منذ ما يفوق أربعة عشر قرنا جرت محاورة عميقة الدلالات بين هرقل عظيم الروم وبين أبي سفيان التاجر القادم من بيداء قريش وبين ضلوعه يومها حقد كبير على دعوة الإسلام لو تفرق على أهل الأرض جميعا لكفاهم .
كان موضوع المحاورة رسالة النبي الجديد ودعوته وهديه بين الناس .
ختمها هرقل بمقولته الشهيرة " لئن كان ما تقوله صدقا لسوف يملك محمد هذا ما بين قدمي هاتين" ، ولا شك أن هرقل عندئذ كان يصدر في قوله ذاك عن تقدير عميق للعوامل المتحكمة في حركة التاريخ ، إذ هي عوامل ثابتة لا تتغير ، فلم ينظر إلى مظاهر القوة التي تحيط بعرشه من كل جانب موحية بأن عز ملكه لا يمكن بحال لشمسه أن تغيب ، ولكنه نظر إلى الرقي الأخلاقي للدعوة الجديدة وإلى سموها الروحي مما لا تصمد قوة امبراطوريته المادية أمامه ، فقال ما قال وكان أن تحققت نبوءته لا حقا ، تكررت بعد ذلك حوادث الصراع بين حضارة القوة وقوة الحضارة وتنوعت صوره ويحتفظ التاريخ بواحدة من أبشع تجليات هذا الصراع ، تلك التي رسمها التتار بدماء المسلمين وأشلائهم ، يروي ابن الأثير ، وقد تمنى لو أنه مات قبل أن يؤرخ بقلمه لهجمية حضارة القوة ، أن التتار عاثوا في بخارى فسادا واغتصبوا نساءها وأبادوا أهلها وقتلوا سبعين ألف إنسان في سمرقند وفي مرو ذبحوا سبعمائة ألف في يوم واحد ، وأنهم حين دخلوا بغداد عام 656هـ قتلوا من قدروا عليه حتى سالت ميازيب بغداد بالدماء ، وبلغ عدد القتلى في بغداد وحدها مليوني نفس حصدوها في زمن لا يتعدى أربعين يوما .
ومع كل ما فعله التتار لم تكد سنة 663هـ تحل على دولتهم في المشرق ، وهي السنة التي وافقت وفاة قائدهم هولاكو، حتى تضعضع كيانهم وخبا بريقهم فاعتنق بعض ملوكهم الإسلام على نحو ما تذكر الكثير من المصادر التاريخية .
وفي الأندلس عمرت الحضارة الإسلامية ثمانية قرون ولم تفلح محاكم التفتيش الرهيبة في محو مآثر المسلمين الخالدة بها .
إن القوانين التي نستخلصها من دروس التاريخ أن مصير حضارة القوة إلى زوال مهما سطع نجمها وأن القوة الحقيقية لكل حضارة إنما تكمن في نبل القيم التي تدافع عنها ، وأن البشرية إنما تسلس قيادها للأمة التي تحمل على عاتقها مسؤولية تطبيق مشروع أخلاقي ينقذ الناس جميعا من الاستضعاف والقهر والعبودية المطلقة للمادة ، وعلى ضوء هذه القوانين نستطيع تصور مآل حضارة القوة التي تسود العالم اليوم ، بقيادة أمريكا ، متذرعة تارة بنشر الديموقراطية وأخرى بمحاربة الإرهاب .
مع انهيار الاتحاد السوفياتي اعتقد منظر الغطرسة الأمريكية فوكوياما أن الليبرالية أرقى ما يصله الكمال البشري ومن ثم أعلن نهاية التاريخ لصالح أمريكا والعالم الغربي غير أن نظريته لم تلبث طويلا حتى تهاوت ، وانطلق الغرب الذي تراوده أحلام السيطرة محاولا فرض هيمنته على العالم بقوة الحديد والنار ، ومن الغرب نفسه انطلقت أصوات التحذير من مغبة الاستعمال المفرط للقوة ، يقول بريجنسكي في كتابه" خارج السيطرة " " إن العالم الذي جاء بعد الشيوعية عالم خطر متوتر فيه حرية مطلقة توجد أنانية وصراعا " وانطلقت أصوات ثلة من الحكماء من أمثال سبيكر الألماني وأرنولد توينبي وشبنجلر وهولن ويلسون منذرة بأفول الغرب وانهيار حضارته ، وقد تنبأ هؤلاء الحكماء بصورة هذه النهاية فتوقعوا أن يضرب الزلزال بعض المواقع النووية مما يؤدي إلى كارثة أخطر من كارثة " تشيرنوبيل" مئات المرات ، وتوقعوا أن يتسع ثقب طبقة الأوزون مخلفا غرق الأرض في المياه كما توقعوا نشوب حرب نووية تعيد البشرية إلى الحياة البدائية ، وهي توقعات تعبر في مجملها عن ضجر شرائح كثيرة في الغرب من هيمنة حضارة القوة وتطلعها إلى رشد حضاري يعيد للكون استقراره ويملك ما بين قدمي أمريكا كما قال هرقل ذات يوم . ولعله ليس من قبيل الصدقة أن يرى فوكوياما في الإسلام تحديا سافرا للغرب ولقيمه ولا من قبيل الصدفة أن يقول هنتجتون صاحب نظرية صدام الحضارات أن الإسلام أعظم خطر يهدد الغرب ، ذلك أنهما أبصرا ما أبصره هرقل إذ الحرب الحقيقية اليوم حرب قيم لا حرب دبابات
ibnzaydoun-1@hotmail.fr
التعليقات (0)