كانت نظرية الميزة النسبية أحد أهم نظريات التجارة الدولية التي خرجت للعلن بفضل عالم الاقتصاد السياسي الإنجليزي ديفيد ريكاردو. ملخص تلك النظرية على أنه على كل بلد التخصص في إنتاج السلع التي يمكنه من إنتاجها بأرخص من غيره من البلدان. على سبيل المثال تخصص اليابان وكوريا في إنتاج الإلكترونيات وتخصص إسبانيا في المنتجات الزراعية والصناعات الملحقة بها وتخصص البرتغال وفرنسا في إنتاج النبيذ عالي الجودة وهلم جرا. ولكن ارتفاع أسعار النفط جعل عالم التجارة الدولية يصغر وينكمش على نفسه حيث تصبح الأولوية للبحث عن البدائل المحلية. وكما يقول المثل فإن الحاجة هي أم الإختراع حيث تبرز صناعات جديدة وقد تطالب بفرض تعريفات جمركية على الإستيراد حماية لها مما يعني بداية حروب تجارية.
إن نظرية ذروة الإنتاج النفطي(Peak Oil) تعني وصول الناتج الإجمالي المحلي أيضا الى ذروته. دول مثل كوريا الجنوبية تقوم بصناعة الموصلات الإلكترونية وتصديرها للعالم حيث تقوم بإستيراد النفط بشكل رئيسي وليس القهوة على سبيل المثال, في عالم ترتفع فيه أسعار الطاقة, تحتل البدائل المحلية الأولوية وينكمش عالم التجارة الدولية, فإن ذلك سوف يصبح أصعب بإستمرار.
يستهلك شحن بضاعة عن طريق الجو أربعين ضعف كمية الوقود لإرسالها برا عبر شاحنات النقل. كما أن السفر جوا سوف يصبح مكلفا حين ترتفع أسعار النفط فوق حاجز٩٩ دولار للبرميل. شركات الطيران سوف تحقق خسائر في حال زيادة سعر برميل النفط عن ٨٠ دولار للبرميل, أي زيادة عن ذلك المستوى السعر تعني تحقيق خسائر لشركات الطيران الأمريكية بمقدار ٧ مليارات دولار سنويا. أربعة من أكبر ستة شركات طيران أمريكية أعلنت إفلاسها خلال الفترة التي تلت أحداث سبتمبر في الولايات المتحدة وإرتفاع أسعار النفط بسبب ذلك. ولكن ارتفاع أسعار النفط ليس المشكلة الوحيدة التي تواجهها شركات الطيران وحتى قائدي المركبات ولكنها ضريبة الكربون(Carbon Tax) التي تضغط بعض المنظمات البيئية والحكومات لفرضها بذريعة الحد من إستهلاك الوقود الأحفوري والحفاظ على البيئة تجعل تحقيق شركات الطيران للأرباح والحفاظ على قدرتها التشغيلية بدون رفع الأسعار أمرا أكثر صعوبة.
إن ارتفاع أسعار النفط قد يعني الكثير من المشاكل للبلدان النامية على الجهة الأخرى من العالم, في أفريقيا والشرق الأوسط. خلال فترة الثلاثين سنة الماضية حيث كانت أسعار النفط مستقرة نوعا ما وشهدت الدول المتقدمة مستويات غير مسبوقة من النمو الاقتصادي والهجرة من دول العالم النامي. ارتفاع أسعار الحبوب والمواد الغذائية الأساسية بسبب ارتفاع أسعار النفط والمنافسة من قبل شركات صناعة اللحوم التي تستهلك كميات هائلة من الحبوب في إطعام المواشي يعني موجة من التضخم والجوع وبالتالي الهجرة من دول العالم النامي الى دول العالم المتقدم بحثا عن فرصة اقتصادية أفضل. أحد أسباب الربيع العربي والإضطرابات والمشاكل في مناطق أخرى من العالم النامي خصوصا في أفريقيا قد تكون الارتفاع غير المسبوق في أسعار المواد الغذائية الأساسية خصوصا الحبوب مثل القمح وليس لها علاقة بأمور الديمقراطية والحريات كما تحاول بعض وسائل الإعلام تضليل مشاهديها. زيادة نسبة العمالة بسبب زيادة المهاجرين تعني زيادة نسبة البطالة حيث هناك حساسية في دول الغرب من تفشي البطالة التي تعني أرضية خصبة للأحزاب الشعبوية والعنصرية المعادية للهجرة للحصول على المزيد من الأصوات الانتخابية كما هو الواقع في بعض الدول الأوروبية مثل الدنمارك والسويد.
كما أن دولا أفريقية فقيرة مثل دولة مالي قد تخسر ٣% من ناتجها الإجمالي المحلي مع كل ١٠% زيادة في أسعار النفط. ارتفاع أسعار النفط تعني ارتفاع أسعار وقود المركبات والطائرات وبالتالي ارتفاع تكلفة المواصلات وبالتالي ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات بلا إستثناء خصوصا أسعار المواد التموينية والغذائية. كينيا هي أحد الدول الأفريقية حيث قطاع تصدير الورود خصوصا لأوروبا يعتبر قطاعا أساسيا في الاقتصاد بنسبة ١٥% من الناتج المحلي الإجمالي حيث تساهم صادرات الورود الكينية بما مقداره الثلث من الصادرات الأوروبية في ذلك المجال. كما أن حوالي نصف مليون مواطن كيني يعملون في زراعة الورود, ١٤% من الكينيين يعتمدون بطريقة أو بأخرى على ذلك القطاع المهم. خلال الفترة التي سبقت عيد الحب(Valentines Day) سنة ٢٠٠٧, تسببت دعوات ناشطين بيئيين يقيمون في دول أوروبية مثل بريطانيا وفرنسا الى مقاطعة صادرات الورود الكينية الى خسائر كبيرة للعاملين في ذلك المجال. الناشطين إعتبروا أن التلوث البيئي-البصمة الكربونية الناجمة عن نقل الورود من مكان زراعتها الى الأسواق الأوروبية ليس وسيلة مناسبة للتعبير عن الحب في تلك المناسبة وأن الأولوية هي للحفاظ على البيئة. إن قيام مزارعين أوروبيين بزراعة الورود محليا لإستيعاب السوق المحلي الذي يبحث عن بدائل أرخص ثمنا في ظل ارتفاع تكلفة النقل والشحن أو دعوات الناشطين البيئيين لمقاطعة صادرات الورود من كينيا يعني أخبارا سيئة للمزارعين الكينيين. إنهيار سوق زراعة الورود في كينيا يعني كارثة إقتصادية والأمور لا تقاس مثلا بالكساد الذي أصاب صناعة السيارات في الولايات المتحدة ١.٣% من الناتج المحلي الإجمالي وكندا ٢.٢% من الناتج الإجمالي المحلي مقارنة بزراعة الورود في كينيا ١٤% من الناتج المحلي الإجمالي.
إن مستقبل العالم بدون الإعتماد على النفط مصدرا رئيسيا للطاقة يبدو غاية في القتامة, الكثير من الوعود والقليل من العمل. الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ورئيس الوزراء البريطاني السابق غوردان براون أعلنا خططا لتخفيض الانبعاثات الكربونية بنسبة ٨٠%, نحن في سنة ٢٠١٩ ولا تبدو تلك الخطط الطموحة ممكنة الحدوث. هناك دول تتمتع بإمكانيات إستخدام الطاقة البديلة مثل الولايات المتحدة, كندا, الدانمرك, السويد, نيوزيلندا و أيسلندا. سوف يجد الكثير من المستهلكين أنفسهم أمام قرارات صعبة مع سعر ٧ دولارات للغالون الوقود ولكن هل سوف تكون البدائل متوفرة أم أن مسألة الإحتباس الحراري والطاقة البديلة يتم إستخدامها لأجندات سياسية؟
مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية
رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة
https://science-culture-knowledge.blogspot.com/2019/03/blog-post_8.html
الرجاء التكرم بالضغط على رابط الموضوع بعد الإنتهاء من قرائته لتسجيل زيارة للمدونة
النهاية
التعليقات (0)