صديق عزيز ، استشف أمس ، من كلمات منشور صغير لي ، بأني " معصب " ، فاكتفى بأن رد على تحيتي بأحسن منها ، وتوارى خلف حروفها ، وهو الشفاف المرهف اللماح ..
لكني ، أود طمأنتك بأني لست كذلك يا صديقي ..
فلا شيء من حولنا يستدعي العصبية أبدا ، والحمد لله ..
وكل ما نحن فيه لا يبعث على ذلك مطلقا مطلقا ..
كبف ؟! ولم ؟! وما سبب العصبية في هذه الأيام الفضيلة؟! وما الداعي إليها مادمنا نتمتع بكل هذا الهدوء الطاغي في قلب العاصفة والبركان ، مما أفرغ الحصار من مضمونه وأهدافه وأبطل نتائجه الباهرة ، وها نحن نتنعم بنعيم ينهمر علينا بالقطارة الضخمة ، كما ننعم بالمساعدات الهلالية المتلاحقة ، وبتوفر المواد الغذائية والطبية والضرورية للعيش المترف ، وننعم بحرية الحركة نحو السماء ، وفي كل الاتجاهات بمساحة شاسعة تصل حدود عشرة كيلو مترات مربعة كاملة مكملة ..
وفوق ذلك ، فإن من يرغب أن يسافر إلى آخرة أخرى فما عليه إلا أن يتجاوز تلك المساحة بأمتار قليلة ، حينها سيلقى كل رحابة وتقدير وحمية مجنونة لتحقيق رغبته وبسرعة قياسية ..
سامحك الله يا صديقي العزيز ، أنا معصب ؟! العوذ بااله ..
ثم ، ثم ، لم العصبية يا صديقي ونحن في ظل ظروف حيانية هنيئة رغيدة ، فقد انتخمنا من توفر كل الخدمات الحكومية والمعونات والمساعدات وأرهقونا بالدعم اللامحدود لنا بالرجال والعتاد حتى ضاقت الأرض بتخزينه ، كما ضاقت بالمخزون الغذائي الاستراتيجي من طحين وتمر وحلاوة ورز ، فأكل الدود ما أكل وسحب النمل ما سحب ونقر الطير ما نقر .. وإنك لو زرتنا لوجدت كل شيء عندنا أكثر بكثير مما نحتاج ، بفضل الكد والدأب وحب العمل والإنتاج والتفاني في تأمين رغيف الخبز ولو كان ممسوخا ، فانجبرنا أن ننفق الطريف والمتلد على الخوافي والقوادم مما تشتهيه النفس من المتوفر من متاع الدنيا الزائل ، والذي يصلنا من عفرين التي صارت ( حاضرة العالم ومركز الكون ) وهي أنفع لنا من كل عواصم العالم ومدنه ، بما فيها مدينة " جنيف " ..
وأحب أن أطمئنك أيضا ، أننا انغمرنا بالدماء الزكية بدل الماء ، تلك التي نزفت من مئات الشبان والكهول والأطفال والنساء ، وهؤلاء هم الذين أحبوا أن تتمزق أجسادهم كي يلحقوا بأحبتهم في المقابر المتعددة المتكاثرة كنتيجة طبيعية لنظرية ملء الفراغ بعد أن توقفت كل مشاريع البناء والعمران ، فشهدت المقابر إقبالا واتساعا منقطعي النظير ..
وربما لم تكن المقابر لتستوعب كل هذا الإقبال عليها ، لولا أن غادر البلدة ـ طوعا ـ آلاف من أبنائها البررة الذين أفسحوا في المجال لإخوانهم وأحبتهم القاعدين ، ولم يزاحموهم في أضيق الظروف ، وآثروهم على أنفسهم ، وتركوهم ليتمتعوا براحتهم ، فجزاهم الله عنا كل خير ..
ولو تمشورت ـ يا صديقي العزيز ـ في شوارعنا لما أزعجتك سيارة تتحرك ، ولما تغبر حذاؤك ببقايا مواد البناء ، ولأرهفت السمع لهارمونية متناغمة من سكونية الحياة ، وهدأتها الكامنة في بساطتها البدائية ، وإحيائها تراث الآباء والأجداد ، وأجداد أجداد الأجداد ، سواء في أنواع الطعام النباتي ، أو في الملبس الكالح البالي الفاخر ، أو في طرائق تبديد ظلام الليل الرومانسي ، أو في وسائل وأدوات الغسيل والتنظيف وتحضير الطعام ، كما في التداوي الناجع بالأعشاب والكي بالنار والقص واللصق وبتر الأطراف بالمنشار بعد تخدير وهمي كاف ، وأحيانا ، يتم إجراء العمليات الجراحية على قارعة الطريق ليتأسى المارة بقوة وصبر هؤلاء ..
أرأيت يا صديقي ، النعم التي ننعم بها من ضيوف جيراننا ، فهم لا يقصرون معنا ، ولم يتعسفوا في أحكامهم علينا ، إذ قالوا لنا بمنتهى الصراحة والوضوح : إنهم لا يستحلون منا سوى دمنا ومالنا وعرضنا فقط .. وقالوا : إنهم لو استطاعوا لمنعوا الهواء عنا أسوة بكل الممنوعات الأخرى .. أرأيت ـ يا صديقي ـ كيف أني لا أجد متسعا من المشاعر كي أعكرها بشيء من العصبية أو العصابية أو التعصبية أو العصابة (بكسر العين) المتعصبة العصيبة ظلما وعدوانا ، أو العصابة (بضم العين) المعصوبة زورا وبهتانا ..
٣٠١٣/١٠/٢٩
التعليقات (0)