مواضيع اليوم

نقش على جدران الزنازين مذكرات الاعتقال السياسي

إدريس ولد القابلة

2009-10-06 03:47:16

0

توطئة


عندما علمت أن الكوميسير السابق، عميد الفريق الفستقي يشارك في اجتماعات خاصة بحقوق الإنسان أو في وفود رسمية ضمن تظاهرات بخصوصها, بلغ بي التقزز أعلى درجاته، وازداد تقززي عندما علمت أنه كان ينوي تأسيس هيأة تعنى بحقوق الإنسان. ومنذ ذلك الحين فكرت جديا في نشر شذرات من ذكريات محنة درب مولاي الشرف والاختطاف والاعتقال السياسي. لا أريد من وراء هذه الصفحات التشهير والمس بأي كان، وإنما غايتي توضيح بعض ما " كان" حتى لا يتكرر ثانية. إنها مجرد محاولة تذكر بعض الويلات لتحاشيها في ما يستقبل من الأيام. إن ما سأتحدث عنه هو جزء يسير مما حدث في معتقلات أجهزة الأمن قبل أن يفتضح أمرها سواء على المستوى الوطني أو الخارجي. وما سأذكره، أكيد أنه أقل هولا مما جرى في تازمامارت و " الكومبايكس" و " دار المقري " والفيلات السرية ومقر " الديستي " في الرباط وقلعة مكونة وغيرها، لكنني أريده شهادة من أحد مواقع تكريس الهول ببلادنا آنذاك: درب مولاي الشريف الذي كان فضاء الفرقة الوطنية للشرطة القضائية. قال أحد المفكرين إن الذي يسمح بالطغيان هم أفراد الشعب وفئاته، فإذا كان المواطنون على درجة من الوعي ومن الاقتناع لخدمة الصالح العام والسعي لخير البلاد، فلن يسمحوا بتاتا بأن يستبد بهم أحد مهما كان، لأن من يسكت على الاستبداد لابد وأن ينكوي بناره يوما ما و " الساكت عن الحق شيطان أخرس".

بداية البداية


قضيت أول ليلة في مخفر الشرطة بالخميسات في زنزانة ضيقة مظلمة ومبتلة وحاولت استحضار تعليمات كتيب: كيف تواجه القمع البوليسي؟" الذي كتبه عبد الرحمان نودا.


التهمة: المس بأمن الدولة.


اتهمت ضمن مجموعة من أبناء هذا الوطن بالمس بأمن الدولة الداخلي والانتماء إلى منظمة سرية غير مشروعة " إلى الأمام "، فماذا كان ذنبنا ؟ هل محاولة صنع مستقبل؟ هل الرغبة في تغيير واقع مر مزر ونكد بالنسبة لأغلب فئات الشعب ؟ هل عدم قبول الذل والظلم والإذلال والدوس على الكرامة ؟ إذا كان الأمر كذلك ، فأغلبية المغاربة متهمون بالمس بالأمن الداخلي مثلنا، وكان على جلادي درب مولاي الشريف فبركة محضر إدانة لكل واحد منهم.


" مازالت عبارات جلاد الخميسات عالقة بذاكرتي " الحفلة غادي تبدا...من الأحسن لي عندوا ما يقول خصوا يقولو وإلا غادي يرجع عندي باش نكرمو مزيان".


كان عبد الحميد أمين وعلي أفقير أول شخصين تعرفت عليهما في البداية . وبعد شهور من استقطابي إلى المنظمة كان اللقاء مع الشهيد عبد اللطيف زروال وأبراهام السرفاتي في أول ندوة وطنية حضرتها، وبعد ذلك استمرت علاقتي باللجنة الوطنية عبر إدريس بنزكري ( رئيس منتدى الحقيقة والإنصاف سابقا و الكاتب العام للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان حاليا) تارة وعباس المشتري تارة أخرى.وكل هؤلاء وغيرهم من الرعيل الأول للحركة الماركسية اللينينية المغربية أمثال الصافي وعبد الله زعزع وعبد اللطيف اللعبي، كانوا يشكلون العمود الفقري " لجيل التأسيس". أما فيما يخص مناضلي منظمة " 23 مارس " فكنت على علاقة وثيقة مع مصطفى أنفلوس وحسن السملالي والدغراجي وآخرين، وذلك في إطار التنسيق بين المنظمتين على صعيد منطقة الغرب( القنيطرة ) من أجل تدعيم أسس الوحدة والتخطيط للنضال الموحد في أوساط الشبيبة المدرسية والطلابية.


بدأت الاعتقالات الأولى في صفوف الحركة إذ تم إلقاء القبض على مجموعة من الرفاق من ضمنهم عبد اللطيف اللعبي وعبد الحميد أمين ( من تنظيم " أ" إلى الأمام ) وأحرزني وأسيدون وبلفريج ( من تنظيم "ج" الذي سيحمل اسم " لنخدم الشعب".).
اختطاف عبد الحميد أمين .


تم اختطاف عبد الحميد أمين من مقر عمله بالمكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي للغرب حيث كان يشغل منصب مهندس هيدروفلاحي، وزارني ذلك اليوم علي أفقير. كنت نائما، وكانت الساعة تقترب من الواحدة زوالا عندما رن جرس الباب..كان الطارق عليا. أخبرني أن عبد الحميد أمين اختطف من مكتبه، مثلث صورة عبد الحميد أمامي. إنه أول شخص تعرفت عليه في إطار " تنظيم "أ" آنذاك ( منظمة إلى الأمام )وهو الذي مهد لي الطريق للانضمام إليها. وأضاف علي أفقير أنه يبدو أن هناك اعتقالات في الرباط والدارالبيضاء ، وكان هو كذلك مستهدفا إلا أن عبد الحميد أخبره بالأمر ونصحه بالفرار على التو ومغادرة مكتبه، حيث كان هو كذلك مستخدما بنفس الإدارة .


وفعلا سنة 1973 كانت الحملة الأولى للاعتقالات التي طالت مناضلي الحركة الماركسية اللينينية وضمنها اعتقل الشاعر عبد اللطيف اللعبي كان آنذاك أستاذا بثانوية الليمون. كما ألفي القبض على سيون أسيدون ( رئيس جمعية ترانسبرنسي انترناسيونال سابقا) وأحرزني وبلفريج ( ابن مسشتار الملك آنذاك) وآخرين... وكان أبراهام السرفاتي مستهدفا كذلك إلا أنه استطاع الانفلات واضطر إلى العيش في السرية للاختفاء عن أنظار البوليس، وهذا ما كان وبعد مدة اعتقدت المصالح الأمنية أن السرفاتي استطاع مغادرة المغرب والسفر متسترا إلى الخارج.


بدأنا علي أفقير وأنا، نحلل وندقق في الأمور محاولين الاستنتاج والاستقراء والتقييم لبلورة معالم رؤية واضحة لاستمرار العمل في المنطقة رغم الاعتقالات، وهكذا تم الاتفاق على طرق الاتصال وسبل التواصل مع باقي الرفاق ومع اللجنة الوطنية ما دام عبد الحميد سيغيب لا محالة عن الأنظار مدة لا يعلمها إلا الله...وهذا ما كان، وغادر عي أفقير القنيطرة واختفى عن الأنظار حتى جاءني خبر اعتقاله هو كذلك.


أشرفت الساعة على الرابعة زوالا واستأذن علي أفقير ثم انصرف ولم أره إلا بعد سنوات في السجن المركزي بالقنيطرة بعدما فرضنا فرضا فك العزلة والحصار على مختلف مجموعات المعتقلين السياسيين هناك، حيث فطن أغلبهم بحي " أ" 1 وحي " أ" 2 وحي "ج".
غاب عني علي أفقير وعبد الحميد أمين واتصل بي إدريس بنزكري واستمر العمل والنضال وتوسيع الهيكلة التنظيمية بالمدينة والمنطقة والتفكير في أساليب نضالية من شأنها تقوية التنظيم في الوقت الذي بدأت فيه آليات الاختطاف والاعتقالات تدور بسرعة خارقة.

نقش على جدران الزنازين

 

اعتقلت على يد الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بمساعدة أشخاص تابعين للأمن بمدينة الخميسات والقنيطرة. في أحد الأيام الخريفية بالخميسات استدعاني مدير ثانوية موسى بن نصير ، حيث كنت أدرس الرياضيات ، لحضور اجتماع للمجلس التأديبي. بعد توديع المدير، وبمجرد وصولي إلى مخرج الثانوية، كان رجلان واقفين أمام الباب، يرتديان جلابيب صوفية وكانا منتصبين أمام الباب في وضعية تدعو إلى الاستغراب. عندما اقتربت منهما أتاني واحد عن اليمين والآخر عن الشمال إلى حد ملامستي. قال أحدهما ستأتي معنا خمس دقائق ثم تذهب حال سبيلك. وإذا بسيارة سوداء تستقر بجوارنا ويفتح بابها الخلفي، وكان بها شخصان، السائق وآخر مستقر بالمقعد الخلفي...دفعني الاثنان نحو الباب الخلفي المفتوح واستقر أحدها بجانبي والثاني المقعد الأمامي وانطلقت السيارة بسرعة البرق..خيم السكون على النظرات وكانت الأنفاس تسمع بوضوح غريب غير معتاد رغم ضجيج محرك السيارة..وقطع هذا السكون صوت أحد رجال الحال الغلاظ، وكانوا كلهم أقوياء البينة أجسامهم ضخمة أكثر من اللازم.


هل أنت فلان.


أنتم عارفون أنني هو أنا فلماذا السؤال؟


نطق السائق: راسو سخون هذا...دابا نشوفو واش غادي يبرد ولا لا ؟


قالها وهم بلكمي لكمة مباشرة إلى الوجه اصابت جبهتي فتألم، فهم الجالس على يمني بدوره للكمي فأوقفه المستقر على يساري قائلا:
" باركا..سوف تثيرون الانتباه، إنه معروف في الثانوية وفي المدينة.


" أين تأخذونني قلتها وأنا هادئ بمكاني دون حركة...ساد صمت ثم نطقت الكتلة اللحمية الضخمة التي كانت تنازعني جزءا من المقعد الخلفي.


لا علم لنا....قالوا لنا جيبوه فين ما كان وصافي...هذا كل ما في الأمر.

 

وما أن ولجت السيارة باب الكوميسارية حتى تحولت الكتلة اللحمية الضخمة إلى كائن آخر غير ذلك الذي كلمني بلطف منذ قليل، فشرع في السب والشتم والإهانة.


تم اختطافي إذا واقتيادي إلى مخفر الشرطة بالخميسات وأودعت بمكتب دون أن يكلمني أحد رغم وجود رجال الحال بكثرة غير معتادة، وكلما سألت أحدهم كان الجواب واحدا:" عندهم ستعرف كل شيء..، وكان نفس الشخص هو الذي يجيبني في كل مرة، إنه أكبرهم سنا، أما الآخرون فلم ينبس أحدهم ببنت شفة ولو مرة واحدة.


حضر أحد رجال الأمن بلباس مدنس، أصدر أوامره لأحد الحاضرين فأخذوني مرة ثانية إلى السيارة تحت جنح الظلام..ركبت بالمقعد الخلفي محاطا بشخصين غير اللذين تكلفا باستقبالي أمم باب الثانوية..تحركت السيارة فتبعتها أخرى..بعد لحظة قصيرة أيقنت أنهم يتوجهون إلى مقر إقامتي بالخميسات لا محالة للتفتيش.


أين هي غرفتك ؟....أشرت إليها صامتا.


افتحها سنقوم بتفتيشها..وقلت لهم: هل لديكم أمر رسمي بذلك..قبل أن أنهي كلامي صفعني أحدهم...أراد إعادة الكرة فرفعت يدي المكبلتين لصده فانقض علي ثلاثة من الحاضرين..اتجهوا مباشرة إلى الركن الذي توجد فيه الكتب والأوراق واستمروا في تقليبها والعبث بها أكثر من ساعة...أخدوا بعض الكتب والأوراق المرقونة والمخطوطات من ضمنها أعداد من نشرة ّ إلى الأمام " ونشرة " الشعلة " وهو منبر خاص بالنقابة الوطنية للتلاميذ آنذاك وبعض أعداد نشرة " الوحدة " وهي نشرة داخلية لمنظمة " إلى الأمام" تعنى بالتنسيق مع فصائل الحركة الماركسية اللينينية المغربية..وفي كل مرة كان يعثر أحدهم على وثيقة مهمة كان يسألني:" هذا أشنو "؟ لكنني أدركت عقم المناقشة والرد وفضلت الصمت، وكلما استمر صمتي زاد غيظ رجال الحال وكثرت توعداهم....وعلمت هول ما ينتظرني وحاولت جاهدا لأستعد نفسيا باستحضار تعليمات كتيب " كيف تواجه القمع البوليسي ؟" الذي كان أعده الرفيق عبد الرحمان نودا والذي كان مثالا رائعا في الصمود بدرب مولاي الشريف.



الليلة الأولى بمخفر الشرطة

 

قضيت الليلة الأولى بمخفر الشرطة بالخميسات، بزنزانة ضيقة مظلمة ومبتلة على الدوام من جراء جريان صنبور معطل. في اليوم الموالي صباحا شاهدت من كوة باب الزنزانة أحد الجلادين، قصير القامة ذميم الوجه، ملامحه لا تبعث على الارتياح بتاتا، آتيا بحقيبتين...حبال. يلقي بمحتواهما على الأرض..حبال .أسلاك. ...قماش وسياط " العصبة " في ساحة المخفر على مرأى عيون ثلة من البشر، ضيوف كوميسارية الخميسات ذلك اليوم...أخرجوني من الزنزانة وأوقفوني في الصف الأول لمعاينة المنظر المرهب عندما هم الجلاد بمناداة أول ضحاياه.


صفعة وركلة..." لا تريد أن تتكلم ...سوف ترى...آنذاك حضر أحد المفتشين...شاب أنيق..أظن أنه المنصوري حارس مرمى الاتحاد الزموري للخميسات آنذاك..اقترب مني قائلا للجلاد:" هذا لا، ارجعوه إلى السيلون ".


وتابعت مشهد التعذيب من كوة باب الزنزانة الحديدي السميك...إنه كان آنذاك مشهدا يوميا لفرقة الاستنطاق بكوميسارية الخميسات. كانت خطة للترهيب والتخويف لا يفلت منها أحد، ما عدا القليل، أصحاب التدخلات والتدويرات. ما زالت عبارات الجلاد، قصير القامة ذميم الوجه، لاصقة بذاكرتي بالحرف الواحد:" الحفلة غادي تبدا..من الأحسن لي عندوا ما يقول خصوا يقولو وإلا غادي يرجع عندي باش نكرمو مزيان.."


...في حدود الساعة العاشرة من ذلك اليوم المشؤوم حضر أحد الضباط واقترب من الزنزانة وأمر الشرطي بفتح الباب...كبل يدي بالأصفاد ووضع عصابة سوداء على عيني وقادني إلى مكان لا أعلمه..إلى ذلك الحين يمكن وصف المعاملة التي عوملت بها بالقسوة والإهانة والدوس على الكرامة والسب السخيف وليس بالتعذيب رغم بعض الصفعات والدفعات هنا وهناك.
علاوة على عصابة العينين ألبسوني جلبابا فضفاضا فأحكموا قبه" على رأسي ثم أودعوني بالمقعد الخلفي لسيارة بين شخصين ، فانطلقت مسرعة لا أعرف إلى أين؟

بدأت تراودني أسئلة كثيرة. كيف وصلوا إلي ؟ عبر رفاق القنيطرة أو رفاق الرباط أو رفاق الدار البيضاء ؟..وإلى أين أنا منقاد؟ ....هل هو اعتقال أم اختطاف ؟

 

من " بيجي " القنيطرة إلى درب مولاي الشريف.

 

أخرجوني من زنزانة مخفر الشرطة بالخميسات وألبسوني جلبابا صوفيا بعد أن عصبوا عيني وقيدوني، ثم أحكموا القب على رأسي وأودعوني سيارة صغيرة بين شخصين ضخمي البنية وكان عمري آنذاك 22 سنة.

  مدخل درب مولاي الشريف بالدار البيضاء


بعد مدة من السير ، بين الساعتين والساعتين والنصف توقفت السيارة وسمعت السائق يتكلم مع أحد المارة سائلا إياه عن " البيجي " في تلك اللحظة بالذات وصلت إلى أنفي رائحة مألوفة لدي، كنت أشمها منذ طفولتي ، إنها رائحة نهر سبو ، فعلمت أنني بالقنيطرة. قال السائق لذلك الشخص:
" أجي ما تخافش..ابغينا نسولوك".


لاشك أن ذلك الشخص تملكه الرعب عندما أبصرني بين الشخصين الضخمين مغطى الرأي لا أكاد أبان، ولا محالة أنه تعرف على راكبي السيارة وأيقن أنهم من أصحاب الحال، لأن أغلب رجال الحال ببلادنا لاسيما آنذاك، كانت سيماهم على وجوههم، فهم لا يستطيعون إخفاء صفتهم رغم أنهم ينعتون بالبوليس السري.


توقفت السيارة ولاحظت أن معاملة رجال الحال صارت أكثر خشونة..ربما كان أحد المسؤولين واقفا وأرادوا إظهار " حنة يدهم" وأنهم قائمون بالمطلوب وزيادة. كنا على عتبة مقر " البيجي " الكائن بشارع الاستقلال ، والذي هو حاليا بناية مخصصة لعيادة الدكتور السلجماسي وشقق للسكن، وهي مفارقة غريبة ....إن المكان الذي يستعمله الآن الدكتور للتخفيف عن آلام البشر كان بالأمس فضاء للتعذيب وإلحاق الأذى بهم...إنه مكان تلطخ أكثر من مرة بدماء المعتقلين في عهد الكوميسير الغنيمي والكوميسير الطرفاوي وزبانيتهما...وأشهر الجلادين آنذاك كان ملقبا " بالوحش" وكان لا يفقه إلا في التعذيب والرفس والركل...وقيل إنه كان مقاوما، وفعلا قاوم ضربا وتعذيبا وتنكيلا في المعتقلين الذين قضوا آنذاك مدة " بالبيجي" قبل نقلهم إلى درب مولاي الشريف...وإذا لم تخني الذاكرة فإنه كان ضمن فرقة الضابط جسوس آنذاك، وأجمع المعتقلون السياسيون، ضيوف " البيجي" على وصفه بالمتجهم النظرة تبدو عليه إمارات البغاء والغلظة.


أدخلوني على الضابط جسوس وهو محاط بزبانيته ومن ضمنهم " الوحش"، كان الضابط النحيل بامتياز يبدو لي كأنه قطعة من الحجرة الصماء الباردة الملامح لولا " شطحات " " الوحش" الذي ينط هنا وهناك لينتهي به الأمر إلى قلع معطفه وشمر على ساعديه، وما هي إلا لحظة حتى دارت الأسئلة سريعة متلاحقة اسمك..سنك...مهنتك...عنوانك....سوابقك...اخلع الحزام ورابطة الحذاء...اقلع النظارة...اعترضت على خلع النظارة لأنها كانت بالنسبة لي ضرورية..فهجم علي " الوحش" لكما وصفعا قائلا:" هذا راسو سخون...إنه لا يدري ماذا ينتظره ؟


لم أعد أذكر بالضبط المدة التي قضيتها ضيفا عند " البيجي «، لكنها كانت كلها حافلة بحصص التعذيب ولاسيما في القسط الأخير من الليل.


وجاء اليوم الموعود...نادوا علينا في الصباح وأخرجونا إلى الساحة أمام الزنازين، كبلوا أيدينا وساقونا نحو سيارة، داخلها كان يجلس اثنان من " السيمي " قرب الباب الخلفي...كنا عشرة ونيف...عصبوا أعيينا وانطلق المحرك نحو المجهول...حالة سيئة من الخوف كانت تركبنا..كنا نجلس القرفصاء صفر الوجوه ناكسي الرؤوس.


قبل أن يضعوا " البانضة " على عيني رأيت عناصر " السيمي " وهم ينظرون إلينا نظرة مليئة بالشفقة والرثاء العميق لأنهم كانوا يعلمون علم اليقين " أين نحن ذاهبون " ويعرفون حق المعرفة أن درب مولاي الشريف هو فضاء للعذاب والتنكيل، ولعل هذه آثار الشفقة في قلوب بعضهم رغم التظاهر بالتحجر الشديد والقسوة التي كانوا يتعاملون بها معنا.


كنا مكدسين في السيارة كتلة واحدة يوحدنا الأم والإرهاب الشديد الموجه ضدنا..بعد برهة من الصمت ، عندما انطلقت السيارة نطق أحد السيمي " لإلقاء التحذير الأول والأخير : من يفتح شفتيه بكلمة سيكون مصيره الضرب دون رحمة ولا شفقة .
وبعد حوالي ساعتين ونيف من السير، انطلقت خلالها السيارة مخترقة مدينة القنيطرة ثم سلا فالرباط...تقف تارة وتسرع أخرى...لا محالة أن أناسا شاهدونا لكن دون أن يعلموا أن السيارة الموبوءة تحمل في جوفها منكوبين مختطفين مقتادين إلى حيث لا يدرون..لا هم ولا ذويهم.


وقفت السيارة. في تلك اللحظة تجمد الزمن في ذهني من الخوف...أمرونا بالوقوف فلك أكد أسمع إلا صدى الخطوات وصوت الأصفاد التي تكبل الأيدي..نزلنا الواحد تلو الآخر ونحن نتعثر..صعدنا أدراجا معدودة وبمجرد ولوجنا الباب أوقفونا الواحد جنب الآخر ووجوهنا إلى الحائط..وبدأ الصراخ والسباب والأوامر والأوامر المضادة والتهديدات والوعيد...وصلنا إلى درب مولاي الشريف.
لحظات في أركان درب مولاي الشريف

منذ الوهلة الأولى اكتملت الصورة في خاطري...تصورت أن عصابة من قطاع الطريق اختطفتنا من منازلنا ونزعتنا من ذوينا وجاءت بنا إلى فضاء مظلم منسي، ركح الإذلال والتحطيم واغتيال الصفة الإنسانية..شعرت بريح عفنة تهب في هذا المكان الغريب.
كلما تذكرت أيام ضيافتي بدرب مولاي الشريف، يتخيل إلي أن مصائب هذا الكون بأسره بالكاد تساوي قضاء ليلة واحدة بالدرب، ومهما دونت ووصفت، ومهما اجتهدت فلن أستطيع عطاء صورة حقيقية بمأساة الإنسان بدرب مولاي الشريف. كان الولوج إلى هذا الدرب بمثابة الدخول إلى غابة متوحشة مليئة بالحيوانات المفترسة المتعطشة للدماء الآدمية....لكنها حيوانات ليست كالحيوانات، لأن هذه الأخيرة خلافا للأولى، لا تفترس إلا بمقدار وللضرورة مع احترام قواعد معلومة مجبولة عليها. أما حيوانات درب مولاي الشريف فخلت قلوبها من الرحمة ولو من اختلاجة منها، ولا مكان فيها لذرة من الشفقة، إنها آلات عذاب وتعذيب...كذبوا أمثالي على امتداد سنة أو أكثر..مخلوقات كانت ترهب الناس خوفا من استيقاظهم...مخلوقات كالتنينات تخرج من أفواههم نار تقضي على كل ما هو طيب وجميل في نفس الإنسان المغربي.


بعد الاستقبال وتقييد الأسماء..خلعنا ملابسنا ومنحونا قميصا وسروالا كاكيين...أعادوا تكبيلنا بالأصفاد ما دامت العيون ظلت معصبة " ببانضة " محكمة العقدة...بعد أن جردونا من النقود والساعات اليدوية والأقلام والسجائر رموا بنا بين أيدي جماعة من " الحجاج" ( وهم سجانو درب مولاي الشريف)..صففونا صفا واحدا ووجوهنا إلى الحائط..وكان الصراخ يرتفع من كل مكان ومن كل زاوية...يستمر الصراخ في التصاعد ليتحول إلى لحن جنائزي..لحن استقبال أحياء ـ أموات في فضاء هتك الصفة الإنسانية، فضاء يقبع فيه أناس يواجهون مصيرا مجهولا بين جدران صماء موروثة عن الاستعمار المستبد...فضاء لا مكان فيه للأمل ولا للأمنية...لم يكن أمامنا إلا الصبر والصمود. و " الحجاج" يهمون بوضع كل واحد بمكانه انطلق صوت رخيم رفيع وحاذ:
الصمود الصمود يا رفاق القنيطرة.


وعرفت بعد شهور أنه صوت عبد الله زعزع الذي حوكم بالمؤبد، قالها متحديا الجلادين، وأظن أنه ما زال يذكر ذلك جيدا.
كان الحاج يمنعنا من وضع الأقدام على جدار القبور نتعمد استفزازه لكي يعاقبنا بالوقوف على رجل واحدة لمدة ساعة أو ساعتين.

 

أودعونا في سرادب تحت أرضي ضيق كانت تفوح منه رائحة نتنة كأنها لب الصديد، وكانت التعليمات تقضي بعدم صدور أي صوت وإلا فالصفع والركل والضرب والتنكيل...كل حركة وبطلب رخصة من " حاج" من " الحجاج" وما أكثرهم بدرب مولاي الشريف، أدخلونا في ذلك السرداب في جو من الفزع والخوف..فتساقطنا الواحد فوق الآخر قبل أن يجمدنا أحد " الحجاج" كل في مكانه تحت سيل من التهديدات والوعيد والتنكيل...ظل الفرد منا في مكانه يجتر أفكاره وآلامه ومحنته في صمت رهيب. كنت أشعر بجوع شديد ، لكن ما الجوع بجانب الرعب والخوف العارم الذي كان يخلخل الصدور في ذلك الفضاء بدون علم أحد وراء شمس الوجود.


ولا داعي للتأكيد بأنه لم يذق أحد منا طعم النوم في تلك الليلة وربما حتى في الليالي الموالية. كانت الآلام التي تواجهنا ونعايشها تشغلنا عن التفكير في التحقيق الذي ينتظرنا والذي ربما يستدعي إليه بعضنا في أية لحظات من لحظات الليل أو النهار. في تلك الليلة الأولى سمعت صوتا يصرخ وصدى فرقعات سوط تولول..أتصوره سوطا يهوي على جسد نحيف..صوت شخص مريض تسكنه بحة ..كان السبب هو أن أحد " الحجاج" ضبطه يتكلم مع أحد ضيوف الدرب الكثيرين آنذاك..بعد مدة علمت أن الصوت كان للملاخ الذي قام بطبع، رفقة العلوي، رسالة الشيخ عبد السلام ياسين " الإسلام أو الطوفان"، قبل المشاركة في توزيعها..شعرت أنني في كابوس مزعج لدرجة أنني حاولت جاهدا عدم التفكير فيما يجري ويدور حولي، علما أنني لم أكن أدري كيف سينتهي الحلم المزعج..في كل وقت كنت أحسب ألف حساب لكل لحظة قادمة، ولم يكن أمامي إلا الاستسلام في مواجهة الأحداث مع الحرص الشديد على محاولة إبعاد التذمر والانهيار..لم أقو على النوم رغم التعب والإرهاق...تذكرت أمالي وأحنبيلا:لبهجة التي كنت أشعر بها عندما كنت أناضل ( بين التلاميذ والطلاب، في التجمعات والمظاهرات..) لأن هدفي كان نبيلا : تحرير الإنسان من الظلم والاستغلال والذل لتمكينه من شروط العيش كإنسان بكرامة لا أقل ولا أكثر ...بدأت تساؤلات تتزاحم بدماغي...أين هو القانون كما هو سار به العمل عندنا على علته ونواقصه؟ أين الحضارة ؟ أين التحديث والتقدم اللذان يطبلون له ويغيطون في مختلف وسائل الإعلام آنذاك؟ ...وضاعت صورة العدل والعدالة بين التساؤلات في مخيلتي وانتابني غثيان وشعرت برغبة جارفة للتقيؤ على التو...كل هذا وأنا أجهل ما كان ينتظرني ...وإلى أي مصير أنا مقتاد بمعية الرفاق الممدودين بجانبي، وفي كل ركن من أركان فضاءات هذا الدرب اللعين.
في صباح اليوم الموالي ساقنا أحد " الحجاج" إلى غرفة بها " حاج" آخر بيده آلة حلاقة، كان يمسكها ويحركها بطريقة مخيفة، كأنه جزار ينتظر الأكباش للبطش بها..وكلما جلس أحدنا أمامه هم به كأنه سيفترسه...جاء دوري وانتهت المجزرة تحت عاصفة من الشتائم لم اسمع مثلها من قبل.
كنت مع مجموعة القنيطرة في ذلك القبو الذي لا يتجاوز عرضه المتر ونيف، وكنا مستلقين على ظهورنا ليس في اتجاه طوله وإنما في اتجاه عرضه، الشيء الذي حرمنا من مدر أرجلنا، لاسيما أصحاب القامات الطويلة منا، فكانوا يتعذبون ويعانون أكثر مني، أنا القصير القامة خصوصا وأن " الحاج" كان يمنع منعا كليا رفع الأقدام ووضعها على الجدار...كنا ملزمين بالاحتفاظ بالرجلين مطويتين، وهذا كان يسبب آلاما لا تطاق...لذا كان الواحد منا يتعمد استفزاز " الحجاج" لكي يعاقبه بالوقوف على رجل واحدة لمدة ساعة أو ساعتين مع الضرب المبرح...
معتقل درب مولاي الشريف فضاء التعذيب والتعسف والموت البطيء، والذاكرة لا تنسى الآلام والمحن، فهناك في قلب ذلك الفضاء استشهد من استشهد، وفقد من فقد وخبل من خبل...درب مولاي الشريف مفارقة غريبة، لعب ذلك الفضاء دورا في النضال ضد المستعمر، كما أنه كان فضاء لاغتيال الأمل....إنه مرتع أناس ارتبطت أسماؤهم بالفترات المظلمة...قضيت به ما يناهز ثمانية شهور، وهناك في أكثر من ركن من أركانه صادفت رائحة محمود عرشان والحمياني واليوسفي قدوري وغيرهم...هناك كانت بأيديهم سلطة الحياة أو الموت على ضيوفهم...كانوا يفعلون بهم ما يريدون وما يحلو لهم دون حسيب ولا رقيب ولا مسائلة. ومن بين السماء والوجوه التي ظلت عالقة بالذهن، رغم أنني كنت معصوب العينين منذ ولوجي عتبة الدرب: اليوسفي قدوري رئيس الغرفة الوطنية للشرطة القضائية وعبد اللطيف بطاش و " الديب " رئيس " الحجاج"، صورهم ما تزال عالقة بذهني.

 

الشهيد زروال عبد اللطيف

 

عبد اللطيف كان رجلا من خيرة الناس بشهادة جميع من عرفوه وهم كثيرون جدا. ذهب ضحية التعذيب الوحشي الذي مارسه عليه جلادو درب مولاي الشريف، وغيره كثير...مازالت رائحة أنفاسهم حاضرة بأجواء الدرب وعلينا من حين لآخر الذهاب للترحم على أرواحهم هناك حتى لا ننسى.

martyre Abdellatif Zaroual

صمد عبد اللطيف زروال وأدى الثمن غاليا: حياته، وبعد أن انفضح أمر وفاة الشهيد زروال من جراء التعذيب الوحشي على أيدي زبانية درب مولاي الشريف تم الإعلان أن سبب موته هو إصابته بمرض عضال في المعدة. ولا علم لي هل تم إجراء تشريح الجثة ولا علم لي هل فعلا تمت مساءلة القائمين على الدرب آنذاك في الموضوع. وما أعلمه علم اليقين أنه كانت هناك نية إبعاد قضية زروال عن المحاكمة. فحتى محاضر الشرطة تم تغييرها وإعادة صياغتها بعد استشهاده وذلك بحذف كل ما هو مرتبط به، وهذه ممارسة تعد قمة الاستهتار بحياة الأشخاص آنذاك ببلادنا، فكيف يا ترى يشعر الآن أصحاب الأيادي التي تلطخت بدماء الشهيد ؟ وكيف سيكون موقف أبنائهم إذا علموا بالأمر ؟


كانت هناك نية واضحة لطمس قضية الشهيد زروال. عندما سلموا إلينا ملابسنا استعداد لمغادرة الدرب وعرضنا على النيابة بعد أكثر من سنة من الاعتقال التعسفي بدا خوف رهيب على الرفيق شيشاع، كان خائفا من الاحتفاظ به بالمعتقل لأنه هو الذي كان على موعد مع الشهيد عبد اللطيف زروال وهو الشاهد الأول على اعتقاله واختطافه وإيداعه بمعتقل درب مولاي الشريف. وما دام البوليس كان في نيته إقبار القضية اعتقد " شيشاع" اعتقادا أكيدا أنه سيقبر هو كذلك لأنه هو الشاهد على النازلة، وزاد خوفه عندما علم أن سجل الدخول إلى مستشفى ابن سينا تم تزويره بإسقاط اسم الشهيد عبد اللطيف زروال منه وذلك بنزع الورقة المثبت عليها اسمه وتاريخ نقله إلى المستشفى قبل لفظ أنفاسه الأخيرة بقليل. وتأكد، من هذه النازلة بعد معاينة السجل، محمد السريفي عندما إلى هناك من جراء تعقيدات صحية مرتبطة بالقلب. إلا أن تخوفات " شيشاع" اندثرت مع تقديمه للنيابة، لكن شيئا من الخوف ظل يسكنه حتى وهو بالسجن قبل المحاكمة.

 

كان الجلادون يرمون لنا قطعة: لحم" متناهية الصغر كل عشرة أيام وكان فطورنا عبارة عن طحين مغلي بماء مع قشور طماطم نتناوله لمجرد سخونته ليس إلا.


عبد اللطيف زروال يلفظ آخر أنفاسه

 

رغم سيادة أجواء الرعب والاضطهاد كان الرفاق يستغلون أي تحرك من تحركاتهم ليجمعوا خلسة أي جزء من جريدة مهما صغر حجمه، هكذا كانت أطراف الجرائد تطوف على الدرب بكامله رغم الحراسة المشددة 24 ساعة على 24.


ويتساءل المرء...هل كانوا يهتمون بالمرضى ؟ ..نعم لكن بالقدر الكافي حتى ينتهي التحقيق ويتمكن المريض من " تذوق" مختلف أجناس التعذيب. يبدو هذا الأمر غريبا، لكن هذا ما وقع لأن الذي كان يهمهم هو الحصول على المعلومات ولذلك كانوا حريصين على بقاء المختطف حيا وواعيا لأطول فترة ممكنة...إلا إن حسابهم " زهق" لهم مع الشهيد عبد اللطيف زروال الذي لفظ آخر أنفاسه من جراء التعذيب الشرس.


خلال النهار، بالإضافة إلى " الحجاج" يحضر الجلادون والمحققون يحشرون أنوفهم في كل شيء بحسب هواهم، و " الحجاج" كانوا أقل مرتبة من أهل الدار طبعا. فأهلها يتدخلون في أدق تفاصيل الأمور وفي مواقع وحركات وسكنات ضيوف الدرب وفي استعمال المراحيض، لذلك أصبح أغلب الرفاق يفضلون عدم النوم ليلا والنوم نهارا، وكانت هذه الحيلة نفعتني حتى في أوج مرحلة التعذيب والتنكيل...كنت أحاول بكل ما أوتيت من قوة مقاومة النوم ليلا حتى الصباح، فيتملكني تعب شديد يساهم في جعلي أفقد الوعي بعد فترة وجيزة من التعذيب في حصص التحقيق.


ودرب مولاي الشريف، رغم أهواله، له كذلك قططه لا يغادرونه رغم أنه عالم مظلم بجميع المعايير والمقاييس، إنها قطط جبلت على مرافقة المعتقلين، وكان المحظوظ منا هو الذي ينعم بقرب إحدى القطط إليه يلاعبها ويداعبها محاولا التواصل معها. في هذا الفضاء ظل ضيوف الدرب اللعين في عداد المفقودين...وعندما كان بعض الأهالي يتصلون بالشرطة للسؤال عن مصير أولادهم في مختلف المدن المغربية، كانت الشرطة تجيب بعدم علمها بأي شيء.


في درب مولاي الشريف كانت كل الإجراءات همجية منذ لحظة الاختطاف حتى التقديم للنيابة، وآنذاك تبدأ مرحلة همجية أخرى في السجن.


رواسب عصبية وفزيولوجية

 

لا يمكن لأحد ضيوف درب مولاي الشريف أن ينكر تعرضه لإساءة المعاملة أو التعذيب، مهما كانت المدة التي قضاها هناك، لأن سوء المعاملة والتعذيب هو النهج والأسلوب المتبع بالدرب ومن قال غير ذلك فهو كاذب.


لا يستطيع العقل السليم أن يتصور مقدار الألم الذي لحق بضيوف درب مولاي الشريف...كان الوضع فظيعا لدرجة أن مختلف ضيوفه حملوا ومازالوا يحملون علامات مرورهم من جحيمه، علاوة على الإصابات الجسدية، مازالوا يعانون رواسب عصبية وفزيولوجية، ومنها حالات وصلت لدرجة من الخطورة المقلقة جدا.


تنكيل إهانات على الدوام تجعل المرء يتمنى الموت من جراء الآلام النفسية والروحية والجسدية. كان التعذيب بالدرب يرتكز على التعذيب النفسي والمعنوي والتعذيب المادي والجسدي..السب والشتم والانتهاكات والتجريد من الملابس مما يمكنه أن يضيع قيمة الإنسان أمام نفسه ويشعر كأن لا قيمة له بتاتا..الإهانات المفرطة التي كان من شأنها أن تهز كيانه وتزلزله..الضرب المبرح والكي و " التعليق أو التعلاق" بمختلف الأساليب وفي مختلف الوضعيات والصدمات الكهربائية والركل والرفس والصفع والسوط ( الكرافاش) والتجويع والحرمان من النوم والخنق " بالشيفون" النتن وبالمياه القذرة وبعض مواد النظافة (أحيانا الكريزيل).


كان الجلادون يتفنون في التعذيب الجسدي، الضرب بواسطة العصبة..إذ اكتسب جلادو الدرب مهارات خاصة وقسوة فاقت الحدود في هذا المجال...لذا فلا عجب أن يفقد بعض ضيوف درب مولا ي الشريف حياتهم تحت التعذيب ومن جرائه، فسوء المعاملة والتعذيب هما طرفا معادلة الوسيلة المستعملة لانتزاع الاعترافات بالقوة أو لتزكية التهم المفبركة رغم أن التعذيب كان دائما يعتبر جريمة بموجب القانون.


كان كل واحد منا ينتظر اللحظة الرهيبة، لحظة المناداة إلى التحقيق، وكان هذا عذابا في حد ذاته، فعذاب انتظار التعذيب عذاب رهيب يكون أحيانا أقسى من التعذيب في ذاته..يظل المرء يفكر في العذاب الذي ينتظره في التحقيق...يحاول أن يتخيل كيف ستتم الحصة المقبلة، وكيف ستمر أطوارها..كان الجميع يفكر في القائمين على درب مولاي الشريف آنذاك، والذين كانوا يفعلون ما بدا لهم دون وازع أو ضمير. وكم تساءلت هل فعلا كان القائمون على أمور البلاد على علم بما يجري ويدور بالدرب آنذاك وبين جدرانه؟ تساءل شغلني لمدة.
في النهار والليل، كنت أسمع أصواتا...أصوات ألم تصرخ وتستغيث ..آدميون يئنون...لم أكن أراهم لكنني كنت أسمع أصواتهم واستطعت التعرف على بعضهم، فرغم الحراسة المشددة ورغم حرص " الحجاج" عن " البق ما يزقه" استطعنا إبداع وسائل للتواصل وتمرير المعلومات المختلفة بيننا. هكذا علمت باستشهاد عبد اللطيف زروال من جراء التعذيب، إذ لفظ أنفاسه الأخيرة في الطابق الخامس من مستشفى ابن سينا بالرباط عندما نقل مباشرة من حصة تعذيب..وهكذا ذاع صموده البطولي بالدرب بين كل ضيوفه رغم الحراسة المشددة..فتم تخصيص في المتوسط " سيمي " (حاج) لكل 4 أو 5 من ضيوف الدرب 24 ساعة على 24 ساعة.


العصبة تأكل اللحم البشري

 

هذه الليلة جاؤوا بجاري الأيمن بالسرداب ـ إنه الزكريتي ـ مدعوما بأحد الجلادين ( أو الحجاج) لأنه لم يكن يقوى على السير بمفرده، كان منظره سيئا وكان وجهه محمرا احمرارا دمويا..استلقى بجانبي منهوك القوى...طوال الوقت ينادي على " الحاج" مشيرا إلى أضلاعه..كان لا يستطيع التنفس..آنذاك تذكرت ما ألم بي كذلك من تعذيب وسوء معاملة وما حكاه لي الآخرون عن معاناتهم.


في الدرب عاينت نساء ومحامين ومهندسين وأطباء وأساتذة وطلبة وتلاميذ وعمالا وموظفين وتجارا، شبابا وكهولها وشيوخا، يركلون ويضربون ويعذبون ويشتمون ويهانون، وكان من ضمنهم تلاميذ بالكاد بلغوا 15 أو 16 سنة.


على امتداد ليال..لا نسمع إلا الصراخ والعويل والأنين المتحشرج وأصوات " العصبة " (الكرافاش) تولول آكلة الجلد البشري...إنها، عندما تكون بيد الجلاد، تعوي على التو كلما داعبت أقدام ضيوف الدرب....وكان جلادوه مدربين مثل الكلاب تماما لا ينتظرون إلا الأوامر للهجوم على فريستهم، وكان أغلبهم يجتهد اجتهادا ويتفنن في تعذيب ضحاياه لاسيما عندما يكون رئيس الفرقة (اليوسفي قدوري آنذاك) حاضرا يعاين المشهد.


كان يخيل إلي أن هؤلاء يجدون متعة قوية في التنكيل بضيوفهم..تعرضت، مثل غيري من ضيوف درب مولاي الشريف، لأنواع من التعذيب الوحشي والمستديم عبر أساليب ممنهجة ومدروسة وأخرى ارتجالية همجية. وللإشارة تم إخبار " أمنستي" (لجنة العفو الدولية) في غضون السبعينات بتفاصيل دقيقة تثبت ممارسة التعذيب الوحشي على مئات المختطفين المودعين في الدرب وفي معتقلات سرية أخرى. ومازالت أغلبية هؤلاء على قيد الحياة ولا يمكنهم إلا أن يؤكدوا ذلك، خصوصا وأن من بينهم من قاسوا وعانوا أكثر مني، بل البعض أصيب بعاهات مستديمة وبعضهم فقد الحياة من جراء التعذيب. إذ أضحى واضحا الآن أن القائمين على درب مولاي الشريف آنذاك أساؤوا كثيرا معاملة المختطفين على جميع المستويات ومختلف الأصعدة.


من أساليب التعذيب، البدائية منها والمتقنة...هناك الهجوم على الشخص ضربا خبط عشواء، والضرب الممنهج المتواصل و " التعلاق" بمختلف الأساليب بواسطة عدة وضعيات، الخنق بالماء النتن، الصدمات الكهربائية والكي..وفي هذا الصدد كل جلادو درب مولاي الشريف متورطون بشكل أو بآخر في ممارسة التعذيب الوحشي على ضيوفهم، إذ أنهم كانوا يمارسونه بشكل ممنهج وبطريقة منظمة ومنتظمة، لأن التعذيب كان يعتبر ممارسة معمولا بها بل معتمدة كأسلوب لنزع الاعترافات، إنها سياسة إجبار المرء على إعطاء معلومات قسرا لاستخدامها كدليل لإثبات التهم الموجهة إليه من طرف المحكمة.
بعد كل علقة كان الجلادون يفكون قيود رجلي ويأمرنني تحت التهديد والتنكيل أن أقفز على قدمي حتى لا تتورمان وحتى لا تمتلئان بالصديد.

نوض اتكعد أولد الفرملية


كان أن شغلني سؤال وهو: في ظروف درب مولاي الشريف، هل يستطيع إنسان أن يكتم سرا ؟ وبعد جولتين أو ثلاث من التعذيب تأكد لي أنه من الممكن إذا استطاع أن يكون أقوى من " العصبة" (الكرافاش) التي يستعملها الجلاد، لكن " العصبة" أصلب من الإنسان لأنها تظل " عصبة" وآلة لإحداث الألم..ومع ذلك فالسر يمكن الاحتفاظ به لأن الجلاد لا يعرف أنك تعرفه فإذا صمد المرء في الوهلة الأولى فإنه ينال من الجلاد لأنه أضعف من العصبة الماسك بها، ومع قليل من المزيد من الصبر والصمود يزداد ضعف الجلاد وهكذا يمكن للمرء أن يكون أقوى من " العصبة «، لكن هذا الأمر لا يتحقق في كل مرة وعلى الدوام رغم حضور الرغبة في ذلك.


عندما كان الجلادون يحتاجون أحد ضيوف الدرب للتحقيق، يأتي " الديب"، وهو رئيس " الحجاج" يقترب من الشخص المطلوب ويركله قائلا:" نوض اتكعد أنت". وكان ينادي بعض الضيوف بأرقامهم والبعض الآخر بألقاب...أما أنا فكان يناديني ب " ولد الفرملية ".


استيقظت على صوت " الديب " جاء لتقديمي قربانا للجلادين. أول حصة كانت مع الضابط جسوس، تعرفت عليه من صوته للوهلة الأولى، لكن محققين آخرين انضموا إليه، وأحسست أن جسوس كان أقل رتبة منهم نظرا للعبارات التي كان يستعملها في حديثه معهم وكثرة صيغ الاحترام وترديد عبارة " نعم آسي"..لاسيما وأنني فهمت أنهم قالوا له إن القنيطرة لم تعرف كيف تتصرف لأن أصحابها لا يفهمون شيئا في التعامل مع أناس مثلي، وأنني ورفاقي القادمين من القنيطرة، " ضحكنا" عليهم إذ أنه لم يتم انتزاع المعلومات المطلوبة..ثم غادروا المكان ولم أعد أشعر بأي أثر لهم...


قال لي " جسوس": أتعرف أين أنت ؟
كلا ؟ أجيب، ثم أضاف: أنت إما تنتجو بجلدك وإما أنك ستلقى وبالا، الأمر بين يديك، وبدأ الحديث الطويل العريض عن الشيوعية وماركس ولينين وماو وغيفارا، ثم حشر أشخاص وبدأت الأسئلة تنبعث من كل صوب عن أسماء ومواعيد ومحلات ولقاءات وتواريخ..كل مرة يصفعني أحدهم على وجهي، ودام الحال على نفس المنوال أكثر من ساعتين بحسب تقديري، والسؤال الذي كان يتردد بكثرة هو: هل تريد أن تتكلم أم لا؟..


إننا نعرف كل شيء، ونعلم علاقتك بمنظمة " إلا الأمام" وعلاقتك باليهودي..الأحسن لك أن تعترف..
ويقول آخر:
إذا كنت ناويا الصمود يجب أن تعلم أن الصمود في هذا المكان يعني الخلود في العمود.

 

وقبل أن أنطق بكلمة بدأت الجولة الأولى من الضرب والرفس..كنت جالسا على كرسي وكان الجلادون حولي...كنت في متناول أيديهم..
أصحابك قالوا كل شيء وما عليك إلا التأكيد.



الحصة الأولى من التعذيب

تلت ذلك جملة من الشتائم البذيئة، وقبل الجوا ب على التساؤلات المطروحة كانت تنهال علي الضربات من كل صوب وتنهمر علي كالمطر..أسقطوني أرضا وما هي إلا ثوان حتى كنت معلقا في الهواء وحيدا وسط الظلام من جراء ضبط عقدة " البانضة " قبل تعليقي..وسارت دقات " العصبة" تنزل رتيبة على قدمي...اشتد بي الهول وتعالى صراخي..أصر الجلاد إصرارا على أن أتكلم...وكنت عزمت على عدم الصراخ إبان التعذيب لكن فشلت، وفي كل مرة كنت أنقاد فيها إلى التعذيب كنت أنوي عدم الصراخ لكنني كنت أفشل دائما، فأصرخ أكثر مما كنت أتوقع لأن العذاب كان فوق احتمال أي مخلوق.


بعد " العلقة " فكوا قيود رجلي والاهتمام.د بيدي بعد إنزالي من تعليقة الطيارة وأمروني تحت التهديد والتنكيل والشتائم والضرب، أن أقفز على قدمي حتى لا تتورمان وحتى لا تمتلئان بالصديد..وهذا بالطبع ليس من باب الرحمة والاهتمام .ولكن، بالأساس حتى أستطيع تحمل قدر آخر من العذاب عند الحاجة إلى ذلك...لم أستطع الوقوف...لم أقو على القيام واقفا رغم عدة محاولات..فاشتد الضرب من جديد وحمى وطيس الصفع والركل..وبعد لأي وقفت بصعوبة جمة...فصرخ أحد الجلادين طالبا مني الإسراع في الحركة والقفز على الأقدام..شعرت كأن قدمي تنغرزان في مسامير حادة مسنونة...صرخت من الألم ثم سقطت على الأرض ولم أعد أذكر شيئا، وكانت نهاية الحصة الأولى من التعذيب بدرب مولاي الشريف.

التعذيب بالصدمات الكهربائية


في الجولة الثانية اعتصرني الجلادون عصرا ليحصلوا على معلومات وهمية بخصوص جواز سفر لم أكن أعلم عنه شيئا، في هذه المرة استعملوا الكهرباء. كانت في يد أحدهم آلة ذات شكل مستطيل تشبه " الولاعات" المستعملة بالمنازل والخاصة بالأفران الغازية. كلما رفضت الإجابة أو تلعثمت أمرني المحقق بمسك مقدمة الآلة، وحالما لمسها تصفعني صدمة كهربائية تتصاعد مع مرور الوقت..وكلما رفضت مسكها يتكلف المحقق بوضعها على خدي وفمي...وعندما تكون الصدمة قوية كنت أشعر كأن عظامي تسحق سحقا، إلا أنها تظل أقل قوة من الصدمة الكهربائية في الخصية أو الجهاز التناسلي عندما يكون المرء معلقا..كنت دائما بعد نهاية الصدمات الكهربائية أشعر بالألم في كل جزء من جسدي، كان كل عظم وكل عضلة وكل مفضل يؤلمني إلى حد الإحساس بتلف أعصابي.


...بعد يوم أو يومين أخذني " الديب" في منتصف الليل إلى مكتب في جناح التحقيق، وقدم لي مقعدا خشبيا، شبيها بالكرسي لكنه ليس بالكرسي..وجاء شخص، أظنه الضابط جسوس ـ الذي سبق وأن استنطقني بالقنيطرة، وقال لي:" واش عجبك الحال دابا، لو كنت اعترفت لما وصلت إلى هذا الحال...المهم مازالت هناك فرصة فلا تضيعها...وذنوبك على راسك".


أعطاني سيجارة، وكانت من نوع كانط الطويلة، مازلت أذكرها، ثم أشعلها لي والعجب يملؤني، لكن سرعان ما تبدد العجب عندما قدم لي أوراقا وقلما وقال:
الآن عليك تدوين اعترافاتك.
أية اعترافات سأكتب؟
أنا سأملي عليك وأنت تكتب وكل ما ستكتبه سيكون في صالحك وسيعفيك من الضرب والتكرفيس"..لكن عليك أن تساعدني ببعض الأسماء فقط.
والانقلاب.عن منظمة سرية غير مشروعة تستهدف النظام بالعنف والقوة...والانقلاب ..والقواعد الحمراء المتحركة...

أمسكت عن الكتابة وقلت: لم يسبق لي أن قلت هذا...فبادر قائلا: يظهر أنك كاموني، لا تريد أن تمر الأمور بخير.


وكان ضابط القنيطرة يقوم بتحقيق مواز، لاحظت أن مساره في التحقيق معي يختلف عن مسار محققي الدرب ولو لم أفهم مغزى ذلك الاختلاف. وبعد برهة سمعت أصواتا، أمرني أحدها بالاستلقاء على ظهري فوق كرسي خشبي طويل..ربطوني به وأحكموا الرباط..ثم أخذ أحد الحاضرين يرفعه من جهة اقدامي فشعرت بمؤخرة راسي المحلوق تتبلل، وماهي إلا لحظة حتى غمر ماء نتن رأسي..في ذات الوقت سباب وشتائم تنبعث من كل جانب وأسئلة كثيرة تبنعث من كل صوب وأغلبها تتعلق بأسماء أشخاص أعرفهم وآخرين لا أعرفهم، ما زلت أتذكر منها: ينو هاشم والآنسة ( ب.ف) والآنسة (ف) والزبط وتلميذ من تفلت كان يدرس آنذاك بالقنيطرة وآخرين...وضعوا " شيفون" على وجهي وأخذوا يسكبون الماء إلى حد خنقي ، وكانت هي المرة الأولى التي افقد فيها وعيي ويغمى علي .



"العصبة " و " الأصفاد " كانا لا يفارقاني منذ ولجت درب مولاي الشريف حتى قدمت للنيابة وكانت الروحانيات ملاذي للتخلص من آلام التعذيب.

كل جولة من جولات التعذيب في درب مولاي الشريف تبتدئ دائما بحوار يكاد يكون سخيفا:
هل مازلت لا تنوي الاعتراف ؟
عن أي شيء ؟
عن كل ما تعرفه وعن مقرات الاجتماعات عن الأشخاص الذين تعرفهم والذين تربطك بهم علاقة و...
قلت كل ما عندي...


فعلا كان هناك ما أخفيته عن المحققين، لكن لم يكن ما أخفيته يتعلق بما يدور بذهن الجلادين ( سلاح، تدريب، قواعد..) كان متعلقا بأسماء وأشخاص وعلاقات فقط...وتوصل المحققون لجزء مما أخفيته من جهة ما، وتحملت أكثر من حصة تعذيب بسبب ذلك وكانت سابقة لم يرد المحققون نسيانها، وفي كل مرة، قبل الشروع في الاستنطاق يقول أحدهم:
اسمع يا وليدي..غير اخوي المزيودة..راه الصمود تابعو الخلود في العمود.

 

إنها عبارة ظلت ترافقني طوال المدة التي قضيتها بالدرب. في الأسبوع الأول من ضيافتي كان الصراخ يدوي في كل مكان، كنت ما زلت لم أتحرر من الخوف على حد ما، لاسيما وأن محققي القنيطرة كانوا يهددوني بأهوال الدرب خصوصا الضابط جسوس...لكن بعد مدة ألفت، رغما عني، الجلادين وأساليبهم وحقدهم المتجاوز للحدود....لكن الشيء الذي لم يستطع أحد ضيوف الدرب التحرر منه، رغم مختلف المحاولات، هو الألم..مختلف أنواع الألم المادي والمعنوي كانت حاضرة باستمرار، متكررة على الدوام ليل نهار بالدرب.
ولي قصة مع الألم بالدرب. ذات ليلة استحضرت ما اطلعت عليه في أحد كتب علم النفس..قرأت أن الألم هو عبارة عن فكرة في أحد مراكز الدماغ ويمكن للمرء أن يتغلب عليها بفكرة أخرى أقوى منها، وقمت بتجريب هذه الوصفة عدة مرات وفي كل حصة من حصص التعذيب، كنت أجتهد اجتهادا في تركيز تفكيري على فكرة، وكانت الروحانيات ملاذي، في البداية كان الأمر صعبا، لكن في المرة الثانية اقتنعت اقتناعا راسخا أنه لا خيار لي إلا ذلك، اجتهدت لمضاعفة التركيز لكن فكرة الألم ظلت هي الغالبة:
إن أجواء التحقيق وظروفه بدرب مولاي الشريف كانت توحي للمرء كأن الشعب المغربي بكامله يتآمر على الوطن وعلى مستقبله إلا الجلادون ورؤساؤهم. هؤلاء كانوا ينظرون إلى كل مغربي على أنه متهم بالتآمر وبالتالي لم يكن للجلادين إلا جمع الحجج وتحرير المحاضر لإعطاء الانطلاقة للمسرحية التي كانت نهايتها أحكام قاسية. وكانت هذه هي طريقتهم لإثبات خدمتهم وتبيان ضرورة استمرار بقائهم في مناصبهم.


استيقظت منهك القوى من جراء ما مورس علي من تعذيب في الاستنطاق..في فترة غياب " الحاج" اقترب مني " البقال" الذي اعتقل ظلما وعدوانا مع مناضلي لنخدم العشب بسيدي سليمان، فسألني بهمس: ماذا حدث؟ ماذا قالوا لك؟ عن ماذا سألوك؟ ...وكان الرعب يتملكه لأنهم لم ينادوه لي تحقيق منذ وصوله إلى الدرب.


بعد ركود الأمور وتباعد حصص الاستنطاق مكثت بالسرداب أحلم بمشاهد التعذيب...صور بشعة كانت أشد وقعا على النفس من الألم..وما زالت تلك الصور تحتل ركنا من لاشعوري عاقدة معي موعدا من حين آخر لتأسيس كوابيس الليالي. فمن يدخل هذا المكان عليه أن يدع التفكير في النوم والطعام والراحة جانبا لأنه لا يتحكم فيها وعليه قضاؤها تحت الإشراف المباشر " للحجاج".


التعذيب يصبح نمط عيش في الدرب


إن التعذيب بطبيعته يفترض وجود طرفين: الطرف المعذب والمعذب، الجلاد والضحية. وكانت المعادلة بين هذين الطرفين بدرب مولاي الشريف آنذاك تعتبر مواجهة بين أفراد مجردين من أي شيء إلا أفكارهم ومبادئهم من جهة، ومن جهة أخرى القوة غير المحدودة للدولة. وكانت هذه المواجهة تتم في الظلام، وراء الشمس، بعيدا عن العيون...لذا كانت دائما بمثابة انتصار للطرف الأول ( الضحية ) مهما كانت النتيجة. لهذا يشعر ضيوف الدرب بنشوة انتصار خاص على قوة الإرهاب والترهيب والظلم وخنق الكلمة الصادقة، انتصار خاص كفيل بالافتخار به، لأنه بقدر ما يعظمهم أمام جلاديهم فإنه يجعل الجلادين صغارا في أعينهم لا يكادون يبينون.


في درب مولاي الشريف يصبح التعذيب للعيش وقواما من قوامات الحياة اليومية بالنسبة للمعتقل، إنه حاضر على الدوام، يمارسه جلادو الدرب على المستنطقين، وكذلك الحراس الدائمون " الحجاج" المكلفون بحراسة الضيوف 24 ساعة على 24 ساعة. والتعذيب الممارس بالدرب أشكال وأنواع، مادي ـ جسدي ومعنوي ـ نفسي. يكاد المرء بالدرب يختنق في فضاء ضيق...أنفاسه تتنافس مع أنفاس الآخرين ذات اليمين وذات الشمال في أقبية وزنازين وممرات تحتضن أكواما من البشر.


فؤاد الهلالي ينقذني

 

في ليالي الشهور الأولى كنت لا تسمع بالدرب إلا الصراخ والصياح والأنين وصوت " العصبة". كانوا يعتمدون على الترهيب والتخويف أولا قبل اللجوء إلى التعذيب والضرب والتنكيل والصدمات الكهربائية والخنق " والتعلاق".
جرى معي التحقيق مثل ما جرى مع أغلب ضيوف الدرب، اعترفت بانتمائي إلى المنظمة وبأهدافها وبعلاقتي مع مجموعة من الرفاق.
هذه المرة ذهبوا بي إلى مكتب معصوب العينين ومكبل اليدين، " فالبانضة" و " المينوط"، كانا من الأكسسورات التي لا تفارق المرء طوال اليوم منذ ولوجه الدرب حتى تقديمه للنيابة، طالت مدة الضيافة أم قصرت بمجرد اجتياز باب المكتب هجم علي رجال وأخذوا يضربونني بأيديهم وأرجلهم، وبين اللكمة والصفعة كنت أسمع غير بعيد عني أنين وصراخ شخص كان يجتاز امتحان حصة من حصص التعذيب، أظنه فؤاد الهيلالي أو إدريس بنزكري...أحسست أن فترة الضرب طالت وكنت مكوما على نفسي لحماية الرأس والوجه من اللكمات الطائشة. ففي الظروف والأوضاع السيئة أو المحرجة يشعر المرء بأن الوقت أطول مما هو عليه في الواقع.
أمرني أحد المحققين بخلع ثيابي بعد أن أزاح قيدي..خلعت القميص والسروال الكاكيينبطني.مرني بالاستلقاء أرضا على بطني ...قيد يدي ورجلي ووضع عمودا بينهما. ثم رفعوني وعلقوني، بطني إلى الأسفل وظهري إلى الأعلى، وماهي إلى لحظات لم أتمكن من تثمينها حتى شعرت بألم حاد في العمود الفقري وفي صدري، ألم لا يطاق...وظل الألم يتصاعد وأنا اصرخ وأقاوم، والأسئلة تطرح من هنا وهناك وأنا أجيب تارة وأصمت أخرى حتى فقدت وعيي ولم أعد أذكر شيئا...عندما استرجعت وعيي وجدت نفسي على الأرض مبللا بالماء.
...في مرة أخرى بينما أنا ماثل أمام المحقق، وكان من مسؤولي الدرب، لأن مكتبه كان أنيقا منظما خلافا للمكاتب الأخرى التي سبق أن حقق معي فيها، ولأن جميع الحاضرين كانوا يحترمون ذلك المحقق أكثر من المعتاد...وإذا بصوت جوهري يهز جدران المكان، شعرت بطنينه في أعماقي..وأظنه كان لفؤاد الهيلالي الذي جاؤوا به بالأمس قصد التعرف علي ومواجهتي لتفنيذ إنكاري حضور ندوة وطنية بالدار البيضاء والتي ترأسها كل من الشهيد عبد اللطيف زروال وأبراهام السرفاتي عن اللجنة الوطنية لمنظمة " إلى الأمام"...وكانت صرخاته تدل على معنى واحد، إرغامه على الاعتراف، ولا محالة أن دوري آت بعده...كنت معصوب العينين ومكبل اليدين، حافي الرجلين..كانت البانضة " محكمة هذه المرة ولم أكن أرى شيئا خلافا للمرات السابقة...قال صاحب المكتب موجها كلامه إلى فؤاد الهلالي:
أحضرناه.أحضرناه.حضرناه...أليس هو ؟ وقفت صامتا ، وبعد لحظة جلجل صوت فؤاد الهلالي، وكان علي بردا وسلاما ، نطق وقال : لا أعرفه ..فجذبني الجلاد من قفاي وأخرجني من المكتب بسرعة.

عصابة العينين ،، العصبة،،  و  الأصفاد  كانا لا يفارقاني


ذات مرة حضر " الديب" إلى السرداب وقال:" ولد الفرملية "..نوض..اتكعد" هكذا كان يناديني دائما، وأحيانا كان يقترب مني ويركلني بقدمه قائلا: نوض..اتكعد...


قادني إلى الممر الرئيسي وسلمني لأشخاص. كان صوت المتكلم منهم غريبا عني، ولم يسبق أن حقق معي من قبل، في الطريق إلى المكتب قال: أنت ونحن الآن أمام الأمر الواقع، و" اللي عطا الله عطاه "..كل شيء أصبح واضحا...فلا داعي لأن " تكرفس على راسك وتعذبنا معك"..الكل اعترف..حتى رؤساؤك اعترفوا كلهم..السرفاتي وزعزع وبنزكري ...كلهم اعترفوا، المهم نحن نعرف كل شيء..
أخرج سيجارة وناولني إياها..لم أكن دخنت منذ مدة... جلست أمامه على كرسي، فقال:
هيا تكلم الآن...


شرعت في الكذب ، لاسيما فيما يتعلق بالأسماء والأوصاف والمعلومات الشخصية حول بعض الرفاق ، أما كل ما هو مرتبط بالنظريات والمواقف والأفكار فتعمدت الإسهاب فيه إسهابا، وفيما يخص تجنب إعطاء معلومات دقيقة حول أماكن الاجتماعات كنت أقوم بتأليف قصص خيالية حول طرق الاتصال، والتركيز على اللقاءات في الهواء الطلق ، وتعمدت الوقوف على تفصيلات خيالية اعتقادا مني أن هذا النهج سيعفيني من الكشف عن معلومات حول الأشخاص والأماكن، لكنه جلب علي المتاعب وسبب لي حصص تعذيب إضافية.


وفي إحدى المرات أخذوني من السرداب،وأثناء السير في الممر انقض علي أحد " الحجاج" وبسرعة خارقة ألقاني على الأرض...وفي لمح البصر كانت يداي مكبلتين خلف ظهري بعدما كانت مقيدة في الأمام...ظننت أنه كان يمزح مع أحد " الحجاج"، وأن القضية داخلة في إطار مزايدة حول سرعة إنجاز المهمة...لكن عندما أنهضني وأحكم عقدة " البانضة" زايلني الخوف...دنت ساعة التعذيب من جديد و" العلقة " و " التعليقة". انحدر بضري إلى قدمي من خلال الفجوة الضيقة بين " البانضة " والأنف ورأيت أنني أقف على زريبة وفهمت أنني ربما بمكتب " باطرون " الدرب أو أحد معاونيه...وما هي إلا لحظة حتى بدأت الأسئلة تتناثر من هنا وهناك...كلمات تدوي من كل جانب..وكنت في كل مرة أدير وجهي نحو مصدر الصوت...وهي لحظة ساد فيها الصمت..تحرك كرسي غير عاد، من النوع الرفيع، فاقترب شخص مني، فاحت رائحة غريبة عني لم يسبق أن صادفتها منذ قدومي إلى الدرب فقال: خذ!...خذ! وما أن انتهى من كلامه حتى انهمرت ضربة قوية على قفاي وقال قائل: ألا تسمع " الحاج" يقول لك خذ..مددت يدي وإذا بي أصادف لهيب ولاعة، أظن أنه أراد التيقن من كوني لا أرى عبر " البانضة" لما لاحظه من استدارة وجهي نحو مصدر الكلام، شمالا ويمينا.


أجلسوني على ركبتي وبدأ الاستنطاق مرة أخر حول جواز سفر ومجموعة من الأسماء لا أعرفها ولا علاقة لي بها...وكانت الصدمات الكهربائية هي الوسيلة المعتمدة في تلك الحصة...كانت أصوات السياط تأتي من قريب ترافقها صرخات حارقة تملأ الجو حولي...آنذاك تذكرت أمي وأبي وإخوتي وكل من كانت لي علاقة معه وأنا شاب في الثانية والعشرين من عمري..وجوههم تتراقص أمام عيني وتداعب خيالي..مكثت على هذه الحال برهة من الزمن...شعرت كأنني أرتفع وأصعد تارة ثم أهوي بسرعة تارة أخرى...وأصوات الصراخ والسياط آتية من كل جانب...ولم أعد أتذكر شيئا.


هكذا تعرفت على الشيخ ياسين

cheikh Abdelam YASSINE

وأنا أتصفح كتاب الأستاذ المجدوبي " التناوب عل الحصار " رجعت بي الذاكرة إلى منتصف السبعينات حينما كنت ضيفا رغما عني على المعتقل السري درب مولاي الشريف بالدار البيضاء..


بعد حصص التعذيب المتكررة والمتتالية في الجزء الأخير من الليل، عندما كان الجلادون يعيدونني إلى مكاني بالزنزانة منهوك القوى..معصوب العينين ومكبل اليدين...كان صوت صادق رخيم يترامى إلى مسمعي، وهو يتعمد الرفع من موجاته الصوتية رغم سيادة الصمت والمنع الكلي للكلام هناك تحت طائلة العقاب والتنكيل الشديدين تاليا آيات قرآنية موضوعها الصبر والتعالي عن الواقع المر وضعف الباطل والبهتان وملء القلب بحب الله العلي القدير، حتى لا يبقى فيه مكان للتفكير في آلام المحن والتعذيب والقهر...وتكرر الأمر أكثر من مرة دون أن أتعرف على صاحب الصوت الصادق الرخيم..

وبعد مرور مدة قصيرة، شرعت في محاولات التعرف عليه رغم تضييق الخناق ليل نهار على ضيوف درب مولاي الشريف..كتب لي التوفيق في هذا المسعى بعد عدة إخفاقات. كان صوت الملاخ، وهو من الرعيل الأول لأتباع عبد السلام ياسين بمعية العلوي الذي كان قبل اعتقاله وإيداعه بالدرب مديرا لمدرسة ابتدائية بمدينة مراكش في منتصف السبعينات. وكان سبب اختطافهما هو قيامهما بطبع واستنساخ الرسالة المشهورة لعبد السلام ياسين " الإسلام أو الطوفان" وذلك بوسائل وإمكانيات بدائية يديوية (لاليمونيير).
جمعنا أنا والملاخ والعلوي قاسم مشترك، إذ تم اختطافنا، وكنا ضحايا للاعتقال التعسفي لمجرد أن آراءنا كانت مخالفة، اختلاف السماء عن الأرض عن الأفكار السائدة آنذاك...


أصبحت أتحين الفرص، وعندما توفرت الفرصة، رغم المراقبة الدائمة والحراسة اللاصقة ليل نهار، تمكنت بعد جهد جهيد من التحدث إلى الملاخ واستفسرته عن فحوى الرسالة وعن كاتبها الذي كان آنذاك في المستشفى، من جراء تدهور حالته الصحية...


هكذا تعرفت على عبد السلام ياسين وكان عمري آنذاك عشرون حولا ونيف.


تعرفت عليه بدءا بالسماع..ومنذ ذلك اليوم ، كلما سنحت لي الفرصة ، كنت أتواصل بالرموز والحركة مع الملاخ، وأحيانا ، نسترق وقتا للكلام...وكان حديثنا القصير يدور حول فحوى " الإسلام أو الطوفان".


هكذا كان لقائي مع بعض أفكار عبد السلام ياسين داخل غياهب السجن السري حيث كانت تكتم أنفاس الإنسان وتحاصر.

 

حظينا في غشت 1976 بإفراج " مزيف كان الهدف من ورائه انتزاع اعترافات إضافية ومجموعة 26 بقيت في الدرب وتحملت التبعات

مغادرة درب مولاي الشريف

 

في بداية شهر غشت 1976 بدأ القائمون على درب مولاي الشريف ينادون على ضيوفه الواحد تلو الآخر لتوقيع المحاضر التي نصت كلها على أن المنظمة التي ينتمون إليها أنشئت لقلب النظام.


فكل من طالب بالإطلاع على المحضر كان نصيبه علقة وحتى من تمكن من الإطلاع عليه، قام بذلك في ظروف وأجواء لم تكن لتسمح بأي شكل من الأشكال باستيعاب ما تضمنته بفعل عدم توفر الوقت وبفعل الضرب والشتم والدفع وسوء المعاملة أثناء القراءة. فكان الواحد منا مضطرا إلى تخطي كلمات وعبارات وفقرات وربما صفحات. وهناك من رفض التوقيع، من بينهم عبد الرحمان نودا، ، ورغم ذلك كل المحاضر قدمت موقعة دون اسثتناء ، وكانت تلك المحاضر هي الأساس المعتمد لإدانة المتهمين.


في أواخر شهر غشت بدأ تسليم الملابس الشخصية لأصحابها. أزال الجميع البدلة الكاكية وارتدينا ملابسنا التي دخلنا بها إلى الدرب.
عم نوع غريب من الفرج والإحساس بنوع من الانتصار لاسيما بالنسبة للذين صمدوا في وجه الجلادين ولم يكونوا سببا مباشرا أو غير مباشر في اعتقال أي أحد. لكن بعد ترحيل الأغلبية ظلت مجموعة 26، وكنت من ضمنهم، حيث طلب منا إعادة الملابس المدنية وارتداء عوضها الكاكي من جديد وبذلك ولجنا مرة أخرى الجو الجهنمي. عندما بدأ الترحيل وتقديم ضيوف درب مولاي الشريف إلى النيابة..أنكر كل الرفاق ما ورد بالمحاضر جملة وتفصيلا أمام وكيل الملك وقاضي التحقيق. وفي جو فرحة مغادرة الدرب كشف بعض الرفاق « للحجاج" عن كل الطرق والأساليب التي كنا نتواصل بها ظانين أن ساعة الرحيل حانت بالنسبة للجميع، وكان هذا خطأ فادحا أدت ثمنه غاليا مجموعة 26 الذين ظلوا بالدرب إذ أضحت الحياة به أصعب من السابق..هكذا كان على الباقين البداية من الصفر.



الغرزة متقونة

 

في يناير 1976 أخذونا إلى النيابة ، وعندما جاء دوري أدخلوني على شخص بدا لي أداة لتغطية وتبرير جرائم "لاإنسانية " بثوب قانوني لا يقوى على تبرير الجرائم المقترفة في درب مولاي الشريف في حق صفتنا الإنسانية. وسكنني تساؤل منذئذ: كيف يرى كل من ممثل النيابة وهيئة المحكمة التي حاكمتنا والجلادون الذين تفننوا في تعذيبنا أنفسهم، هل فعلا هم راضون عن أنفسهم وعن ما فعلوا ؟
احتجزت لدى الشرطة بين الخميسات والقنيطرة ودرب مولاي الشريف ما يقارب السنة بدون محاكمة، وما زلت أذكر أول حصة أمام قاضي التحقيق، إذ طلب المحامي الذي تكلف بمساندتي ذلك اليوم وأظن أنه الأستاذ جاد العراقي من هيئة القنيطرة بوثائق تمديد الاعتقال، فضحك ضحكة مريبة وأشار بيده إلى أحد أركان مكتبه مشيرا إلى أكوام من الورق قائلا: كل شيء موجود يا أستاذ. ها هي التمديدات يمكن البحث عن التمديد المتعلق بالمتهم. إلا أنه سنضيع الوقت بدون جدوى. وما زلت أذكر تعقيب الأستاذ جواد العراقي الذي قال: يبدو أن الغرزة متقونة، وهو يبتسم ابتسامة مؤدبة لم تتجاوز حدود اللياقة. إن كل ضيوف درب مولاي الشريف تم اختطافهم ولم يتم تبليغ ذويهم باحتجازهم وبأسباب اعتقالهم في الظل.وغالبا ما كان الأهالي والمحامون يتصلون بمصالح الأمن الوطني للسؤال عن المفقودين لكن بدون جدوى..محتجزين في معتقلات سرية ومن ضمنها درب مولاي الشريف.

 

الإضرابات عن الطعام

 

انتهى التحقيق وبدأ انتظار تاريخ المحاكمة وتعيين يوم الجلسة. وكانت المماطلة، لذا قررنا شن إضراب عن الطعام للمطالبة بالمحاكمة. وهذا ما كان..فرضنا الإسراع بتحديد تاريخ المحاكمة بفضل نضالنا ومساندة القوى الحية للشعب المغربي لنا.


ففي غضون شهر نونبر 1976 تقرر الدخول في إضراب عن الطعام...إضراب لا محدود للمطالبة بالتعجيل بالمحاكمة ، وكنت آنذاك ضمن مجموعة سجن غبيلة (السجن المدني السابق بالدار البيضاء) ، وبالضبط ضمن مجموعة 26 التي كان يوجد فيها السرفاتي وزعزع والكرفاتي وإدريس بنزكري وجبيهة رحال وحسن السملالي ، وعلال الأزهر، وعبد السلام المودن، والأخوان الوديع وفؤد الهيلالي ، والسريفي والتمسماني الخلوقي والزكريتي وشيشاع ميمون وعبد الجبار حسون ونودا عبد الرحمان وآخرون وأغلبهم من قيادي التنظيمين " إلى الأمام" و " 23 مارس" وبعد 19 يوما توقف الإضراب عندما تقرر تحديد المحاكمة في غضون شهر ماي إلى أن بدأت في 3 يناير 1977.

martyre Saida MENABHI
ومن القضايا التي أصبحت تشغلنا بعد فرض المحاكمة محاولة فهم وضعنا من وجهة القوانين والنصوص التي سيتم الاستناد إليها واعتماده لمحاكمتنا.
أما الإضراب الثاني فكان بعد ترحيلنا إلى السجن المركزي بالقنيطرة. وهكذا في شهر نونبر 1977 تم شن إضراب غير محدود عن الطعام قصد المطالبة بتحقيق جملة من المطالب نعدها مشروعة ومن حقنا الاستفادة منها كمعتقلين سياسيين، أي معتقلي الرأي، ومن ضمنها فك العزلة عن جميع المعتقلين السياسيين ليتمكنوا من اللقاء فيما بينهم والعيش في حي واحد. وكذلك الاعتراف الرسمي، بدون لف ولا دوران بصفتنا معتقلي الرأي، معتقلين سياسيين ومطالب أخرى متعلقة بالزيارات والتغذية والتطبيب والدراسة والكف عن التعذيب والضرب والإهانات والممارسات التعسفية، والحق غير المشروط بالتوصل بالكتب والصحف واستعمال المذياع.
وخاض هذا الإضراب جميع المعتقلين السياسيين، ما عدا مجموعة صغيرة لا يتعدى عددهم الثمانية. وكانت مختلف الترتيبات تم ضبطها بإحكام قبل شن الإضراب، كما تم تعيين لجنة المفاوضات وكنت ضمنها أمثل مجموعة حي أ ـ 2.
وبعد أسبوعين أو ثلاثة بدأت إدارة السجن المركزي بتنقيل المضربين إلى مستشفى الإدريسي لاسيما أنها فشلت فشلا ذريعا في إطعامهم بالقوة بواسطة الخرطوم.
في اليوم17 من الإضراب وصلنا النبأ الفاجعة..نبأ استشهاد سعيدة المنبهي، وكان واضحا لدينا آنذاك أن مسؤولية استشهادها تتحمله الحكومة في شخص وزير العدل آنذاك.
وبدأت المفاوضات مع إدارة السجن المركزي بحضور مسؤولين عن الإدارة العامة للسجون في المغرب وبعض الفعاليات السياسية المرموقة من الرباط والقنيطرة، كان ضمنهم الدكتور الخطابي الذي قال لنا " لا تقضوا على حياتكم، البلاد ما زالت في حاجة ماسة لرجال من طينتكم". وشملت المفاوضات الأولى مختلف المطالب. ومازلت أذكر حادثة مضحكة عندما وصل بنا الحديث ضمن تلك اللجنة عن التعذيب والقمع الممارس بالسجن، فبادر مدير السجن المركزي ينفي نفيا قاطعا أمام الحاضرين حدوث أي تصرف من هذا القبيل، فانتفضت في وجهه قائلا:
هل أنت متأكد..أما زلت تذكر ماذا فعلت بي في شهر رمضان؟ ألم تصدر أوامرك على مسامعي لضربي وتعذيبي ؟ هل نسيت ؟
اقترب مني أحد الرفاق وهمس لي:" كفاك يا إدريس ألا تعلم أن النمور، تلك النمور تصبح من ورق عند الجد".
المهم دام الإضراب 45 يوما واستطعنا تحقيق جزء من مطالبنا، وبعد أيام قضيناها بمستشفى الإدريسي بالقنيطرة تحت حراسة مشددة، عدنا إلى السجن المركزي، ولم تمر إلا أيام معدودة حتى أعلنا عن إضراب آخر عن الطعام غير محدود كذلك، بعد أن صرح وزير العدل آنذاك عن نزع صفة المعتقلين السياسيين عنا.

على إثر الإعلان عن الإضراب أقدمت إدارة السجون على توزيع المجموعة وتشتيتها على عدة سجون بالبلاد بهدف النيل من وحدتها وشل حركتها وتمزيق تماسكها عبر خلق أجواء العزلة بين أفرادها. ظلت جماعة بالسجن المركزي بالقنيطرة وأودعت أخرى بالسجن المدني في الشاون وأخرى في سجن عين بورجة بالدار البيضاء .


أما أعضاء لجنة المفاوضات الموسعة فتم إبعادهم عن المجموعات وتوزيعهم على بعض السجون لفصلهم فيما بينهم وعزلهم عن المجموعة وعن باقي المعتقلين. وهكذا تم تنقيل بعض أفرادها إلى الدار البيضاء ومن ضمنهم عبد الفتاح الفاكهاني ومحمد السريفي وآخرون، أما أنا فنقلت رفقة إدريس بنزكري إلى السجن المدني بمدينة تازة، وفي طريقنا إلى هناك تم إيداع مصطفى التمسماني الخلوقي بسجن عين قادوس بمدينة فاس.


Driss benzakri


بسجن تازة أودعوني في زنزانة وإدريس بنزكري في زنزانة أخرى مجاورة، في جناح معزول كليا عن باقي السجناء، محجوبين عن أنظارهم. كنا وحدينا في الجناح. وفي اليوم الثالث أو الرابع ناديت كعادتي على إدريس إلا أنه لم يجب، ظننت أن شيئا ما حدث له...امتلكني القلق وسكنني الرعب لاسيما وأن صحته لم تكن على ما يرام حتى قبل الدخول في الإضراب. وعندما أخرجوني للفسحة اليومية توجهت إلى زنزانته فوجدتها فاغرة وعلمت بعد ذلك أنه اقتيد إلى الدا رالبيضاء للقاء مع السرفاتي وبعض أعضاء لجنة المفاوضات من أجل التفاوض. وفي الغد جاءني مدر السجن المدني بتازة أظن أنه ميمح آنذاك وهو نفسه الذي سيدير السجن المركزي بالقنيطرة سنوات بعد ذلك جاءني رفقة ثلة من السجانين وقادوني إلى هاتف في أحد المكاتب، ربما كان مكتب رئيس المعتقل، وفي طريقي قال لي المدير إنها المرة الأولى التي يتكلم فيها سجين عبر الهاتف هنا من قلب سجن تازة..كانت مكالمة هاتفية بيني وبين عبد الفتاح الفاكهاني الذي أخبرني بنتائج المفاوضات وأخبرني رسميا وبصفة مسؤولة بضرورة توقيف الإضراب حالا، علما أنه سيتم ترحيلي عما قريب إلى مدينة القنيطرة للالتحاق بالمجموعة بمعية التمسماني الخلوقي الموجود آنذاك بسجن مدينة فاس.


كان الإضراب الثاني إضرابا انتحاريا ، وأظن أنه دام ما يناهز 17 يوما، وكان المغرب آنذاك يقول لنفسه وللعالم إنه لا يوجد به معتقلون من أجل الرأي أو معتقلون سياسيون وإنما يوجد بسجونه فقط سجناء الحق العام ومخربون أدانتهم المحاكم علانية ، آنذاك كانت منظمة العفو الدولية (أمنستي) تتوفر على معلومات كافية على وجود معتقلي الرأي وعلى ممارسة التعذيب في بلادنا. كما أن الرأي العام الأوروبي كان على إطلاع أكثر من المغاربة أنفسهم على حقائق وأحوال المعتقلين السياسيين، إذ أسست لجان لمساندة مجموعة من المعتقلين بأسمائهم وصدرت عدة نشرات حول الموضوع، وتوصلنا، ونحن بالسجن المركزي بالقنيطرة بكتاب le Procès حول محاكمتنا (مجموعة السرفاتي 1977) وبه معلومات ضافية عن المحاكمة وعن جميع معتقلي المجموعة.



ملف قضية السرفاتي ومن معه

 

بدأت المحاكمة في 3 يناير 1977، وعين أحمد الفيزازي رئيسا لهيئة القضاء الجالس التي تكلفت بالنظر في ملف قضية السرفاتي ومن معه كما كان يقال آنذاك. وبلغ إلى علمنا ونحن في سجن غبيلة بالدار البيضاء أن عددا من القضاة لم يكونوا متحمسين لرئاسة الهيئة. بل قيل إن هناك منهم من تهرب من القيام بهذه المهمة. وتحمل مسؤولية البحث في ملف النازلة. كما بلغ إلى علمنا أن الرئيس المعين وعد بالترقية بعد نهاية المحاكمة، وفعلا بعد نهاية المحاكمة تم تعيينه رئيسا لمحكمة الاستئناف بطنجة على ما أذكر، وهذا من شأنه الدفع إلى تصديق ما قيل.

Serfaty en companie de sa femme christine
منذ البداية تأكد لنا أن المحاكمة كانت محبوكة لدرجة أن كل الموازين قلبت رأسا على عقب. فمن المعلوم أن الاستنطاق يبدأ عادة بالمتهمين الرئيسيين في الملف لينحدر إلى باقي المتهمين، لكن بالنسبة لمحاكمتنا وقع العكس تماما.


كانت المحاكمة أشبه ما تكون بتمثيلية صاخبة يشاهدها جمهور على علم باللعبة مسبقا، لكن رباطة جأش وصلابة الشباب الذين كانوا يحاكمون أعطيا طعما آخر للمحاكمة، وذلك بتحويل المحاكمة المفبركة إلى محاكمة مضادة، لاسيما عندما قرر المعتقلون مقاطعتها وإعلان كل واحد منهم أمام الملأ مقاطعته للمحاكمة لعدم توفير أدنى شروط الدفاع.


أمام الرئيس، والقاعة غاصة تكلم المعتقلون عن التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له، وأبوا إلا أن يوضحوا ذلك رغم محاولة الرئيس المتكررة إسكاتهم وقمعهم بمختلف الأساليب، من تهديد وتسويف ومحاولات تقليل الشأن، وأحيانا كثيرة حدثت مواجهات بين الرئيس والمعتقلين، وانقلبت الأدوار فأصبح المتهم هو الذي يوجه الأسئلة للرئيس والقضاء الجالس، أسئلة من قبيل: ما رأيكم سيدي الرئيس وما رأي المحكمة الموقرة في هذه العلامات ( إمارات التعذيب البادية للعيان ).


في إحدى الجلسات وقف عبد الله زعزع أمام القاضي وخلع حذاءه. جلس على الأرض ورف قدميه وبين بالملموس ومباشرة لهيئة المحاكمة وللحاضرين، وأغلبهم من عائلات المعتقلين، آثار ما نزل به من عذاب شديد بدرب مولاي الشريف. وبطبيعة الحال حاول الرئيس كعادته التقليل من درامية المشهد لكنه فشل وبدا بوضوح مرة أخرى أن محاكمتنا ليست محاكمة عادية وغنما محاكمة محبوكة الخيوط مسبقا. فكم من مرة لاحظ الجميع خروج رئيس الجلسة عن القواعد المتعارف عليها في مجال القضاء وتوفير شروط وظروف الدفاع بدون قيد ولا شرط، علما أن القاضي، كما هو في عرف الخاص والعام، عليه أن يكون رجلا عادلا مجردا هادئ النفس يزن الوقائع بصدق دون تحيز، ويحرص على العدل والعدالة والإنصاف والحيلولة عن العنت والقهر. في هذا الصدد. رأى أحمد الفيزازي بأم عينيه آثار التعذيب الوحشي والهمجي بادية وواضحة على أجزاء أجسام أكثر من واحد منا...ورغم ذلك أنكر إنكارا تاما وباتا وجود أدن إكراه لانتزاع الاعترافات بالقوة، ولما تبينت عدم قدرته على الإقرار بواقع ماثل للعيان بالحجة والبرهان، تعددت حالات نرفزته وقمعه للمستنطقين لذا فلم نكن ننتظر منه إلا الانتقام في نهاية المطاف. وكم من مرة أظهر الرئيس بوضوح جلي أنه ينطلق ليس من القاعدة الأولى القائلة إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته وإنما كان ينطلق من القاعدة المناقضة تماما، أي أنه متهم حتى تثبت براءته، لذلك اجتهد اجتهادا في إبعاد كل ما من شأنه تبرئة المتهم أو تسليط الأضواء على الملابسات وتأكدت اللعبة أكثر عندما لاحظنا استقرار جلادي درب مولاي الشريف بقاعة تقع بالضبط أسفل قاعة المحاكمة للقيام بتسجيل ما يدور بها. وصرح أحد المتهمين أمام الملأ إبان استنطاقه بأن الجلادين الذين تفننوا واجتهدوا في تعذيبنا يوجدون حاليا معنا هنا ( وهو يشير بإصبعه إلى الأسفل).


كانت محاكمتنا صورية بامتياز، شكلا ومضمونا. وحتى الأحكام صدرت انطلاقا من تعليمات ، ولم تكن شروط وظروف الدفاع متوفرة حتى في حدها الأدنى المقبول.


منذ بداية المحاكمة اتضحت اللعبة ، وتبين أنها مسرحية محبوكة الخيوط والديكور ، وأن توقيتها فرض فرضا لذلك كان الانتقام متوقعا، وهذا ما جرني إلى التساؤل ..ما دام الأمر كذلك لماذا من الضروري أن يقوموا بما يقومون به...وكلاء النيابة وقضاة يحققون ومصاريف وحبر وأوراق وضياع الوقت والجهد وذهاب وإياب وحراسة مشددة وتطويق الحي الذي توجد به المحكمة وقطع الطرقات..ما دامت اللعبة انكشفت...فما الداعي لذلك؟..كان يكفي تبليغ العقوبة للمعنيين وتوفير المال والمجهود.

 

تراوحت الأحكام بين المؤبد وخمس سنوات نافذة وتمت مقاطعة " الوجدي" لأنه تسبب في اعتقال العشرات بتصرف طائش بعد أن أهدى معلومات مجانية للجلادين

منذ أن علمنا، ونحن نقبع في سجن الدار البيضاء، أن رئيس الهيئة حظي بوعد بالترقية، انتصبت عدة علامات استفهام حول الموضوع، وهذا ما دفع البعض إلى اعتبار أن الأمور كانت " مفروشة" والتعليمات " معطية ". علاوة على أن المحاكمة تمت استنادا على اعترافات منتزعة بسوء المعاملة والتعذيب الوحشي غير المطاق. وبعيدا عن كل ضغينة، أقول إنه لم يفلت أحد ضيوف درب مولاي الشريف من التعذيب، كل ضيف من ضيوفه عزز وكرم تعذيبا وتنكيلا وقهرا، كل واحد منا نال حظه بسخاء ولم يحرم منه حتى الإناث والمرضى والمسنون والمعاقون.


وهناك حادثة يمكن إدراجها في إطار المحاكمة المسرحية وهي حادثة مرتبطة بالمعتقل " الوجدي" وهو أحد قياديي منظمة " 23 مارس" وكان هو أول من اعتقل في غضون سنة 1975 صدفة حيث أوقفه شرطي المرور قصد مراقبة أوراق ووثائق الدراجة النارية التي كان يمتطيها إلا أنه حاول الفرار نظرا لعدم توفره على أي وثيقة، علما أنه آنذاك كان يعيش في السرية وكان من الأشخاص المبحوث عنهم. ومن هنا انطلقت سلسلة الاعتقالات. وهكذا استطاع البوليس اعتقال عدة رفاق في فترة وجيزة جدا. آنذاك انطلقت موجة الاختطافات بالجملة ، بالعشرات في اليوم أحيانا، وبدأ تكديس المختطفين ، في البداية بمخفر الشرطة، ثم بدرب مولاي الشريف مباشرة .
ولم يستحسن أغلب الرفاق تصرف " الوجدي" لاسيما وأنه صادر عن مسؤول قيادي آنذاك بمنظمة "23 مارس" ما أدى إلى اتخاذ موقف عزله ومقاطعته منذ وصول المجموعة إلى سجن " اغبيلة " بالدار البيضاء. وما عدا ثلاثة أو أربعة رفاق من ضمنهم المرحوم عبد السلام المؤذن وعلال الأزهر لم يكونوا متفقين على قرار مقاطعة الوجدي وللإشارة فكل هؤلاء كانوا ضمن مجموعتنا (المجموعة 26 ) التي كانت معزولة عن باقي المعتقلين السياسيين بنفس السجن.
كانت اعترافات " الوجدي" أحرجت أغلب المعتقلين، كبلتهم وجعلت مواجهتهم للجلادين بالدرب صعبة للغاية من جراء المعلومات الضافية التي أهداها لهم بسهولة، وأحيانا " مجانا"، رغم أنه كان من القياديين وبالتالي ملزما بالصمود أكثر من غيره كما كان سائدا في اعتقاد الجميع آنذاك.
في بداية المحاكمة صرح " الوجدي" أمام هيئة المحكمة أنه يلتمس مقابلة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني " لقضية غاية في الخطورة " وقبل مطالبة دفاعه بالخبرة الطبية وقعت حادثة كان لها وقع شديد على جميع المعتقلين آنذاك.
إذ أنه حينما كنا نتأهب للصعود إلى السيارات التي ستقودنا من السجن إلى المحكمة منع " الوجدي" أحد رجال " السيمي " من تكبيله بالأصفاد، وبعد أخذ ورد صاح " الوجدي" قائلا:" الكل على علم الآن أنني أتعامل معكم فلا داعي لمعاملتي مثلهم "...ورفض قبول تكبيل يديه ككل المعتقلين.
وإثر هذا الحادث المتوقع قررت المحكمة فصل ملف " الوجدي" عن محاكمتنا الجارية اعتبارا لخلل عقلي أصابه بحسب قرار المحكمة الموقرة. وهناك حادثة أخرى حولت مجرى المحاكمة رأسا على عقب. ففي جلسة 18 أو 19 يناير 1977، ندد أحد الرفاق بتصرف رئيس الجلسة تجاه أحدنا، فدوت في القاعة صيحة قائلة هادي مهزلة..فاشيستي...
غضب رئيس الجلسة غضبا لم يسبق أن غضب مثله منذ بداية المحاكمة، فقال بالحرف:" لي قالها...إذا كان رجل فليقف...فوقفت القاعة عن آخرها وصاح الجميع " فاشي...نازي...وما كان أمامه إلا النهوض بسرعة وهرول مغادرا القاعة.
وبعد عودتنا إلى السجن طبقت علينا إدارته العزلة ولم نعد نلتقي، فتقرر الدخول في إضراب عن الطعام ومقاطعة المحاكمة.


  أصحاب البذل السوداء


رغم الجهود التي بذلت من أجل طمس استشهاد عبد اللطيف زروال من جراء التعذيب الوحشي وسوء المعاملة، انفجرت قضيته أمام الملأ. ورغم تصريح أغلب المحامين بكون محاضر البوليس ملطخة بدماء المعتقلين وبالتالي وجب إبعادها وعدم الاعتداد بها، ورغم معاينة آثار التعذيب البادية للعيان على أجساد بعض الرفاق، لم يتم الاعتراف بأي تجاوز، ولم يسأم الرئيس من النفي تلو النفي، وبدا نفيه هذا، في الحقيقة، كتزكية واستحسان لما وقع وكان يكرس في درب مولاي الشريف ومختلف المعتقلات السرية الأخرى تكريسا. وهذا اعتبار من الاعتبارات الكفيلة بإظهار أن المحاكمة لم تكن عادلة وإنما كانت فصلا من فصول مسرحية انتقام وذلك لعدة أسباب. من ضمنها أن توقيت محاكمتنا تم فرضه فرضا بالنضال المستميت.


...انتهت المحاكمة المفبركة وبقي الجميع في انتظار الأحكام. وجاء اليوم الموعود، يوم النطق بالأحكام ودامت الجلسة قسطا من النهار وليلة كاملة. وكان أول ما نطق به رئيس المحكمة: سنتين نافذة للجميع بدون استثناء نظرا لإهانتهم للقضاء. وآنذاك اقتنع جميع الرفاق أن لا أحد سيطلق
سراحه إلا بعد سنتين على الأقل، حتى أولئك الذين لا تسمح طبيعة وفحوى ملفاتهم بالاحتفاظ بهم داخل السجن محرومين من حريتهم. بعد ذلك شرع الرئيس في توزيع الأحكام التي تنوعت بين المؤبد وخمس سنوات نافذة.
قام ممثل النيابة بمجهودات جبارة لإخفاء حقيقة التعذيب الذي مورس على المعتقلين بمستويات متفاوتة، إلا أن مجهوداته ذهبت سدى لأن الحقائق كانت بارزة للعيان. وكان توفير الدليل بصمت، دون كلام: انتصب عبد الله زعزع وغيره أمام الهيئة، وجها لوجه، وخلع حذاءه ومكن الهيئة من معاينة آثار التعذيب، وكان ذلك بمثابة إدانة صامتة لم تكن في حاجة لا إلى كلام ولا إلى تعليق.
وكلما كان أحد المحامين، وما أكثرهم، يثير إساءة معاملة المعتقلين والتعذيب الذي مورس عليهم، كان ممثل النيابة يردد إجابة أصبحت اعتيادية لديه، يرددها بالحرف الواحد دون تغيير، وهي النفي وكون ما يقال هو مجرد اختلاق من طرف المتهمين تهربا من ثبوت التهم الموجهة إليهم، وذلك رغم علمه علم اليقين بعدم صحة ما يردده، وكان كلما ردد ذلك تبرز المهزلة أكثر لأن علامات التعذيب كانت لا تزال بارزة على الأجساد.


رغم أن المحامي الفرنسي بمساندة هيأة الدفاع، طالب بإبعاد محاضر الشرطة وعدم اعتبارها لأنها نتاج لتعذيب وحشي ذهب ضحيته الشهيد عبد اللطيف زروال، أصرت المحكمة على ضرورة الاعتماد عليه، وبذلك كذبت آثار التعذيب الماثلة أمامها وصدقت كل ما ورد في المحاضر من اعترافات منتزعة بالدم وما فبرك منها، وهذا في حد ذاته مشهد من مشاهد فصول مسرحية المحاكمة الصورية.
وقف المحامي الفرنسي، الذي جاء لبلادنا للدفاع عن منظمتنا " إلى الأمام" وبعض الرفاق وقال:" إن مرافعتي ستبدو لكم غريبة نوعا ما، لكن الظروف هي التي فرضتها " تم صمت ولم ينبس بكلمة..وبعد مدة أردف:
هذه مرافعتي، ابتدأت عندما صمت وانتهت عندما نطقت من جديد معلنا عن نهايتها، وذلك اعتبارا للظروف التي طبعت هذه المحاكمة والطريقة التي سارت بها مجرياتها.


وللإشارة فإنه هو المحامي الذي قدم ملتمسا للمحكمة يطلب فيه إبعاد محاضر الشرطة لأنها ملطخة بدماء الشهيد عبد اللطيف زروال.
كما أن محامية فرنسية هي كذلك، جاءت لبلادنا لمؤازرة بعض المعتقلين، وأثارت بدورها إشكالية المعاملة والتعذيب، لكن ممثل النيابة أجابها أكثر من مرة قائلا إن جميع الاعترافات أخذت طواعية وبمحض إرادة المتهمين دون اللجوء إلى أي نوع من الضغط والإكراه بدنيا كان أو معنويا..وتبسمت المحامية الفرنسية طويلا...وبرزت المهزلة بصورة أكثر فظاعة.

نعتنا من طرف إدارة سجن القنيطرة بالسياسيين لم يكن اعترافا منها بصفتنا ولكن من باب ترهيب سجناء الحق العام بهدف إبقاء جدار العزلة بيننا

 

السجن المركزي آخر محطة من المحنة


انتهت المحاكمة في 15 فبراير وفي 11 مارس تقرر نقلنا إلى السجن المركزي بالقنيطرة. بعد أيام من صدور الأحكام ، حضر رئيس المعتل بسجن " اغبيلة" بالدار البيضاء إلى جناح مجموعة 26 التي كنت ضمنها...كان يبدو عليه شيء من الارتباك فقال لنا إنه تقرر نقلكم إلى القنيطرة وعليكم ارتداء ملابس السجن الموحدة عوض الملابس المدينة، فقال له أحد الرفاق وأظنه السرفاتي أو عبد الرحمان نودا، ما زالت الأحكام الصادرة في حقنا غير نهائية ما دمنا طعنا فيها ونقضناها. إلا أن رئيس المعتقل أصر على أن نرتدي ملابس السجن، ولإقناعنا بذلك ختم كلامه بالقول إنه لا يطبق إلا الأوامر، وإنه عبد مأمور، وطلب منا تسهيل مأموريته، ثم شكرنا وانصرف.

groupe Sarfaty  Prison centrale de Kénitra
السجن المركزي بالقنيطرة من السجون المعروفة على صعيد شمال إفريقيا، معلمة من معلمات الاستعمار الفرنسي، كان يعتبر أكبر سجن بها إبان الحماية. ومر به كل رموز الحركة الوطنية المغربية تقريبا، وكذلك الأغلبية الساحقة من المعتقلين السياسيين بالمغرب منذ الخمسينات. فحتى ضيوف، آكل البشر، معتقل تازمامارت، تم اختطافهم من السجن المركزي بالقنيطرة، وهو السجن الوحيد الذي يحتوي على جناح المحكومين بالإعدام.


أودعونا بحي " أ" وحي "ب" وهما حيان مجاوران معزولان عن باقي الأحياء الأخرى، وكانا بالإضافة إلى حي "ج" آنذاك مخصصين للمعتقلين السياسيين المنضوين تحت لواء الحركة الماركسية الللنينية المغربي ( إلى الأمام ـ 23 مارس ـ لنخدم الشعب) وذلك في وقت كان فيه القائمون على الأمور ينكرون وجود معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين بالمغرب، لكن إدارة السجن كانت تنعتهم بالسياسيين، ولم يكن هذا اعترافا منها بصفتهم ولكن من باب تخويف وترهيب سجناء الحق العام بهدف إبقاء جدار العزلة بينهم.." عنداك هادوك سياسيين راهوم خطر" هكذا كان باقي السجناء يرون ضيوف حي " أ" وحي " ب" وحي " ج" بالسجن المركزي بالقنيطرة.


وحي "ج" كان مخصصا آنذاك لأول مجموعة من الحركة الماركسية اللينينية التي حوكمت بالمغرب، وكان ذلك في بداية السبعينات، قبلنا بسنوات، وكان ضمنها عبد الحميد أمين وعبد اللطيف اللعبي وعلي أفقير وبلفريج وحرزني واسيدون وآخرون وكان معهم بنفس الحي بعض مناضلي الجناح الثوري لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
كان آنذاك وما يزال السجن المركزي فضاء يجرد فيه الإنسان من إنسانيته وآدميته، فالسجان فيه لا يتقن إلا لغة واحدة قوامها القمع والتعذيب الجسدي والنفسي وتدمير المعنويات والدوس على الكرامة والاستغلال بمختلف ألوانه وأساليبه.

prison centrale "le dortoire"
هذه هي الحقيقة المخالفة بالتمام والكمال لكل ما يقال في الخطابات الرنانة التي تسعى جاهدة لتقديم السجن كمدرسة تقوم السلوك المنحرف وتعيد المخطئ إلى الطريق السوي المستقيم. فعلا إنه مدرسة لكن مدرسة لتعميق أعمال الإجرام والانحلال الخلقي والشذوذ بمختلف أنواعه وتلاوينه ، فالكل قذر في السجن، الأجواء والتصرفات والسلوكات والعيش اليومي، إنه فضاء لتعميق الانحراف وصقله وتكريس العنف بمختلف أنواعه كنهج وآلية للعقاب والنبذ ، السجن آلة قمعية رهيبة تدمر الإنسان وتحوله إلى مجرم من حيث لا يدري وتنتزع منه كل إحساس بالكرامة. إنه فضاء يكرس فلسفة تعمق الفردانية والأنانية وتقتل روح التعاون والتضامن لتحويل السجين إلى أداة طيعة في يد إدارة السجن والسجان. والسبيل لبلوغ هذا الهدف هو القمع والقهر المستمرين الدائمين، والإهانة والتفتيش ومختلف أساليب وطرق الحرمان والعزلة و " الكاشو" ويزداد الأمر سوءا بتحسيس السجين الفقير بقهر مضاعف أكثر بسبب الرشوة والمحسوبية واللعب على ورقة العفو والمضاربة بصدده ونشر الإشاعات للمتاجرة فيه لجعل السجين يركن إلى الانتظار والتخلي عن المواجهة والاحتجاج والتصدي.
حتى الاستفادة من الحقوق الأساسية مرهونة بالرشوة والزبونية والمحسوبية.


إن العقلية السائدة ما زالت عقلية ترتكز على الضبط والتأديب والعقاب والنيل من الكرامة عوض ارتكازها على عقلية الإصلاح والتربية وإعادة التأهيل والمعاملة الإنسانية ، إنه مؤسسة للعقاب وإعادة إنتاج الجريمة وتوسيع مدى النبذ والتهميش.
في هذا الفضاء حاولنا تنظيم حياتنا اليومية، وتدبير عزلتنا عن العالم بطريقة تجعلنا نضمن درجة من تتبع الأحداث والمساهمة فيها، ولو من بعيد، من وراء الأسوار العالية وخلف الأبواب الفولاذية.


ابتداء من سنة 1979 تم فتح نقاش واسع النطاق حول التجربة ومستقبل الحركة الماركسية اللينينة المغربية. وطفت على السطح خلافات واضحة حول جملة من القضايا الجوهرية، الشيء الذي أدى إلى بروز تكتلات وتوجهات وحساسيات متباينة بين جيل التأسيس وجيل الاستمرارية ومواقف أخرى لهثت وراء الشرعية آنذاك بأي ثمن.


فمن المعروف أنه في عقد السبيعنات كانت مختلق مواقف منظمة " إلى الأمام" تتمحور حول شعار " لا إصلاح ولا رجعية قيادة ثورية " كل الممارسات كانت تحاول تجسيد هذا الشعار. إلا أنه في النصف الأخير من الثمانينات حصل تحول جوهري في الموقف، لاسيما الموقف إزاء الهيئات السياسية والقوى الديمقراطية.


في أجواء النقاش الواسع تمكنا عن طريق المرحوم جبيها رحال من الحصول على مذياع جيبي صغير من نوع طرانزيستور وتعاونا، أنا وعبد الله زعزع والمرحوم جبيهة على ربط المعتقلين السياسيين بالعالم الخارجي، حيث كنا نقوم طوال الليل في الزنزانة بالتقاط الأخبار من مختلف الإذاعات ثم ننقلها كتابة إليهم للإطلاع عليها كل صباح.


وكان آخر لقائي مع المرحوم جبيهة رحال قبل ذهابه إلى مستشفى ابن سينا بالرباط، حين فاتحني حول موقفي من الهرب من السجن. وناقشنا الفكرة طيلة ليلة كاملة ، إلا أن ذهابه إلى الرباط حال دون تعميق النقاش في الموضوع.


وكان ذلك في غضون شهر شتنبر 1979. وفي ليلة 13- 14 أكتوبر لفظ رحال جبيهة أنفاسه الأخيرة وهو يحاول الهرب من الطابق الخامس لمستشفى ابن سينا بمعية البربري وأسيدون اللذين استطاعا الفرار ولم يعتقلا إلا بعد مدة.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات