدر ما هو كامن في إحساسه بانتصار البعد الإنساني في أعماق فكره ووجدانه على الأبعاد الوهمية التي رسمتها له مخيلته المتأثرة بحيثيات الواقع الموضوعي كما ألمعنا إليه من قبل. وفي الوقت الذي يشار فيه إلى احتمال أن يقوم "هينتينكتون" بمراجعة آرائه بصدد "صراع الحضارات" فإن الأمر مازال سابقا لأوانه وقد يكون خلطا بين رأيين ليس من السهولة جعلهما على سكة واحدة ، سيما وأن قراءة بعض الأحداث العالمية المهمة "نظير أحداث 11 سبتمبر وحربي أفغانستان والعراق" على إنها حاصل تحصيل عملية صراع الحضارات كما يشاء السيد هينتينكتون ، يعطي شيئا من المصداقية ووضوح الرؤية لهذه النظرية . وبين فوكوياما المتراجع عن آرائه وهينتينكتون المراهـَن "بفتح الهاء" على آرائه من قبل الكثير من المراقبين والمحللين ، يطل علينا المرجع الديني والمفكر العراقي الكبير الراحل "محمد باقر الصدر" ليقوم بعملية إعادة استقراء للتأريخ من خلال البحث في"السنن التأريخية" ودراسة عوامل تأثيرها وانعكاسها على مجمل النشاط الحضاري للإنسان ، ويشبه العلامة الصدر عملية البناء الحضاري للمجتمع الإنساني من حيث نشوئه وتطوره وانتهائه وتلاشيه بالإنسان نفسه ، فكما أن للإنسان عمر محدد من السنين يبدأ بولادته وينتهي بوفاته ، كذلك الأمر بالنسبة للمجتمعات وحضاراتها . والصدر حين يسترسل في بحثه عن السنن التأريخية ، فإنه يقوم بتحديد تلك السنن من حيث منطلقاتها الإيجابية والسلبية ، فكما أن السنن الإيجابية تساهم في البناء والتطور والرقي والإزدهار ، فإن السنن السلبية على العكس من ذلك تماما تعمل على هدم البنيان الحضاري وتفتيت التماسك الاجتماعي والأسري . وتأتي أهمية هذا المفكر البارز والقدير من حيث دقة ملاحظاته وقوة حجته وعمق البعد الفكري الذي يصوغ عليه آرائه ، إنه منفتح تمام الإنفتاح على كل المدارس والاتجاهات الفلسفية والفكرية الأخرى على الرغم من کونه رجل دين عاش واستشهد من أجل عقائده الدينية . إن الصدر حين يناقش الفلسفة والفكر الماركسي في كتابه "فلسفتنا" فإنه ينبه إلى البعد الإيجابي لمسألة الإشتراكية ويقف عندها كنقطة لابد من الثني عليها ومنحها الاهتمام الكافي . والأمر سيان حين يبحث في ذات الكتاب في الفكر الليبرالي ويقف عند مسألة الحرية ويرى فيها قبس إيجابي لابد من الإلتفات إليه . إن الإشارات الإيجابية الساردة الذكر للعلامة الصدر تبين بوضوح أهمية قضية إلتقاء الأفكار واستفادتها من بعضها البعض في بنائه الفكري ، على العكس من التيارات الفكرية الإسلامية المتشددة التي ترى في إلغاء الآخر سر ومعنى بقاؤها هي في الساحة . ورغم أن فوكوياما حين كان يدق بفكره ناقوس نهاية التأريخ فإنه كان يتنبأ بنهاية الحضارة الإنسانية على الكوكب الأرضي ، في حين إن هينتينكتون من خلال "صراع الحضارات" يريد أن يقول أن هناك حضارة ستكون لها الغلبة والنصر فيما ستكون غيرها مجرد ظلال واهية ، أما المفكر الصدر فعلى النقيض من كليهما يؤكد استمرار المسيرة الحضارية للإنسان من خلال الترافد والالتقاء .
التعليقات (0)