كتب : سالم أيوب
لا أود أن يفهم من مقالي هذا أنني حدت عن قناعاتي أو عن ما أؤمن به كسياسي ذو مذهبية قومية ومغلفة بفكر مناصر للمقاومة إلى أبعد الحدود. الايديولوجية التي أنطلق منها هي ليست تابعة لمدرسة جمال عبدالناصر ولا هي منسوخة من فلسفة تشي غيفارا، ولكنها بكل تأكيد قومية عربية طالما كنت أواظب على الافتخار بها مع أنني لست عربياً في أصول علوم الجنس البشري، بل تركي جاء أجداده إلى فلسطين في زمن الخلافة العثمانية وشاءت الأقدار أن يستوطنوا في بيت المقدس وهكذا أصبحنا فلسطينيين بالانتماء والولاء لهذه الأرض المقدسة فكرا وعقلا ودينا من الأجداد وإلى إبني الأصغر في سلسلة أولادي. ولعل جل ما أشكر اسرائيل عليه في عدوانها على غزة العزة والإباء هو إحياءها قضية فلسطين في وجدان وذاكرة الشعوب، ومنهم أولادي الذين كنت أجد صعوبة كبيرة في إيصال تاريخ الشعب الفلسطيني له في خضم التطور الكبير والمتسارع للحضارة الالكترونية التي نعيش خلالها.
لم أكن في يوم ما قادر على اجتذاب انتباه أبنائي للقضية الفلسطينية التي نعاني منها جميعاً، وهم بالتأكيد سيعانون منها في مرحلة ما من أعمارهم، كما كانت عليه الحال خلال العدوان الاسرائيلي الهمجي على أهلنا في غزة. لقد جندت جميع محطات التلفزة التي واكبت العدوان في واجهة أجهزة التلفاز التي يحويها منزلي، ومع أن المناظر ومشاهد القتل البربري كانت قاسية بالنسبة لطفل بالكاد تجاوز عمره ست سنوات إلا انني أردت أن يصدم من هول ما يشاهده كي يبادر هو بالأسئلة التي صدمت لاحقا من عمقها. لقد تيقنت أن أجيال فلسطين يولدون مع جينات وراثية جميعها تصطف عزة بحب الأرض المسلوبة، وتنتشي أملا كبيراً في أن جيلهم هو من سيحرر فلسطين من العدو الصهيوني. هذا ما قاله لي ابني الصغير: متى سنذهب أنا وأنت كي نحارب الاسرائيليين. صدمت لأنني لم أحتاج وقتاً طويلا كي يفهم ذلك الشبل قضيته ووجوب الدفاع وتحرير الأرض كلٌ في ميدانه، وصدمت لأن ابني، بالرغم من جميع مشاهد القتل البشع والدمار، لم يكن خائفا من الموت، فكل ما أوضحته له أن من يموت في الدفاع عن حقوقه ودينه هو شهيد عند الله ثم عددت له مكتسبات الشهيد في الآخرة، ويبدو أنه مؤمن بما قلته له أكثر من الكبار.
تلك هي الأجيال التي تُبقي فلسطين حاضرة في قضايا المستقبل. فمن جاء قبلهم عملوا، وهم الآن سيعملون، ولكن مشيئة الله فوق كل عمل وجهد. من هذه النقطة أبدأ مقالي من خلال العنوان الذي وضعته له. نعم... لقد أخطأت حماس حين رفضت الهدنة المعروضة من قبل اسرائيل وكان على الحركة أن تدفع بهذا الكيان المستبد على أن يجددها، وبكافة السبل ولا أعتقد أن مصر كانت ستتأخر في هذا الأمر. لقد أخطأت حماس لأنها:
1- استغلت تلك الحرب كي تكرس مبدأ الاعتراف بها كقوة فاعلة في أرض الحدث (غزة)، وهذا غرض سياسي لا تخلوا منه رائحة التنافس الفصائلي ما بين حماس وفتح. وللأسف لم يكن هدف نيل هذا الاعتراف من الأعداء فقط بل لنيله أيضا من ايران التي تدعم المقاومة وتريد أن ترى قدرة احدى أذرعها المقاومية في مجابهة حقيقية مع اسرائيل. وهنا نلفت أن قادة حماس الخارج كان لها الدور الفاعل في توريط الداخل في "مجازفة" المحرقة التي اسميها - الهولوكوست الجديد المتوالد من رحم المعاناة اليهودية في زمن النازية الهتلرية الذي يعاني منه الفلسطينيون منذ وعد بلفور وإلى الآن.
2- ذهبت الحركة بعيداً حين اعتقدت أن الساحة الجغرافية المناصرة لمبدأ المقاومة مهيأة للدخول في هذه الحرب، بل تناست الحركة أيضا أن الأهداف السياسية لمناصري المقاومة تأتي بالدرجة الأولى. ولم تكن حركة حماس موفقة بقراءة المشهد السياسي في الداخل اللبناني وانعكاساته على حزب الله في اتخاذ قرارات الحرب مع اسرائيل لاسيما وأن الرد على اغتيال عماد مغنية لم يتم بسبب هذا الأمر. وأخطأت حركة حماس حين كانت تمنح ثقتها للأطراف الأخرى بلا قيود أو ريبة وشكوك لمتغيرات المنطق السياسي لاسيما وأن عملية اغتيال عماد مغنية التي نفذها الموساد كان مسرحها هي دمشق.
3- قد يكون فكر المقاومة في الاستراتيجية الحمساوية غير متبلور بشكل كامل بل أجزم أن الضبابية تكتنفه في كثير من المفاصل الحيوية لمبدأ المقاومة، وهذه دعوة للحركة كي تعيد بلورة فكرة المقاومة لما هو متاح وممكن، خاصة في عدم توافر "العمق الجغرافي المتاخم لغزة" الذي يعتبر الحاضن الاستراتيجي للمقاومة في تصديها للآلة العسكرية الاسرائيلية. اضافة الى عدم تقدير الحركة بشكل واقعي الهمجية التي تمتلكها اسرائيل من خلال آلتها العسكرية وتجاوزها للقوانين والأعراف الدولية، ناهيك عن الزخم الكبير للدول الموالية لاسرائيل سواء من أطراف عالمية أو عربية. بالاضافة الى أن تلك الاطراف سوف تتجاوز كل ما هو حق مشروع لمقاومة حماس للاحتلال واحالته الى اسرائيل كحق مكتسب لها بسبب إيران التي تفاخرت كثيراً بدعم المقاومة والمقاومين أينما كانوا، فيما هي تحقق المكاسب السياسية دون الالتفات لحجم الخسائر الملحقة فيمن تسميهم بـ"المقاومة" وشعبها.
4- لا أشك في أن حماس وباقي فصائل المقاومة أدركت بعد الضربة الأولى، المفاجئة في حجمها وشموليتها التدميرية وخلال أيام المعركة التي امتدت على مدى 23 يوم، من أن المقاومة قد دخلت في عنق الزجاجة الضيق وأنه لا مجال للتراجع إلا بالاستسلام أو الموت بشرف المقاومة. نعم يا حركة حماس لقد أخطأت حين وافقت على وقف اطلاق النار والذهاب للتفاوض مع اسرائيل عبر المخابرات المصرية على التهدئة، وجُل هدف الحركة الخروج بماء الوجه للتسويق الداخلي. تتفاوضون على ماذا؟! بناء غزة أم فتح المعابر أم حقيقة أنكم أخطأتم؟!! لم يكن هناك داعي أن تدمر اسرائيل غزة كي تطالبوا الآن باعادة بنائها، فهي مبنية مسبقاً. أم هل دخلنا باب التنازلات الذي إن فتح فلن يغلق مجدداً، وتلك هي دوالي الشعب الفلسطيني التي تتجدد مع قوى التحرر الوطني، وإن كانت اسلامية!!
5- افتقرت حركة حماس للبعد الاستراتيجي في مخططات الحركة العسكرية والسياسية، فهي من ناحية نجحت نوعا ما في التصدي والصمود أمام الآلة العسكرية الاسرائيلية، ولكنها فشلت سياسياً في تطويع ما حققته من كسب عسكري جزئي في أجندة سياسية معدة مسبقاً للوصول الى مكسب سياسي أمام اسرائيل. للأسف أهملت الحركة الشق السياسي في مخططاتها حين تدخل في مفاوضات مع العدو، وهذا ما تعاني منه الآن من فرض لقيود سياسية قد تجعل من اسرائيل الكاسب في المحصلة النهائية حين وافقت على وقف اطلاق النار برغبة اسرائيلية.
الخلاصة، على حماس أن تعود لقواعد المقاومة الصرفة المعتمدة على المقاومة المتخفية، وأن تتخلى عن العمل السياسي على الأقل لحماس الداخل. وأن تفسح الساحة الغزية لعودة السلطة الفلسطينية للإدارة شؤون سكان القطاع وذلك قبل أن تخسر الحركة الحاضنة الطبيعية لمقاومتها، وهو الشعب، أو أن تصل بها الأمور للدرجة التي لا تجد فيها متطوعين للقتال في صفوف الحركة. باعتقادي أن الشعب الفلسطيني في غزة سيعي هذا الأمر لاحقاً... فغضب الشعب كالموج الهادر حين يفشل من ينادي باسمه في حمايته وتلبية تطلعاته لاسيما وأن الغزاويين قدموا تضحيات كبيرة في هذه الحرب ولن يقدموها من جديد كلما ارتأت المقاومة أن تدخل في مجابهة جديدة مع قوى العدوان الاسرائيلية.
لما أوقفتم الحرب يا "حماس"؟!!!!!!!!!!
8 فبراير 2009
التعليقات (0)