نظرة مختلفة للواقع
أننا ننظر للواقع على أنه مؤلف من أشياء أو بنيات أوهويات ( مادية أو غير مادية) تتفاعل مع بعضها حسب آليات أو قوانين معين , ولست بطرق عشوائية , أي حسب أسباب معينة . فهذا أساس منهج تفكيرنا الذي يعمل عقلنا بناءً عليه .
هذه الطريقة قي تعاملنا مع الواقع لمعرفته وفهمه بما يسمح لنا بالتحكم فيه من أجل تحقيق دوافعنا وحاجاتنا وغاياتنا , لم تعد كافية . لأننا بلغنا مرحلة من التقدم تحتاج لمعرفة أوسع وأدق للواقع تسمح لنا بالتعامل بفاعلية مجدية تحقق أهدافنا الكبيرة .
لننظر نظرة مختلفة للواقع . على أنه مؤلف من - السيالات - والدارات سيالات - والمجالات , متفاعلة مع بعضها , وليس مؤلف من بنيات فقط متفاعلة مع بعضها . فهذا يمكن أن تحقق لنا معرفة أعمق وأدق للواقع .
- السيّالة هي : إنتقال وجريان ضمن مجرى لسائل أو غاز أو كهرباء أو طاقة أو أمواج , أوسيارات أو نقود أو أي بنيات أخرى , أكانت مادية أو غير مادية .
أمثلة : النهر , الدماء في العروق , جريان الماء أو السوائل في الأنابيب , جريان الكهرباء في الأسلاك , جريان التيارات العصبية في الأعصاب . .
إن آليات وقوانين عمل السيالات متشابهة في كافة أنواع السيالات, فسيالات الكهربائية وسيالات السوائل وسيالات المواد أو البضائع أو النقود و سيالات المعارف والمعلومات ....., كلها ذات آليات متشابهة بشكل كبير.
إن جريان أي سيالة مهما كان نوعها يعتمد على فرق القوة أو فرق الجهد أو فرق الضغط - أو فرق الحاجة أو الدافع-, فيلزم لكي تبدأ السيالة بالجريان قوة كافية للتغلب على المقاومة التي تعترضها , وإذا أريد استمرار جريان سيالة في دارة يجب أن تؤمن قوة محركة كافية للتغلب على مقاومات عناصرهذه الدارة , وإلا يتخامد جريانها ويتوقف .
- دارات السيالات هي : إنتقال سيالة ضمن مجرى محدد مغلق , مثال الدارات الكهربائية أو الإلكترونية . ويمكن أن تتقاطع هذه المجاري مع بعضها .
وهناك تفاعلات فيزيائية أو كيميائية أو فزيولوجية أو حيوية أو اجتماعية . . . تجري بشكل متسلسل , ويمكن أن يكوّن تسلسلها دارة مغلقة . هذه الدارات من التفاعلات المتسلسلة تنطبق عليها أيضاً قوانين آليات عمل دارات السيالات .
إن كافة البنيات أو المنظومات المادية يمكن النظر إليها على أنها في أساسها سيالات لبنيات جزئية تجري بشكل منتظم , فأغلب البنيات مهما كان نوعها أو مستواها , يمكن إرجاعها إلى سيالات مترابطة لبنيات جزئية , تجتمع وتجري ضمن هذه البنيات فتكونها .
إن الكثير من الحوادث وسيرورات الواقع التي نلاحظها في هذا الوجود تحدث نتيجة تأثيرات وتفاعل السيالات, ولكن ليست كلها تعتمد على السيالات , فهناك تأثيرات وتفاعلات البنيات , وتأثيرات وتفاعلات المجالات .
- المجال هو : حيز مكاني- فضاء- صغير أو كبير تنتشر فيه قوى أو تأثيرات خلال زمن صغير أو كبير . والآليات أو القوانين التي تجري فيها تفاعلات المجالات تختلف عن الآليات التي تجري فيها تفاعلات السيالات .
لقد نشأ مفهوم المجال أو الحقل للقوى أو التأثيرات حديثاً في الفيزياء أولاً , وكان مفهوم السيالات أو التيارات موجود سابقاً, أما مفهوم دارات السيالات وقوانين وآليات عملها فقد نشأ حديثاً أيضاً .
والفرق بين المجال والسيالة هو أن المجال شامل لحيز مكاني وخلال زمن, أما السيالة فهي جزء محدد وموجه من مجال يكون على شكل تيار له خصائصه وشدته واتجاهه ويمكن أن يجري ضمن بنيات محددة أو في الفراغ . ففي الغازات والسوائل يتوضح لنا الفرق بين المجال والسيالة- أو التيار- ففيهما نجد المجالات والسيالات بشكل واضح ففي الأجواء والبحار هناك المجالات والسيالات معاً . والمجالات تتفاعل مع بعضها وكذلك تتفاعل مع التيارات التي ضمنها أو التي خارجها , وهذا ما يعقد التفاعلات التي تجري فيهما بشكل كبيرجداً.
فالتفاعلات في الوجود هي أما تفاعلات بين بنيات مع بعضها, أو تفاعلات بين مجالات أو ضمن مجالات , أوتفاعلات بين سيالات أو ضمن سيالات , أو بين المجالات , والسيالات , والبنيات , مع بعضها .
فالإلكترون يتفاعل مع البروتون أو الإلكترون المماثل له عن طريق تفاعل المجال الكهرطيسي, وفي الذرة تتشكل دارات معقدة مغلقة من سيالات كهرطيسية- فوتونات- بين الإلكترونات مع بعضها, وبين الإلكترونات والنواة, وتنتظم هذه السيالات لتشكل طبقات الإلكترونات حول النواة وتتماسك بنية الذرة نتيجة لذلك, وكذلك تنتقل الإلكترونات من ذرة إلى أخرى عبر الأسلاك والعناصرالكهربائية ضمن الدارات الإلكترونية لتشكل دارات من السيالات الإلكترونية , ومنها تتكون الأجهزة الإلاكترونية .
كيف نتعامل مع المجالات والسيالات وداراتها
أن العقل البشري بقدراته الذاتية قاصر عن التعامل مع تفاعلات المجالات وتفاعلات دارات السيالات ودارات التغذية العكسية , فهذا فوق قدرته . ولكن بعد نشوء الرياضيات والعلوم وخاصة الفيزيائية , ثم نشوء التكنولوجيا المتطورة والكومبيوتر, صار بامكان العقل البشري و بمساعدة الرياضيات والكومبيوتر والتكنولوجيا المتطورة التعامل مع بعض تفاعلات السيالات وداراتها والتنبؤ لها بدقة عالية.
وكذلك استطاع العقل البشري التعامل مع بعض الحقول – المجالات- التي استطاع تعيينها وتحديدها مثل حقول قوى المجالات الفيزيائية والتنبؤ لها بدقة عالية جداً.
أما المجالات والحقول البيولوجية, والبيئية, والاجتماعية, والاقتصادية, والثقافية فكان تنبؤه لها تابع لمقدار ما حقق لها من تعيين وتحديد لخصائصها و تأثراتها, وكان هذا متواضعاً , وبالتالي كانت تنبؤاته لتفاعلاتها متواضعة الدقة .
أما عندما أراد التعامل مع التفاعلات التي تجري بين البنيات , والسيالات , ودارات السيالات , والمجالات معاً , فقد وقف شبه عاجز . فهذه التفاعلات أوسع وأعقد بكثير من أن يستطيع بالقدرات التي يملكها الآن التعامل معها بفاعلية والتنبؤ لها ولو حتى بدقة مقبولة , فتأثير المجالات والتي هي من أنواع متعددة وخصائص مختلفة على السيالات وبالتالي على البنيات التي تكونها هذه السيالات أعقد من أن يستطيع التعامل معها مثال على ذلك:
تأثير المجال النفسي والثقافي على السيالات الاقتصادية , أوالبنيات الاقتصادية . وهذا لم ينتبه له أغلب الاقتصاديين سابقاً, فقد كانوا ينظرون إلى الأمور بشكل بسيط ومختزل جداً وبالاعتماد على السببية البسيطة , ولم تراعى تأثيرات الكثير من البنيات والكثير من المجالات . ومن الأساس لم توضح السيالات والبنيات الاقتصادية وداراتها الكثيرة المتشعبة والمتداخلة مع بعضها فهي تشبه الدارات الإلكترونية في الأجهزة الإلكترونية المعقدة . وكذلك لم توضح الكثير من الأمور مثل : الخصائص والدوافع البشرية الأساسية , وكذلك الخصائص الأساسية للبنيات الاجتماعية والثقافية لم توضح بشكل جيد .
وكذلك مجال تأثيرات الاجتماعية والنفسية والعلوم والتكنولوجيا والكومبيوتر والذكاء الاصطناعي لم يحسب بشكل مناسب , فحدوث تغيير أوإختراع أساسي في أحد هذه المجالات يمكن أن يغيرالنتائج كثيراً .
هناك خاصية هامة جدا في عمل الدارات , لابد من التكلم عنها , نظراً لأبعاد تأثيراتها الكبيرة والهامة , وهي " دارة التغذية العكسية " .
إن أبسط شكل للتغذية العكسية هو دارة سيّالة مغلقة واحدة , فهذه السيّالة يتصل مخرجها بمدخلها , وهذه الدارة يمكن أن يستمر جريانها وينتظم إذا تساوت قوى الممانعة والاحتكاك مع قوة الدفع أو الضخ , ولم يحدث تسرب .
ومفهوم التغذية العكسية يقصد به أستخدام جزء من خرج دارة سيالة ما , في دارة إضافية , وإعادته ( أو إضافته ) إلى المدخل , لتنظيم وضبط جريان السيالة في الدارة الأساسية .
ومفهوم التغذية العكسية أو المرتدة بشكله الواضح هذا لم يكن موجوداً قبل القرن الثامن عشر, وقد بدأ في الظهور أولاً في المجال العملي عندما استعمل " جيمس واط" منظمه لسرعة عمل آلته البخارية , هذا المنظم كان مؤلفاً من كرتين معدنيتين معلقتين بزراعين تدوران حول محور , وحسب سرعة هذا الدوران ترتفعان إلى أعلى نتيجة القوة النابذة , وحسب شدة هذا القوة يتم إغلاق جزئي لمرور البخار الذي يحرك الآلة , فإذا تباطأت سرعة الآلة تتباطأ سرعة دوران الكرتين فتنخفضان وهذا يؤدي إلى زيادة فتحة البخار فيتسارع عمل الآلة , وهذا بدوره يؤدي إلى تباطؤها , وهكذا دواليك حتى يحدث توازن في وضع معين . وهذا كان نموذجاً مثالياً لطريقة عمل آلية التغذية العكسية , فالخرج يعود فيؤثر في الدخل بشكل سالب – معكوس- أي النهاية تتحكم بالبداية.
ويمكن التعرف بشكلها الكهربائي من خلال أجهزة الاستقبال اللاسلكية ففي دارة تنظيم قوة الصوت كهربائياً نأخذ جزءاً من خرج دارة تكبير الإشارة ونعود وندخله مع الأشارة الداخلة ولكن بعد عكس إتجاهه وذلك لتخفيف قوة الإشارة, وبذلك تقل قوة الإشارة الخارجة وبالتالي يقل الجزء المستعمل في التغذية العكسية وهذا يؤدي إلى تقوية الإشارة , فتعود وتزداد قوة التغذية العكسية وهكذا دوالك إلى أن تنتظم قوة أشارة الخرج عند حد معين, ويحدث هذا بسرعة كبيرة جداً . والتغذية العكسية يمكن أن تكون موجبة وعندها يتسارع النمو وهذا يمكن أن يؤدي إلى الانفجار أو الاخلال بالتوازن .
إن كافة أجهزة التحكم تعتمد مبدأ التغذية العكسية , وآلية التغذية العكسية تستعمل في كافة مجالات الطبيعة .
فلضبط أو تنظيم أى عمل له هدف وغاية محددة - أى موجه نحو هدف – يجب أن تتشكل حلقة أو دارة تأثيرات مرتدة أو راجعة , بين النتائج والمقدمات- حلقة إعلام وتعرف- تساعد على التوجيه نحو الهدف وعلى تلاؤم النتائج مع المقدمات .
هذه الخاصية يجب أن تكون موجودة في أي جهاز تسديد على الهدف مهما كان نوعه أوطبيعته ليحقق نتائج جيدة . وهذه الآلية موجودة في كافة أعمال الجملة العصبية الموجهة , وموجودة في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية . . . والعلم الذي يدرس آليات وقوانين دارات التغذية العكسية هو السبيرنية, وهو يعتمد على الرياضيات بشكل أساسي .
فتطلق كلمة تغذية عكسية على الإمكان المتاح في السبرنتيك للآلة ( أو البنية ) لتنظيم ذاتها, وذلك باطلاعها الاعلامي المستمر على سيرها . وقد عم استعمال الكلمة فأصبحت تطلق على العضوية وعلى المجتمعات من حيث قدرتها على التنظيم الذاتي .
وإن النظر إلى المشاريع على أنها منظومات سبيرنية يسهل معرفة سلوكها وتطورها وبالتالي التنبؤ لها بدقة عالية , وكذلك معرفة حدود النمو أو التطور لأ مشروع أو بنية , وكافة أنواع وأشكال دارات السيالات يمكن أن تتكون فيها دارة تغذية عكسية .
التغذية العكسية وأصابة أو تحقيق الأهداف .
عندما نريد إصابة أو تحقيق أي هدف مهما كان , لابد من أن نستعمل التغذية العكسية وإلا كانت محاولاتنا عشوائية واحتمال تحقيق المطلوب تابع للصدفة فقط .
فلابد من أن تجري دارة من التأثيرات المتبادلة- وهي بمثابة رسائل متبادلة أو تبادل إعلام- بيننا وبين الهدف , وطبيعة هذه التأثيرات وزمنها بالإضافة إلى آليات معالجة- بسيطة أو متطورة- هذا الإعلام بين الطرفين أي نحن والهدف , هي التي تحدد النتائج . وهذا يحدث بين أي بنيتين تحدث بينهما دارة تأثيرات متبادلة أي تغذية عكسية.
خير الأمور الوسط وعلاقته بالتغذية العكسية.
إن آلية التغذية العكسية هي التي استدعت هذا القول , ففي أغلب دارات التغذية العكسية ومهما كان نوعها هناك منطقة أو مجال يحدث فيه توازن أواستقرار, وينهار هذا التوازن بالابتعاد عن هذه المنطقة إن كان ابتعاد بالزيادة أو بالنقصان, وهذا يعني أن الوسط أو منطقة التوازن هي المطلوبة .
التعليقات (0)