الباب الثالث:
النزعة النقدية و الإصلاحية لدى الكواكبي:
1- نقد الإستبداد بين الكواكبي و" الفياري":
كنا قد بينا في تمفصلات تحليلنا السابقة اقتناع الكواكبي بضرورة الإستفادة من الفكر الغربي الحديث، وحضارته بل والإقتباس من تعاليمه إن كان ذلك يساعد العرب على الخروج من مستنقع التخلف والإنحطاط الذي هوَوْا فيه. وأتينا على ذكر بعض مؤثرات فلاسفة الأنوار على فكر الكواكبي. كما ألمحنا إلى أن أبرز الذين كان لهم تأثير عميق في فكر الكواكبي عند نقد الإستبداد، الأديب الإيطالي "فكتور الفياري"، حتى أنه بلغ من شدّة تأثر مؤلفنا بهذا الأديب أن امتدحه في كتاب "الطبائع" واقتبس الكثير من أفكاره، واستمد منه إطار كتابه... وسنحاول في هذا الفصل أن نلقي مزيدا من الأضواء على علاقة الكواكبي الفكرية بهذا الأديب بإقامة مقارنة نموذجية بين بعض ما ورد في كتاب "طبائع الإستبداد" للكواكبي، وكتاب "الإستبداد" للفياري في الجدول التالي:
الكواكبي الفياري المفهوم
الإستبداد: صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين... كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة.. تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد الوارث، أو المنتخب. ص31و32. الطغاة: كل الذين توسلوا بالقوة أو حتى بإرادة الشعب أو النبلاء إلى القبض
التام على أطراف الحكم ويعتقدون أنهم فوق القانون أو هم كذلك... والطغيان الصفة التي يجب أن تنعت بها.. أي حكومة يستطيع فيها الشخص المنوط بتنفيذ القوانين أن
يضعها أو يقضي عليها أو ينتهكها أو يفسرها أو يعرقل سيرها أو يوقفها وهو في مأمن من العقاب ص12و15.
مفهوم الإستبداد
المستبد على الدوام محاطا بالأعداء ملحوظا بالبغضاء، غير أمين على حياته طرفة عين. وكلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته ومن حاشيته. وحتى من هواجسه... ص 53.
لا استعباد ولا اعتساف ما لم تكن الرعية حمقاء تتخبط في ظلامة جهل وتيه عماء. ص 50.
كلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى الدقة في اتخاذ أعوانه من أسفل السافلين... فالتمجيد خاص بالإدارات المستبدة. وهو القربى من المستبد بالفعل. ص83
المستبد.. يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه عل ظلم الناس... ويذللهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلهم خاضعين له... ص36. الخوف والشك، رفيقان لا ينفصلان عن كل قوة غير شرعية.. ص24.
الجهل، والتملق والخوف أعطت ولا تزال تعطي الحكم الملكي المستبد شرعية وجوده. ص 18.
لا يشعر (المستبد) بالأمن إذا لم يعط المناصب الأكثر أهمية في الدولة إلى أناس لا أخلاق لهم... وقد باعوا أنفسهم له، يشبهونه ويفكرون بعماء بعده، وهذا يعني أنهم أكثر الناس ظلما وعسفا... ص28.
المستبدون:الخوف ركيزتهم والمليشيا والدين وسيلتهم ص 102.
ركائز الإستبداد ووسائله
إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه فالملك الجبار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته هي المذبح المقدس، والأقلام هي السكاكين وعبارات التعظيم هي الصلوات والناس هم الأسرى الذين يقدمون قرابين. ص 54. قصر الملوك هو هيكل الخوف، والمستبد هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة (أما) الحرية... وحب العدل والفضيلة والسعادة الحقيقية، ونحن أنفسنا فضحايا ندفع الثمن كل يوم...ص 22.
صفات الإستبداد
الإستبداد السياسي متولد من الإستبداد الديني. ص 35. الإستبداد الديني ولـّد الإستبداد المدني. ص 64. الإستبداد والدين
وأما أسراء الإستبداد...فملذاتهم مقصورة على مشاركة الوحوش الضارية في جعلها بطونها مقابر للحيوانات ومزابل للنباتات، وعلى استفراغهم الشهوة كأن أجسامهم خلقت دملا على أديم الأرض وظيفتها توليد الصديد ودفعه. ص131
..المعيشة البشرية، في الإدارات المستبدة (هي) محض نماء يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات والإحراج...ص102
... ولهذا فإن الفلاسفة المفكرين لدى الشعوب الحرة، لا يجدون أي فرق بين الحياة الحيوانية وتلك التي يحياها الإنسان الذي لا يتمتع بحريته، وبإرادته وأمنه، ولا يتحكم في نفسه... ولا يتمتع بسعادة حقيقية. ص 123.
إسراء الإستبداد لا أسمي حياتهم حياة إنسانية بل هي حياة النبات. ص 138
حياة الواقعين تحت الإستبداد
المستبد في لحظة جلوسه على عرشه... يرى نفسه كان إنسانا فصار إلاها. ص 65 المستبد لا يمكن أن يحب رعيّته ويرى أنهم تحته. ص 131. علاقة المستبد برعيته
حرص التمول يخف كثيرا عند أهالي الحكومات العادلة. ص 79. ...ويحسن بنا أن نلاحظ أيضا أن الفرق بين الإستبداد وبين حكومة عادلة... ص 16 نقيض الإستبداد
الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها، بآلام الإستبداد لا تستحق الحرية.ص140. الشعب الذي لا يشعر بوطأة العبودية قد وصل إلى درجة كبيرة من البلاهة، وهو لا يستحق الحرية السياسية. ص150
شروط الإنعتاق من الإستبداد
الإستبداد لا يقاوم بالشدّة، إنما يقاوم باللين والتدرج. ص 140. في الدول التي يوجد بها الإستبداد متجذرا منذ أجيال عديدة يصبح من الضروري توفير وقت كاف كي يستطيع الوعي المتأخر تحطيمه. ص 155.
كيفية التخلص من الإستبداد
يكشف لنا هذا الجدول المفاهيم الكثيرة التي استقاها الكواكبي من مؤلف "الإستبداد للفياري"، لكن ذلك لا ينقص من قيمة ما كتب الكواكبي في نفس هذا الموضوع (الإستبداد) ولا يقلل من طرافة ما حبّر. فلقد تميّز مؤلفنا بوضوح وإحاطة شاملة بموضوع بحثه – كما سبق وبينا - بالإضافة إلى محاولته الطريفة في التوفيق بين بعض منتجات الفكر الغربي الحديث وبين التراث العربي الإسلامي. لكنه لم ينج من انحيازات طبقية عندما قرر أن إدارة شؤون المجتمع يجب أن تبقى حكرا على فئة من أشراف الأمة، متناسيا أن الفرد الذي لا يشارك في إدارة شؤون مجتمعه هو إنسان ميت، وبالتالي فهو قد حكم بالموت على الملايين من أفراد المجتمع الذي يسعى لتغييره!؟
2- التقاطع بين الشرع والغرب في فكر الكواكبي:
كنا قد مهدنا إلى هذا العنصر بما ورد في تمفصلات تحليلنا من ذكر لبعض مؤثرات الفكر الغربي الحديث على أراء الكواكبي النقدية وأفكاره الإصلاحية واستقائه للكثير من المفاهيم والأفكار من الكاتب الإيطالي "الفياري" . فنلاحظ أن الكواكبي قد أقام منهجه الإصلاحي على ركيزتين أساسيتين:
الوعي بالوضع القائم.. ثم العمل على تغييره.. والوعي في رأيه مزدوج: وعي الذات ووعي الآخر...: أما وعي الذات فيتمثل في نفي ما يطمسها أو يشوشها من المفاهيم الخاطئة، خاصة تلك التي علقت بالدين الإسلامي، وفضح الممارسات الخاطئة التي ترتكب باسم الدين أيضا. وهذا لا يأتي إلا بتقديم المفاهيم الصحيحة، والحرص على إقامة كيان تنفيذي وهو الحكومة التي ترعى الممارسات الصحيحة وتمهد لها.
أما وعي الآخر (الغرب أساسا)، فالقصد منه الإستقلالية عنه: يقول الكواكبي في "أم القرى": "وأما الناشئة والمتفرنجة فلا خير فيهم لأنفسهم فضلا عن أن ينفعوا أقوامهم وأوطانهم شيئا". وقد قبل الكواكبي الإنفتاح على حضارة الغرب، سواء كانت مادية أو معنوية للإستفادة من علومه الصحيحة والصناعات المفيدة واقتباس أنظمة الحكم العادلة التي لا تخرج عن روح الإسلام كالديمقراطية والحرية والاشتراكية، دون مجاوزة ذلك التأثر بثقافته وفلسفاته المادية الملحدة..!؟: يقول الكواكبي كاستنتاج بعد مقارنة طويلة: "فهذه أمم أستراليا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للإتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والإرتباط السياسي دون الإداري. فما بالنا لا نفكر في أن نتبع إحدى تلك الطرق أو شبهها".
وهو إذ يدعو إلى الإقتداء بالغرب حتى في أنظمة الحكم يعتقد اعتقادا راسخا أن الغرب قد " قرّر قواعد أساسية في هذا الباب تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحق اليقين، فصارت تعد من المقررات الإجتماعية عند الأمم المترقية " مقتديا في ذلك بسلفه خير الدين التونسي الذي كان قد قرر هو بدوره أن أساس قوة أوروبا وازدهارها "المؤسسات السياسية القائمة على العدل والحرية"، ولا يمكن للأمة أن تستعيد قوتها ومجدها إلا إذا عرفت مكامن هذه القوة وتبنتها..!!؟؟
فالأصالة عند الكواكبي لا تعني رفض الآخر، أو عدم التفاعل معه أو الإنفتاح عليه .. وهي لا تعني كذلك عدم الإفادة منه أو محاكاته، فالأصالة في نهاية المطاف لا توّرث وإنما تبتدع بهدي من "الإسلامية" وهي ليست ماهية ثابتة وإنما هي قوة متحركة، فما يصلح لمجتمع معين في مرحلة معينة من تاريخه قد تنعدم فائدته تماما بالنسبة له في مرحلة أخرى، وبالتالي فإن معايير الأصالة في الماضي غيرها في الحاضر، وستكون في المستقبل غيرها الآن..
لم يكن هاجس الكواكبي إذن تحطيم الآخر أو نبذه، وإنما كان هاجسه بناء الذات، ومنذ أن تبنى الذات، تقوى وتستقل وتثبت هويتها إزاء الآخر، إن ضعف هذا البناء هو الذي يتيح للآخر الهيمنة والإستعمار، ويجعل الذات في تبعية دائمة له. ولا يجوز أن نغفل أن بناء الذات لا يجوز الإقتصار فيه على استخدام المادة التي ترثها عن الأجداد أو تملكها راهنا. وإنما يحسن بل يجب استخدام المادة المفيدة عند الآخر، تلك التي هيأ له استخدامها أن يتفوق وينتصر ويبني الحضارة. لكن شريطة أن تظل مادة الآخر خاضعة لخصوصية الذات.. والخصوصية هنا قرينة الأصالة، فهي تتمثل من ناحية في العودة إلى الأصل أي الدين والقضاء على جميع ما يتعارض مع وحدة الأصل و حقائقه الأزلية، ويتمثل من ناحية ثانية في تحطيم السلطوية الإستبدادية وإقامة الحرية والعدالة والمساواة... وهكذا تبدو النهضة عنده ليست عملية اقتباس، وليست عملية تحرر، إنها استمرار تفتح ضمن التاريخ العربي الإسلامي بهدي من مبادئ "الإسلامية" واستمرار في تعميق الوعي أي وصل ما انقطع في ممارسة "الإسلامية" وسيرتها وليس الآخر إلا نموذجا تحريضيا. فماذا يعني الكواكبي ب"الإسلامية"؟
3-الكواكبي والتجديد:
أ- مفهوم "الإسلامية":
انطلاقا من نظرة الكواكبي إلى "الذات" و"الآخر" التي حاولنا تحليلها في الفصل السابق، سعى في ثنايا نقده للإستبداد وتحديد مكامن الداء في المجتمع العربي الإسلامي،إلى تقديم البديل الفكري والسياسي والاجتماعي بهدف القضاء على الإنحطاط من جهة، وتحقيق النهوض والقوة من جهة أخرى. وغاية ما كان يسعى إليه من وراء ذلك، إحياء عظمة الماضي بحيث ينسجم مع متطلبات العصور الحديثة. وهو إذ ينظر إلى عصر الإسلام الأوّل "المجيد" كأنه صورة لما ينبغي للعالم أن يكون عليه في الحاضر، فهو قد شارك- في هذه النظرة- رواد النهضة العربية نظرة التقديس للماضي والإستلهام من ينابيعه التي لا تجف أبدا..! مقتنعا بأن "التاريخ يعيد نفسه".
إن النظرية التي يصدر عنها الكواكبي لتحقيق الأهداف والغايات التي رسمها للمستقبل هي ما يسميها ب"الإسلامية" وهي: الإختيارات التي يتبناها المسلمون في مختلف شؤونهم الحيوية، والحلول التي يستنبطونها لمشكلاتهم الحياتية مع اعتبار مقتضيات الزمان، دون الإخلال بالقواعد العمومية التي شرعها أو ندب إليها الرسول(ص) لأن الكواكبي يفرق بين "الإسلام" و"الإسلامية" فالأول هو الدين والثانية هي نظام الحكم الذي يطبقه المسلمون في حياتهم.
وبناء على ذلك ينادي الكواكبي بفتح باب الإجتهاد من جديد الذي كان إغلاقه أكبر مصيبة حلت بالمسلمين، ويرى أن الإجتهاد يجب أن يختص به العلماء المقتدرون ولا يجوز بذله في غير باب "المعاملات" أما "العقائد"فيكفي أن تطهر مما علق بها من شوائب فقط. ويبقى باب الإجتهاد وبذل الجهد الفكري فيما يتعلق بمشكلات الحياة المتجددة مفتوحا أبدا بل واجبا تحتمه الحياة ومصلحة المسلمين لمجاراة روح العصر انطلاقا من قاعدة "تغير الأحكام بتغير الظروف"!؟ فرؤية الكواكبي هذه تنبثق من الأصل/القرآن وتنظر على أنه يبقى مفتوحا قابلا للتلاؤم مع واقع الحياة المستجدة.
ب- تجديد الكواكبي في الجانب السياسي:
أولى ملامح "الإسلامية" هي الجانب السياسي والإداري. ويعرف الكواكبي السياسة فيرى "أنها إدارة شؤون الأمة المشتركة ورعايتها بمقتضى التقيد بقانون موافق لرغائب أفراد المجتمع وتكون هذه الإدارة بالتعاون والرضا من الجميع حاكمين ومحكومين"، وقد قدم مفهوما للمساواة كما أقرتها الثورة الفرنسية..: أي مساواة أمام قانون واحد يسري على جميع المواطنين حكاما ومحكومين في "نعيم الحياة وشظفها" لا فرق بين غني وفقير، وضعيف وقوي، وأبناء مذهب ومذهب، وبالتالي تنحصر وظائف السلطة التنفيذية أي الحكومة في إدارة شؤون الأمة بمقتضى التقيد بهذا القانون الصادر "عن جمع منتخب من قبل الأمة". ويظهر على ما يبدو أن موقع الكواكبي الطبقي والإجتماعي بوصفه ينتمي إلى عائلة الأشراف بحلب قد ساهم إلى حد بعيد في تحديد رؤيته السياسية عندما قرر أن "الإسلامية""مؤسسة"على أصول الإدارة الديمقراطية"،أي العمومية والشورى الأرستقراطية، "شورى الأشراف" وهو ما يكرس النخبوية في المجتمع الذي يدعو إلى إقامته الكواكبي، مع العلم أن نصوص الإسلام الداعية إلى الشورى جاءت عامة إلى كافة أفراد الأمة الإسلامية بدون استثناء دون أن تحدد أي صنف من الناس يختص بإدارة شؤون المجتمع دون بقية الناس، بل إن النصوص المشهورة في هذا المجال تخالف تماما رؤية الكواكبي السياسية النخبوية كقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" أو قول الرسول﴿ صلى الله عليه و سلم﴾: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
ثم يضيف الكواكبي أن لا إمكانية لنشوء الدولة المستقرة التي ترقى بأفرادها ما لم يتحول الحاكم إلى خادم مطيع يخضع للقانون بملء إرادته وتكون الرعية على وعي تام بسيرة حاكمها فتراقبه رقابة مشددة حتى لا يحيد عن الطريق السوي. ويمكننا أن نسأل الكواكبي هنا من أين لنا مثل هذه الرعية الواعية بدورها السياسي والفاعلة في مجريات الواقع ما دمت قد أحلت معظم أفراد هذه الرعية على التقاعد ليتركوا الأمر لأهل الحل والعقد المسمون عندك بالأشراف!؟
ويبدو أن الكواكبي كان مستلهما لرأي "منتسكيو" عندما ينبه إلى ضرورة فصل القضاء عن الحكومة والتفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم مؤكدا على أن مثل هذه المبادئ السامية قد جسدت في حكومة الرسول صلى الله عليه و سلم والخلفاء الراشدين وبعض السلف كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العباسي ونور الدين الشهيد...
وهكذا حاول الكواكبي "بمفاهيم إسلامية" تبرير تبني المؤسسات الغربية معتبرا ذلك التبني عودة إلى روح الإسلام لا إدخال شيء جديد عليه!؟، وقد جعلته ميولاته "الديمقراطية" يعتقد أن النظام البرلماني ليس سوى بعث لنظام الشورى الإسلامية على ما بينهما من فرق!!؟
ولم تتجاوز نظرته إلى الحكم الصالح الرشيد النظرة الدينية التقليدية التي تدعو الحاكم أن لا يحكم الهوى في حكم الناس وإنما عليه أن يحكم بالعدل.
فلم يحاول مثلا البحث في الطرق المناسبة والأجهزة المختصة القادرة على إجبار أي حاكم على الخضوع للقانون، كما لم يبحث في مصدر القوانين العادلة..!؟ بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يقرر في آخر كتابه "الطبائع" أن الإستبداد السياسي "لا ينبغي أن يقاوم بالعنف" وهو الذي كرس كل حياته في مقاومة الإستبداد!؟ محتفظا بتسمية الثورة "فتنة"!!؟؟
ج- تجديد الكواكبي في الجانب الإقتصادي والإجتماعي:
تقوم "الإسلامية" في وجهها الإقتصادي والإجتماعي على ما يسميه الكواكبي "بمعيشة الاشتراك العمومي" ومعناه: التعاون والإتحاد والتحابب والإتفاق.
"فالإسلامية" كما أسست حكومة ديمقراطية تقوم على الشورى والحرية، أسست أيضا أصول هذه المعيشة التي تهدف إلى تحقيق التساوي والتقارب في الحقوق والحالة المعيشية بين البشر، و تعمل ضد "الإستبداد المالي"بمعنى رأس المال.. حتى لا يصبح المال دولة بين الأغنياء فقط وحتى يستطيع فقراء الأمة اللحاق بأغنيائها.إن منع تراكم الثروات بأيدي أقلية يصبح ضرورة حضارية وأخلاقية، لأن تراكم الثروة يولد الإستبداد الداخلي و الإستعمار الخارجي.. كما أن تراكم الثروات بأيدي أقلية يضر بأخلاق الأفراد ذلك أنه توجد علاقة جدلية بين الغنى المفرط أو الفقر المدقع وانحطاط الأخلاق.
وبهذه النظرة العميقة يتجاوز الكواكبي ذلك النقد ذو المنزع الليبرالي الداعي للمساواة الحقوقية. والذي يأخذ على حكم الإستبداد تجاوزاته ومناقضاته للتشريعات والقوانين المرعية، منطلقة من احترام مجرد لهذه القوانين والتي لا تمثل في الواقع إلا مصالح تلك الفئة التي تسن تلك القوانين وتكرس الأعراف المناسبة لمصالحها الإجتماعية والإقتصادية، داعيا إلى ضمان فعلي لمصالح كافة شرائح المجتمع.
إن الإستبداد السياسي هو المسئول عن الظلم والقهر من جهة وعن التأخر الإقتصادي وعن الحيف الاجتماعي من جهة ثانية. أما "الإشتراك العمومي" فهو سر البقاء والتقدم لكل ما في الكون و"هو أعظم سر الكائنات". فهو طبيعي يتلاءم مع سنن الكون، وقوانين الطبيعة، ومن ثمة فإن الفردية المطلقة لا مكان لها في المجتمع الذي يدعو الكواكبي إلى إقامته، لأنها ضد نظام الكون وسنن الحياة. بالإضافة إلى أن الإشتراك العمومي أصبح حاجة ملحة في العصر الحديث وهو العمود الفقري لإنجاز الأعمال الكبرى التي لا تفي بها أعمال الأفراد كما أنه حجر الزاوية في "نجاح الأمم المتمدنة".
تنبع دعوة الكواكبي إلى "معيشة الإشتراك العمومي" من فلسفة قوامها أن ثروة المجتمع إنما هي "فيض" قد أودعه الله في الطبيعة، وبناء على ذلك فإن كل ما في هذه الطبيعة من ثروات وكنوز ظاهرة أو باطنة يجب أن تبقى عامة وأن يسود فيها قانون الإشتراك العمومي بين البشر العاملين في ترويض هذه الطبيعة وإخضاعها.
فالمال المستمد من الطبيعة لا يجب أن يملك.. وإذا جاز أن يختص بإنسان أو يدخل في حيازته فإن طاقة العمل الإنساني تكون هي السبب لهذه الحيازة وذلك الإختصاص، يقول الكواكبي في هذا المجال: "إن المال المستمد من الفيض الذي أودعه الله في الطبيعة ونواميسها... لا يملك إلا بعمل فيه أو في مقابله".
لكن هناك نوع من الثروة يجب أن تبقى عامة ومشتركة بين العاملين في المجتمع ولا يصح أن تملك أبدا وهي: "الأراضي والمعادن والأنهر، والسواحل، والقلاع والمعابد والأساطيل، والمعدات إلخ". مما هو لازم للجميع وتبقى للحكومة صفة الأمانة على هذه الأملاك.
والحاصل أن "الإشتراكية" التي يدعو إليها الكواكبي قائمة على دعامتين: أولهما الملكية العامة للثروة وتدخل في نطاقها جميع احتياجات البشر الضرورية لحياتهم سواء كانت مادية أو أدبية، وفي مقدمتها الأراضي الزراعية وكل ما في باطن الأرض من معادن وكنوز وهي "ملكا لعامة الأمة يستنبتها ويتمتع بخيراتها العاملون فيها استلهاما من الحديث المشهور "من أحيا أرضا مواتا فهي له".
وثانيهما: طاقة العمل الإنساني المبذولة في تنمية هذه الثروة العامة وتحصيل ثمراتها. وبناء على ذلك يصبح معيار إنسانية الإنسان في المجتمع الاشتراكي هو العمل.. فلا يكون الإنسان "إنسانا ما لم تكن له صنعة مفيدة تكفي معاشه باقتصاد لا تنقصه فتذله ولا تزيد عليه فتطغيه" فلا مكان في المجتمع الذي يدعو إلى إقامته الكواكبي للمتعطلين الذين يريدون العيش على حساب الآخرين "فمن لا يصلح لوظيفة أو لا يقوم بما يصلح له بل يريد أن يعيش كلا عليهم (أي العاملين) لا عن عجز طبيعي (يكون) حقيرا يستحق الموت لا الشفقة".
إن السعي في هذا السبيل لتطبيق "مبادئ الإشتراكية" هو مواصلة لتراث سابق، واستجابة لحاجات كثيرة بعضها كامن في طبيعة النفس العربية لأن "العرب أهدى الناس لأصول المعيشة الإشتراكية"..!؟ إن تحقيق هذا الطراز الرفيع من الشورى والديمقراطية والإشتراكية الإجتماعية يأتي نتيجة "لثقافة معينة" و تتويجا لمذهب إنساني أي نتيجة لتقويم معين للإنسان على مستواه الشخصي وعلى مستوى علاقته بالآخرين. لذلك يتوجب تخليص الإنسان من كل التوجهات المضادة للشورى والديمقراطية، وهذا ما يجعل "الإسلامية الثقافة" تقتضي الحكمة العقلية وعلوم الحياة، وحقوق الأمم، وطبائع الإجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصل... ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول، وتعرف الإنسان ما هي حقوقه، وما هي واجباته، وهذا ما يجعل من الثقافة الصحيحة المستنيرة والعميقة ونشرها بين كل أفراد المجتمع ركيزة أساسية من ركائز "الإسلامية" وأس من أسسها.
د- مهام الحكومة "البديل" للرقي بالأمة:
إن التنوير الذي سيطر على ذهن الكواكبي، كان قد هيمن عليه السياسي، كما لاحظنا. لأن "السياسي" في وعي النهضة لم يكن شيئا متعاليا ولا تعبيرة مجردة لواقع مستقل، بل التشخيص المؤسسي لحالة المجتمع بل والحضارة الإسلامية المحتضرة.وهذا الوعي بأهمية السياسي في تحديد حالة المجتمع، جعل الكواكبي يعطي "الحكومة البديل" دورا رياديا في النهوض بالمجتمع، لذلك أوكل لها مهمة تربية الأمة والسير بها في طريق الرقي والإزدهار إذ بيدها وحدها رقي المجتمع أو انحطاطه..! فعلى الحكومة المنتظمة التي ترعى شؤون الأمة أن تتولى ملاحظة تربية أفراد الأمة والسهر على راحتهم، وهذه المهمة تبدأ منذ ما قبل الزواج "بسن قوانين النكاح وتوفير متطلبات الصحة العامة كبناء المستشفيات وإيجاد القابلات والأطباء وبناء دور الحضانة وتشييد المخابر لصناعة الأدوية... كما عليها أن تفتح المدارس والمكاتب وتشجع على المعرفة والتعليم بدءا بالتعليم الإبتدائي وجعله إجباريا لكافة أفراد المجتمع، بلوغا إلى أعلى المراتب والدرجات، ثم تمهد المسارح والملاعب وتسهل الإجتماعات وتحمي المنتديات، وتنشئ المكتبات والمتاحف لحماية آثار الأمة وتراثها وتيسر الأعمال المفيدة وتشجع على كل خلق وابتكار.
لقد عاب الكواكبي على الإدارة المستبدة كبتها للحريات لذلك فلابد "للحكومة البديل" أن ترعى الحرية وتجعلها تقليدا من تقاليدها. والكواكبي إذ يورد مفهوم الحرية يورده بمثابة النقيض الأصلي لمفهوم الإستبداد، فعرفها (الحرية) بأن:"يكون الإنسان مختارا في قوله وفي فعله لا يعترضه مانع ظالم". وتكون السلطة منحصرة في القانون وذلك يعني أن ليس للحكومة الحق في إيقاع أي عمل إكراهي بدون الوسائط القانونية. بحيث أن الإنسان لا يخشى هضيمة في ذاته ولا في سائر حقوقه ولا يحكم عليه بشيء لا تقتضيه قوانين البلاد المتقررة لدى المجالس، وهذا التعريف هو على غرار ما عرف به "منتسكيو" الحرية حين قال بأنها: "الحق في عمل كل ما تسمح به القوانين".
وبرّر الكواكبي تبنيه للحرية مثلما فعل معاصروه من "السلفيين" بأنها مستمدة من الشريعة الإسلامية بل هي روح الدين على حد تعبيره.!!؟؟
فالحرية خاطر غريزي في النفوس البشرية. فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميدان الإبتكار والتدقيق، فلا يحق لها أن تسام بقيد من القيود، وقد تنبه الكواكبي إلى أن نهج الأوروبيين في البحث العلمي كان من أسباب تقدمهم وتطور العلوم عندهم، فهم يعتمدون حرية البحث والتفكير ويدققون ويبتكرون في المعارف ويطمحون دائما إلى تخطي ذواتهم وما وصل إليه أسلافهم.وبناء على ذلك فان افتقاد الحرية في أي مجتمع بشري معناه انتشار التقاعس فيه عن كل " صعب و ميسور"..
إن الحكومة العادلة الحرة تفعل في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر، فالحاكم العادل هو بمثابة البستاني الذي يرعى أشجار بستانه وأزهاره ليل نهار حتى تؤتي أكلها على أحسن وجه ممكن... للسعة والفقر وانتظام المعيشة دخل كبير في تيسير التربية أو تعسيرها، والحكومة "البديل" كفيلة بتيسير كل الظروف الملائمة للتربية الصحيحة وتذليل كل العقبات حتى يتمكن أبناؤها من الرقي المادي والروحي.. فهي في سعي دائب ليرقى ابنها في جسمه وصحته ويزداد علمه وماله ويتصف بمكارم الأخلاق والخصال السامقة. ويرقى في صفاء روحه إلى مرتبة الملائكة.وهكذا يعيش الإنسان في ظل العدالة والحرية نشيطا على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله لأن مناخ الحرية والعدالة يفجر الطاقات العديدة الكامنة في كل إنسان ويمكنه من إبراز فعاليته الإجتماعية وصناعة التاريخ وبناء المستقبل.
"وللحكومة البديل" بالإضافة إلى ذلك، مهمة التوسيع في الزراعة والصناعة والتجارة... كي لا تهلك الأمة بالحاجة لغيرها أو تضعف بالفقر، ومن هنا يشدد الكواكبي على أهمية الثروة العمومية خصوصا فيما يتعلق بدورها الحاسم في حفظ الإستقلال والقضاء على الفقر الذي يمثل رمزا للشر حتى قال الرسول صلى الله عليه و سلم ذات مرة " لو كان الفقر رجلا لقتلته ..لأنه رائد كل نحس. فمنه جهلنا ومنه فساد أخلاقنا".. كما تكتسي الثروة العمومية أهمية بالغة في المجتمعات الحديثة خاصة تلك التي تخوض صراعا ضد المستعمرين، إذ أصبحت الثروة العامة سلاحا رئيسيا في هذه الصراعات ولا يمكن كسب أي معركة بدون تأمين هذا "السلاح الفتاك".
وهكذا يصبح من أوكد مهمات الحكومة البديل تحرير البلاد من الإستعمار الداخلي المتمثل خاصة في الإستبداد السياسي والإجتماعي (البغي الاجتماعي) والإستعمار الخارجي والمتمثل في الهيمنة الغربية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة والمضي بالبلاد والعباد في طريق الرقي والإزدهار والقوة.
و الحاصل: نلاحظ أن الكواكبي قد أدرك مثلما أدرك معاصروه من رجال الإصلاح أن المجتمع العربي الإسلامي قد أصبح بحاجة أكيدة إلى تغيير جذري في هياكله السياسية والإجتماعية و الإقتصادية و الثقافية... وجاء هذا الوعي وهذا الإدراك نتيجة مباشرة لغزو بونابرت لمصر عام 1798م، واطلاع بعض المثقفين العرب على "فلسفة الأنوار" التي مهدت لثورة 1789م.
ولقد تميز الكواكبي بحرص شديد على ضرب المؤسسة السياسية واعتبرها رأس كل شر أصاب العرب بسبب الإستبداد الذي كان يمارسه الحكام على المحكومين منذ عصر الإنحطاط. لهذا نجده يكثف من هجمته العنيفة ونقده الحاد لهذه المؤسسة، ويطالب بإحداث حكومة ديمقراطية حتى تتمكن من رعاية مصالح العرب على أحسن وجه.
ولعله قد أفلح كثيرا في إقناعنا بفساد الإدارة التركية وبخطورة المؤسسة السياسية في التأثير على كل جانب من جوانب الحياة في المجتمع‘ وكنا ننتظر أن يقدم لنا المؤلف بديلا فكريا وحضاريا واضحا للمجتمع المستقبلي الذي ينشده، لكنه لم يفعل، واكتفى بطرح الأسئلة العامة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. بالإضافة إلى كونه لم يقدم لنا طريقة مقنعة وواضحة المعالم في كيفية تثوير المجتمع العربي الذي يرزح تحت كل مظاهر التخلف الحضاري نتيجة الإستبداد الذي يمارسه الساسة على الرعية..! ودفعه نحو النهضة الفكرية والحضارية التي ينشدها.
لقد طغت على المؤلف في بعض الأحيان، مفاهيم ومصطلحات هي من مخلفات عهود الإنحطاط في التاريخ العربي- الإسلامي، فحدّت كثيرا من حرية تفكيره واستنباط الحلول الملائمة لمشكلات المجتمع المتنوعة، كمفهوم "أهل الحل والعقد" و"أشراف الأمة" الذين يقررون مصير الناس في جميع مناحي الحياة. "والفتنة" بمعناها السلبي... وقد غاب عنه أن مثل هذه المفاهيم هي التي ساهمت بقسط كبير في تكريس الإستبداد السياسي والإنحطاط الحضاري والتخلف. ولعل مثل هذه المفاهيم المغلوطة هي التي زادت في إرباك رواد النهضة العربية وحدّت من فاعليتهم التاريخية في تغيير المجتمع وجعلت العرب يعيشون في حلقة مفرغة، ديدنهم "عود على بدء"، منذ "عصر النهضة" إلى اليوم.
فلئن افلح الكواكبي في صنع نسق سياسي – فكري حضاري، فإن هذا النسق الفكري بقي محدودا في نجاعته الحضارية وإحداث النهضة، بسبب الهيمنة الكبيرة التي بقي يمارسها التراث العربي الإسلامي على الحلول التي استنبطها الكواكبي في معالجة مشكلات المجتمع العربي بالإضافة إلى الهيمنة الحضارية التي أصبح يمارسها الفكر الغربي الحديث على بعض الحلول التي قدمها دون مراعاة خصوصية كل مجتمع ومتطلباته الحضارية.
فهل من سبيل إلى حداثة إسلامية جديدة تنقذ أمتنا العربية و الإسلامية من التخلف الحضاري و التبعية و الإستعمار و ترجع لها القدرة على الفعل التاريخي و التقدم الحضاري و قيادة مسيرة الشعوب نحو الخير و الأمن و السلام؟
التعليقات (0)