أنتَ لم ترفعِ الضحاياَ لواءً
من دماءٍ لـمُرمِدينَ شِحاَحِ
لم تُفجر لظاكَ يهدرُ بالحقِّ
لتُرضي قرائحَ المُــداحِ
بلْ لنحيا سَعيـرَهُ مَارداً
يصنعُ للمجدِ سُلماً من أضاحي
سلامٌ عليك أبا الشهداء يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً ..
أي والله سيدي ما كنتَ حين رفعتَ لواءَك دماءً مضمخةً من زكيِّ أجساد الضحايا ما كنت لتزفها لأعينٍ علاها الرمدُ وأضلها العمشُ ونفوسٍ رانَ عليها الضلال فجعلها تضنُ بنفسها عن رؤية هذا الحق ولم تقدح زِنادَ هذه النهضة المباركة ولم تورِ قدحَ هذا اللهيب المستعر لتحصدَ بذرَ مديحٍ تقتلُه السنون ويفتكُ به الدهرُ الخؤون ويصعدُ على رفاتِ مجده المتسلقون .. بل غرست في أرضِ الإباءِ وزرعت في شِرب الفداء أضاحي وقرابينَ تبقى سُلماً يصعدُه الأحرارُ لينتشلهم من حضيض الذل والمهانة إلى مراقي العزة والكبرياء ..
ولم تزجَّ في لهواتِ الطفوفِ بأصحابكَ ومناصريك لتجعلهم ردءاً لأهل بيتك ولم تدفع بأهل بيتك ليكونوا وقاءً ودرعاً لبنيكَ .. وإنما :
(..) صنعتَ للأحرار حين يلزها
عنتُ السُرى ويضيقُ عنها المهربُ
جُثثَ الضحايا من بنيكَ تُريهمُ
أن الخلودَ بمثل ذلك يُطلبُ
نعم لم تضنَّ ببنيك ولا بأهلك الأقربين من أن تطعمهم الموتَ لينيروا درب التائهين بإشراقة دمائهم ومصابيحِ تضحياتهم ..
وأن تُطعمَ الموتَ خيرَ البنينَ
من الأكهلين إلى الرُضَّعِ
وخيرَ بني الأم من هاشمٍ
وخيرَ بني الأب من تُبع
وخير الصحابِ بِخير النفوسِ
كانوا وقاءَك والأدرعِ
فهنيئاً لهذه الدماء الزاكية التي ركبت قطارَ الخلود عبر عرباته الألف والثلاثمئة والاثنتين وسبعين هي عمرُ هذه الثورة المباركة .. ربما لا نعي كم محطة ستتوقفُ عندها ولكنها ستركبها جميعاً حتى تصل إلى محطةٍ يلهثُ خلفها الخلود ، ويشهق وراءها البقاء وَلئن جفًّ نَهرُ الخلودِ ونضب عذبُ مائه في صحراء الوجودِ فسيظل نَهرها متدفقاً رقراقاً بِما تمدُه روافدُه من عزةٍ وإباء :
وتََجِـفُّ فِـي زَهــوِ الخُـلـودِ جَــداولٌ
فِـي حِيـن جَــدولُ زهـوِهـا يتـرقـرقُ
سيدي أبا الشهداء هذا الرعيل المبارك وهؤلاء السابقون الأولون الذين قدتَهم في دنياً كانت جائعةً سغبى بما مرَّ بِها من قحطِ الرذيلة ،، وبما فتكت بِهنَّ شدادٌ أكلتْ كلَّ ما قُدم لها من سنابل الفضيلة ،، وكانَ مُعبرو أحلامها بانتظار ذلك العام الذي فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون ،، ولكنَّه – سيدي – أبى أن يأتي إلا بعد أن تكون أنت على خزائن أرضه فإنكَ أنت ولا غيرك الحفيظ العليم .. فجئتَه لتزرعَ مكارم الأخلاق فيه عشر ليالٍ دأباً فحصده أصحابك الثائرون والسائرون في ركبك ، ولكنَّ وصيةً تركتها فيهم وأودعتها عادياتِ الزمن لتصل إلينا غضة طريةً فنَذرَ هذه القيم وهذه الأخلاق في سُنبلها إلا قليلاً مما نحتاجه في حياتنا لنظل متعلقين متوثبين بما انغرس في نفوسنا من فضائلها ..
سيدي .. لن نكون مبالغين ولا مُجانبينَ صوابنا إن قلنا إن صرخاتك يوم العاشر من المحرم كانتْ سلسلة متصلة بوحي السماء
ولستُ أبالغُ
أنكَ وحيٌ
تواصلَ
بعد الرسولْ
( ... ) أراك بكل المرايا
على صهوةٍ من ضياءٍ
وتخرج منها
فأذهل أنك أكثر منا حياةً
ألست الحسينَ بنَ فاطمة وعليْ
لماذا الذهول؟...
وتبقى هذه الصرخاتُ مدويةً صاديةً ظمأى ما زالت تبحثُ عمن تُرويه بعضَ جراحها ..
وتَمضِي السنونَ وعلى ظهرها ثقلُ الحوادثِ تنوءُ به وجُرحكَ لما يزلْ نازفاً راعفاً تَتعثرُ الأعوامُ به وكلما حملتُه وهناً على وهنٍ رأت شكرهُ واجباً عليها لأن مصيرها إليه..
أما نحنُ سيدي فقد جئناكَ طارحين فلسفتنا ورؤانا جانباً مختزلين كل وعينا في اللاوعي وتفكيرنا في اللاتفكير وقد استدعينا عقلنا لكيلا يعقل لأنا مجانين هائمون و«عابسٌ» ما زال يحملُ لواءَنا ويحدو ركبَنا مُردّداً:
حملتُ جنازةَ عقلي مَعي
وجئتُكَ في عاشقٍ لا يعي
هذا الحبُّ الجُنونِي والعشقُ الأسطوريُّ ما كان ليَمدَّ جُذورَهُ في عمقِ جوانحنا لولا عقيدةٌ راسخةٌ تصدحُ فيه: أن هذا الجرح وإن كان جُرحَكَ إلا إن ألمه ووخزَه ممتدٌ في أعماقنا يغرقُها في لُجَّتِـه:
«فـ»..
الجرحُ جرحُكَ والآلامُ آلامِي
أذابَ يومُكَ فيها كلَّ أيامِي
رُغمَ السنينَ التي ما بيننا احتشَدتْ
قد أتبعَ السهمُ قلبي قلبَك الدامي
فإنْ وقعتَ صريعاً في دماكَ فقد
غرقتُ بعدكَ في طوفانِها الطَّامي
وهل كان هذا الطوفانُ المدمَّى إلا مسيلَ نزفها المتوهج وعُصارةَ فكرها المتدفق ووقودَ جذوتِها الملتهب..
فلم يكن أمامنا ونحنُ نحتضنُ هذا اللهيبَ المقفى ونعيشُ هذه التجليات المحمدية النورانية إلا أن نُيممَّ يومكَ بما فيه من وَقدِ مجامر أشعلها الكبرياء لنُطفىء عن قلوبنا بعضَ لهبٍ مُتلهد..
يممتُ يومكَ أستجلي روائعهُ
فأشبعت ناظري موارةً صورُ
ما رمتُ رائعةً إلا وجدتُ به
كأن كلَّ سموٍ فيه منحصر..
ولم يوقفنا لهثٌ أو تبطّئنا إنحناءةُ ظهر.. بل بقينا في سيرنا الأسطوري.. حتى:
يَممتُ يومكَ كالظِباء بلفحةِ الـ
ـصحراءِ تلتمسُ الغديرَ وروردا
فرأيتُ بينَ شُروقِه وغروبهِ
صوراً تعزُّ على النُّعوتِ حُدودا
صورٌ أبا عبد الله هي الدهر بكلِّ تجلياته وعبره هي الانسانيةُ بكل توثبها وكيف لا تكون كذلك وقد امتزجتْ بروح الإيثار وافترشتْ مغاني الحرية ، وأنت أنت وحدك ذلك العملاق الذي ما زال جِيدُه مستطيلاً وعنقه مناطحاً رأس الخلود وينعى على الأقزام كيف تُخضِعُ جيدها..
ورأيتك العملاق جيدا متلعاً
تنعى على الأقزام تُهطع جيدا
ورأيتك النفس الكبيرة لم تكن
حتى على من قاتلوك حقودا
وهل مانحُ الحياة سرَّ بقائها وكُنهَ ديمومتها يكونُ عليها حقودا ساعةَ تجلٍ أبداً..؟؟
فعلمتُ أنكَ نائلٌ ما ترتَجِي
حتماً وإنْ يكُ شلوكَ المقدودا
ولكنه الإباء والشعور الكبير بالمسؤولية وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم كل هذا كان مُحركاً قوياً لكل خطوة خطوتـها في طريقكَ الأسطوري إلى كربلاء..
وأيمُ الله لقد كان الثمنُ غالياً والقربانُ نفيساً إذ لم ترضَ منكَ القيمُ والمبادئُ إلا أن تقدمَ نفسكَ الزاكيةِ مَهراً لها..
زوَّج السيفُ بالنفوسِ ولكنْ
مهرُها الموتُ والخضابُ النجيعُ
و..:
ما رأى السبطُ للدينِ الحنيفِ شفاً
إلا إذا دمُه في كربلا سُفكا
وما سمعنا عليلاً لا علاج له
إلا بنفس مداويه إذا هلكا
ومضيتَ تُصعِِدُ لا تلوي على أحد والمخذلون السادرون يدعونك في أُخراكَ ولكنك تركتهم وركضت متوجهاً تِلقاءَ الكرامةِ ومولياً وجهكَ شطرَ الحرية والسمو لعلمك ويقينك أن هذا هو الحقُ من ربك..
الثمنُ كان نفسك الطاهرة ومهجتك المقدسة وجسماً مبضعاً بالسيوف حتى عاد مُجرَّحاً لم تستطع تلك السيوف وتلك الرماح بعنجهيتها وصلفها أن تُبدل أو تُغير حُسناً فيه..:
ومجرحٍ ما غَيّرتْ منه القنا
حَسناً ، ولا أخلقن منه جديدا
وبقيتَ تعيشُ هذه التضحية في قربان تزجيه أختك لله وتُقربه له حتى يرضى وما زلنا في مسيرنا المدمى نتلو هذا النبأ بالحق في شعورٍ اللهَ قد تقبَّلَهُ لأن الله إنما يتقبلُ من المُتقين.. ولئن اعترى الدينَ جزعٌ عليك وأوجست التقوى فَرَقَاً لحادثك الأليم فقد هابك كل نمرودٍ أن يدنو منك..
تَهابُه الوحشُ أن تدنوَ لمَصرعِهِ
وقد أقام ثلاثاً غيرَ مقبورِ
إلا شيطاناً أبى واستكبر وكان من الكافرين جاءك واحتز للإسلام رأساً واجتز من الإيمان سناماً..
سيدي.. إن كان هذا نفثاً في جُرحك الغائرِ نفختُه بصُورِيَ الهزيل فإني أرجو ألا أُصعقَ في يومٍ يصعقُ فيه من في السموات ومن في الأرض..
فسلامٌ عليك يوم ولدت ويوم استشهدتَ ويوم تُبعثُ حياً
التعليقات (0)