أن يكون النفاق, "فن" تلبّس السياسة, وتجسّد في كامل كيان بعض "رجالتها" وأصبح موهبتهم الوحيدة التي لا موهبة فيهم غيرها. و أن يتم الفصل بين السياسة والأخلاق فصلا لا رجعة فيه ولا عودة عنه منذ أيام مكيافيلي. و أن تكون, وتبقى, الغاية تبرر الوسيلة. وان تتطلب المصالح المتغيرة سياسات متغيرة والوصول إليها بكل الطرق مشروع, بما فيها الحروب الأهلية, والبينية, وبين الدول المتجاورة, وحتى الحروب العالمية, باردها وحارها. وقهر الشعوب, وتجويعها واستعبادها, ونكران حقها في العيش الكريم.
أن يتحول علم السياسة إلى هرطقة على أيدي من يهبطون على السياسة بمظلات ويحتكرونها بحماية كل أنواع الآليات, دون أن يفقهوا أصولها أو يرقوا إلى أهدافها, ويحل النفاق والرياء والخداع والاستماتة في تحقيق المصالح الشخصية, محل الحكمة, والدهاء, والحنكة, والتبصر, والبصيرة, والمسؤولية, والحفاظ على الوطن, وخدمة المصلحة العامة.
أن تصبح المبادئ الفلسفية الإنسانية, والتعاليم الدينية السمحة, والقيم الأخلاقية الفردية والجماعية, أدوات يسخرها هؤلاء لخدمة السياسة بمعناها الدوني. وتذهب بعلم السياسة وفنونها مقولات المؤدلجين والمنظرين, والمتفقهين, والمتحذلقين.
أن تختلط الأمور على الناس, وتتكون لديهم ثقافة الإنسان الذي لم يعد يشبه الإنسان, وينتفي كل استهجان أو استنكار, أو حتى مجرد امتعاض.
أن يجهد بعض المبرريين, بإعادة كل هذا إلى التراكم التاريخي, والممارسات السياسية بخيرها وشرها, منذ بداية ونشأة السياسة , ويرون له بعض التبرير, فهذا شأنهم.
ولكن ما لا يجد له هذا البعض تبريرا ممكنا, أو مقبولا بأي وجه من الوجوه, هو النفاق الديمقراطي.
الحقيقة التي يجب أن تقال هنا للشهادة والتاريخ, هي أن حكام وسياسيو منطقتنا العربية براء من النفاق الديمقراطي براءة الذئب من دم يعقوب. لم ينافقوا ولم يواربوا في هذا الشأن ــ إلا مرة واحدة عند الهبة الأمريكية الهوجاء, والساخنة بدياتها, على المنطقة ــ. فلا علاقة لهم بالديمقراطية من قريب أو بعيد. (سيوفهم مسمومة ورماحهم مشرعة في مطاردتها, ولا تشبه في شيء السيوف المسلولة والرماح المشرعة في مسلسلات رمضان.) يعلنون عداءهم لها بصراحة كاملة وعلى رؤوس الأشهاد, ودون حاجة لنفاق أو لف ودوران. فهذا المنتج غير ملائم لطبائعهم, ولا يتوافق مع بقائهم ووجودهم وتفكيرهم. وبالتالي لا يدخلون هنا بين المنافقين.
النفاق الديمقراطي يتطلب أن يكون منافقوه ديمقراطيين, و إلا لما استحق اسمه. ولابد أن يكون متقنا إلى درجة الكمال. ومعززا بكل وسائل الدعم والقوة لتدعم مقوماته. ولابد له من رجالاته ممن يجيدون لعبة الوجهين (و "يحكو شكلين", عكس أبو شهاب عكيد باب الحارة). لابد أن يُسّوقه إعلام, ميديا, بالغ النفاذ إلى القلوب والعقول.
هذا النفاق من أبشع أنواع النفاق, إن كان للنفاق أنواع و درجات, وأشده ضررا بقيم ومبادئ ضحت البشرية من اجلها منذ بداية التاريخ. وأقامتها على فلسفات, وقالت بها, وتبنتها, الرسالات السماوية. وكرسها رجال الفكر السياسي, وعلماء الاجتماع, والحقوقيون, ومنها الديمقراطية التي تقوم على ركيزتين أساسيتين: الحرية والمساواة.
النفاق الديمقراطي يمارسه بمهارة, حصرية, زعماء الديمقراطيات الكبرى, في داخل ديمقراطياتهم وفي خارجها. فمن أوجهه في داخلها نذكر, على سبيل المثال لا الحصر, التعامل مع الأقليات من أصول أجنبية من مواطنيهم, بعيدا عن مبدأ المساواة الفعلية, حيث البطالة المتفشية بينهم تبلغ نسبا أعلى بكثير من النسب بين صفوف المواطنين "الأصليين". وإعاقة وصولهم إلى الوظائف والمراكز العليا, رغم حملهم لنفس المؤهلات التي يحملها شاغلو تلك الوظائف والمراكز أو المرشحون لها ممن ذكرنا. وحجب حق التصويت عن المهاجرين المقيمين منذ عقود, دافعو الضريبة , وكل الالتزامات المفروضة على المواطنين. والعنصرية الظاهر منها والمستتر.
وفي خارج ديمقراطياتهم يطالبون علنا, بنفاق وغطرسة, بإقامة أنظمة ديمقراطية, في كل الدول غير الديمقراطية, ويتحدثون دون انقطاع عن حقوق الإنسان, ويشهرونها كسلاح مسلط للابتزاز, وليس لحماية الإنسان. وفي الوقت نفسه يعملون سرا وعلنا على إعاقة قيام مثل هذه الديمقراطيات.
ـ فكيف لمن ساند ويساند حكاما مستبدين, وأنظمة شمولية, ودكتاتورات, أن يكون داعية نشر ديمقراطية؟ .
ـ كيف لمن يدعي الديمقراطية أن يغض البصر ويصم الأذان عما ترتكبه يوميا, ومنذ عقود, تلك الأنظمة ضد شعوبها, من قتل وسجن وتعذيب, وإذلال, وقمع لكل أنواع الحريات التي تنص عليها المواثيق الدولية, وحتى القوانين الداخلية لتلك الدول ؟.
ـ كيف للديمقراطي أن يبني سياسته على الآم الشعوب, فيبتز حكامها برفع الدعم والغطاء عن جرائمهم, وإشهار سلاح حقوق الإنسان في وجوهم إن لم يستجيبوا كليا لمصالحه. ويصمت عنهم صمت القبور إن استجابوا له دون شروط؟.
ـ كيف له أن يتنكر للديمقراطيين الحقيقيين من أبناء تلك الشعوب, ويحرض عليهم إذا ما أصبحوا خطرا يهدد تلك الأنظمة ؟.
ـ أليس من سياسة الديمقراطي المنافق تفضيل التعامل مع تلك الأنظمة, على التعامل مع أنظمة ديمقراطية بديلة تقف مع مصالح شعوبها, في حالة تعارضها مع مصالحه.
ـ أليس من المريح للديمقراطي المنافق التعامل مع شخص واحد يملك الدولة كاملة بيديه, على التعامل مع مؤسسات, وسلطات مستقلة, وقوانين لا تقبل التعليق, والتحريف, أو التحايل عليها؟
ـ أليس الديمقراطي المنافق هو من يسعى جاهدا, عندما يقع أحد تلك الأنظمة في مأزق, سببه لنفسه, وترنح تحت وطئته, لإعادته للتوازن بشتى الوسائل؟
ـ أليس هو من, ومن فرط حبه للديمقراطية, يدعم إسرائيل في كل جرائمها لأنه يراها واحة ديمقراطية في منطقة تقوم على الدكتاتوريات المتوحشة؟. وفي الوقت نفسه يرفض ويحرض على كل توجه نحو الديمقراطية في فلسطين وحولها؟.
ـ أليس هو نفسه من يصف بالإرهاب هذا الحاكم أو ذاك, ويضعه على قوائم سوداء, ثم يبيض تلك القوائم عندما يرى مصلحة في ذلك؟
ـ أليس في رفعه اسم الديمقراطية عند كل احتلال, أو تدمير, أو قصف أبريا, إساءة للديمقراطية كإساءة إرهابي, لله وللدين, بإطلاق التكبيرات عند قطع راس احد ضحاياه. أو كالإساءة للعلمانية بتدنيس كتاب مقدس باسم العلمانية؟.
ـ أليس في هذا, الذي هو غيض من فيض, نفاق فاجر يستعذبه السادة الديمقراطيون حكام الديمقراطيات الكبرى ولا يرون فيه غضاضة؟.
ـ أليس الديمقراطي المنافق تاجر ديمقراطية, في المزادات العلنية, وتاجر حقوق إنسان محترف؟,
ولنا في سادة الديمقراطيات ورسلهم, المتقاطرين على دول الاستبداد والدكتاتوريات, أمثلة في النفاق الجلي على الديمقراطية وباسمها.
د. هايل نصر
التعليقات (0)