تساءلت كثيرا عن أصل الفساد ومن أين يبدأ، ولما كان هناك الكثير من الإجابات على هذا السؤال العريض، اهتممت أكثر بمن المسؤول عن الفساد. وبما أننا نعيش بمجتمعات منظمة لها نظامها السياسي والإجتماعي ومقسومة الى قسمين رئيسيين هما السلطة والشعب، قلت يا ترى من المسؤول عن الفساد ومن اين يبدأ ضمن هذه التقسيمة. ولكي أنأى بنفسي عن الإجابات الإرتجالية الذاتية الخالية من الموضوعية، لجأت للمعلم الكبيرالتاريخونظرت فيه، ولما كان تاريخنا موغل في القدم كان من الصعب علي ان استعرضه من بدايته، فقررت ان أبدأ من مرحلة أرى انها بداية تشكل النظام السياسي العربي والتي لازالت فاعلة ومؤثرة فينا للآن، ألا وهي بداية تشكل الدولة العربية الإسلامية في المدينة المنورة.
انطلق الرسول الأعظم بدعوته المعروفة للجميع، وركز كثيرا على بناء النظام الإجتماعي المبني بشكل أساسي على العدل واحترام الدستور ممثلا بالقرآن الكريم، ونجح بهذا المسعى نجاحا منقطع النظير. ولما تشكلت الدولة ومؤسساتها وأخذت تمارس دورها بالحكم بعد رحيل الرسول الكريم، لم يكن هناك أي فرق بين الحاكم والمحكوم في الحقوق والواجبات واحترام الدستور والقوانين، فكانت تطبق على الحاكم قبل المحكوم، وكانت نظرة الخليفة لمنصبه نظرة تكليف لا تشريف ولم يكن يرى في اختياره لهذا المنصب تفضيل له عن غيره، كما قال الخليفة الأول ابوبكر رضي الله عنه: وليت عليكم ولست بأفضلكم. استمر هذا النهج الديمقراطي القائم على احترام القانون في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال: أيها الناس إن رأيتم فيَّ اعوجاجا، ما انتم فاعلون؟ فجاءه الجواب سريعا قويا: والله لنقومنك بحد السيف. هذا السؤال وهذا الجواب ما هما إلا انعكاس لحالة من الوعي السياسي الكبير من قبل الراعي و الرعية، ويجسد لحالة عالية من الرقابة الشعبية على تصرفات الحاكم، وواضح ان الفساد لم يكن موجودا لا عند السلطة ولا عند الشعب، فحاكم بهذه الشفافية وشعب بهذه القوة لا يمكن ان يكونوا فاسدين.
وضل هذا الحال ساريا الى عهد الخليفة علي رضي الله عنه الذي لم يتوانى عن اللجوء للقضاء ليفصل بينه وبين أحد مواطني الدولة بقصة الدرع الشهيرة التي ادعى رجل يهودي انها له. استمر المجتمع يحترم القانون ولا يعرف الفساد طريقا اليه ما دام القانون يطبق على الحكام قبل الرعية، وبذلك لا يبقى للمواطن العادي إلا الامتثال للقانون مادام لا يوجد هناك من هو فوقه.
في هذه الأثناء بدأت تتشكل في أطراف الدولة مافيا من الولاة الذين بدأوا يجيرون الحكم لصالحهم الشخصي وبدأوا يحيطون انفسهم بمظاهر التشريف والتميز عن الرعية بكل شيء. وبدأ هؤلاء ممثلين بمعاوية بن ابي سفيان والي الشام يرون في السلطة السياسية القائمة عائقا امام تطلعاتهم وخطرا يهدد المكاسب التي حققوها لأنفسهم. وكان الانقلاب الدستوري والسياسي والأخلاقي على القيم التي كانت سائدة آنذاك، وانتهت تلك الحقبة الناصعة بقتل روح الدستور الذي كان الملاذ الآمن للمواطن البسيط والرادع لتمادي وغي الحاكم بقتل الإمام علي رضي الله عنه واستلام معاوية دفة الحكم.
معاوية الذي سأل مرة أحد جلسائه: ترى لو خالفت القانون ما انتم فاعلون؟ فجاءة الرد لطيفا مزوحا : سنقومك بالخشب. سؤال وجواب يعكسان ويؤسسان لمرحلة جديدة تجعل من الحاكم شرعية وسلطة تفوق شرعية وسلطة القانون. مرحلة بدأت تلوح بأفقها بوادر الفساد السياسي وبدأت الهوة تزيد وتكبر بين الحاكم والمحكوم، وتم في هذه المرحلة سن قانون خطير يلغي أحد الركائز الأساسية للنظام السياسي القائم من خلال إلغاء التشاور في اختيار الحاكم، عن طريق ابتداع نظام البيعة او ما يسمى حاليا بالاستفتاء. ليس هذا فحسب بل حصر هذا المركز بعائلة واحدة وحرم باقي مواطني الدولة من هذا الحق عن طريق نظام التوريث الذي لا ينظر لمؤهلات من سيصبح حاكما ولا لمدى رضى الناس عن من يحكمهم.
بعد ان تم عزل الشعب عن المشاركة في صنع القرار السياسي، واستئثار السلطة بالحكم بالإضافة لتمتعها بالثروة والمال دون وجود أي رقابة عليها، أصبحت هذه الطبقة الجديدة خارج المسائلة القانونية وباتت لها حصانة. تحركت القوة الشعبية مستنكرة لما يحدث وقامت الثورات وعلى رأسها ثورة الشهيد الحسين عليه السلام، مما دفع السلطة الى قمعها بكافة الأساليب من الضرب بالقوة العسكرية الى الإستمالة بالمال والعطايا، فأدى ذلك الى خلق فراغ بين السلطة والناس ظهر بشكل صارخ في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان الذي قال: والله لو قال لي أحدكم اتق الله، لضربت عنقه بحد السيف. قول عكس دكتاتورية السلطة بأوضح صورة، وبيّن انها خارج إطار المسائلة بكل ما تصنعه، بل لا يجرأ أحد على النصح حتى. باختصار كلمة جسدت الفساد الذي بدأ مع استلام معاوية للحكم، لكنه فساد ظل محصور ضمن الطبقة الحاكمة ولم يمتد الى الناس الذين لا يزالون تمسكون بتعاليم الدين الحنيف، بالإضافة لوجود سلطة قضائية حقيقية تفصل بينهم، ولو ان صلاحياتها لا تشمل هؤلاء الحكام، فضلا عن التهاء الناس بالفتوحات الكبيرة الحاصلة.
انتقلت السلطة الى العباسيين بعد ان سئم الناس من تسلط وفساد بني أمية المالي. لكن الدكتاتورية التي أسسها معاوية بن ابي سفيان استمرت مع حكم بني العباس الذين لم يكتفوا بضرب عنق كل من يقول لهم اتق الله، بل ارسوا مفهوم جديد صاغه ابوجعفر المنصور بقوله انه ظل الله على الأرض، يحكم بكلمته ويضرب بسطوته. هذا المفهوم الخطير الذي لانزال نعاني منه الى الآن أصاب الناس بخيبة أمل كبيرة، ومع ازدياد اتساع الدولة واستقرارها وزيادة ثروتها بشكل خيالي، وتمتع الطبقة الحاكمة بكل ملذات الدنيا، وبلوغ الفساد ذروته عندهم، تحركت الغرائز البشرية لدى الناس ودفعتهم الى الإفادة من هذه المكاسب بأي شكل كان، وبدأ الفساد ينتقل اليهم رويدا رويدا، نظرا للأسباب السابقة ولعدم وجود تواصل حقيقي بينهم وبين حكامهم بالإضافة الى غياب القدوة الحسنة.
ومع التهاء الحكام بملذاتهم وانشغالهم عن الناس، انتشر شراء الذمم بشكل كبير للمحافظة على استمرار الحكم مما أدى الى ظهور مراكز قوى جديدة أدت بالنهاية الى تقسيم الدولة. مترافقا ذلك مع ظهور قضاة وشيوخ السلطان الذين يحكمون ويفتون على مزاجه. ضاع العدل وغاب الرقيب فازداد انتشار الفساد بين الناس بشكل رهيب مؤذنا بدخولنا عصورا طويلة الأمد من الانحطاط والتخلف.
استفاقت الشعوب العربية بعد عقود طويلة من الانحطاط واستطاعت تحرير أراضيها من المحتلين الذين أمعنوا في تقسيم المنطقة ونهب ثرواتها، لكنهم لم يرحلوا إلا بعد ان تركوا انظمة تابعة لهم تعمل على حماية ورعاية مصالحهم، وربط هذه البلدان بمعاهدات لا انفكاك منها. لكن بعض النخب الشعبية استطاعت تحرير بلدانها كليا من الهيمنة الإستعمارية واستطاعت هذه النخب الواعية الوصول للسلطة وحكم بلادها. وبدأت بإصلاح ما تم إفساده لعقود طويلة، لكن كانت تغيب عنها الرؤية الواضحة والمنهج الصحيح للقيام بذلك. معتمدين على التجربة والخطأ.
انتظمت هذه النخب الثورية الساعية الى التغيير في تجمعات واحزاب سياسية، أفكارها العامة رائعة لكن نواتها ولبها لا ينتمي لهويتنا الحضارية الحقيقية بل كانت قائمة على اقتباسات من تجارب انسانية لا تصلح لإحداث التغيير المطلوب كونها نتاج تجربة شعوب وثقافة مختلفة عنا. مع ذلك كانت جيدة نوعا ما للسير بالأمور نحو الأفضل، لكن الذي حدث ان النخب الثورية بدأت بتركيز السلطة بأيديها ظنا منها ان هذا يمكنها من تحقيق أهدافها، بالإضافة لغياب ثقافة تداول السلطة في تاريخنا خلا الفترة الأولى في صدر الإسلام ووقعت هذه النخب من جهة أخرى بالخطأ الذي حذر منه هتلر بقوله: ان الحزب الثوري يجب ان لايكون له أعضاء كثر وان يقتصر على ضم الكفاءات والأشخاص ذوي الكفاءة المشهودة والحس الوطني العالي، فإن كان جيدا واثبت فعالية فسيصبح باقي الشعب انصارا ومؤيدين له، لأن فتح باب العضوية لكل من يريد سيؤمن وصول الإنتهازيين والوصوليين الى سدة الحكم وتجيير الأمور لصالحهم الشخصي.
وهذا ما حصل فعلا، الشعب في هذه الأثناء كان يسعى لتأمين حياته واضعا كل ثقته بقياداته وبالشعارات الرائعة المرفوعة. لكن هذه القيادات خذلت شعوبها في تحقيق ما كان متوقعا منها، وبدأت بالعمل على توطيد حكمها بكافة الوسائل ضاربة بمصالح شعوبها عرض الحائط. وتم إعادة صياغة مفهوم ان الحاكم هو ظل الله على الأرض، بمفهوم الرجل الواحد، او القائد الضرورة الملهم المجسد لطموحات الشعب.
ولما كان هذا المفهوم سيسقط بسهولة في الممارسة العملية، عمدت هذه النخب التي استبد بها الفساد من جديد الى نشر الفساد بين القوى الفاعلة والتي يمكن ان تشكل خطرا عليهم من خلال إغرائهم بالمناصب والمال ، ومن كان يمانع تتم تصفيته بدعوى الخيانة والعمالة للغرب او بغياب الحس الوطني على أقل تقدير. ولضمان السيطرة على شعوبهم بعد ان سيطروا على الحكم، حدث شيء خطير وسابقة لم تحدث في تاريخنا كله. فسابقا كانت السلطة مستبدة وفاسدة وجراء هذا ينتقل الفساد الى الناس بشكل عفوي وطبيعي ولأسباب كثيرة متعلقة بقوانين حركة المجتمعات. لكن الذي حدث اليوم ان هذه السلطات عمدت الى تجويع الناس وسلبهم مقدراتهم ليبقوا منشغلين بلقمة العيش ولا يفكروا بغيرها ما يسهل مهمة قيادتهم كثيرا، كما يجعلها تفرح بأي شيء تعمله السلطة او تقدمه لهم بين الحين والآخر، وتصويره على انه انجاز تاريخي غير مسبوق ومكرمة من مكرمات القائد.
ليس هذا فحسب بل عمدوا الى نشر ثقافة الفساد الممنهجة جنبا الى جنب مع سياسة التجويع الممارسة. فانتشر الفساد وعمت الرشوة بين الناس حتى بات المرتشي واللص القدوة والمثال الواجب اتباعه. ضاربين بذلك المنظومة الأخلاقية لهذه الشعوب والتي كانت الضمانة الحقيقية للتغيير. بهذه السياسة الجهنمية استطاعوا تدجين الناس وكم أفواههم وجعلهم يتغاضون عن الفظائع التي ترتكبها القياداتلا نريد الحديث عن استخدام القوة، فالجميع فاسد ولا يحق لأحد ان ينتقدهم وإلا فإنه سيستلم كتابه بشماله، وويل لأصحاب الشمال، وأصبحت الحكمة التي تعبر عن واقع الحال الجديد: من منكم بغير خطيئة فليرجمني بحجر.
بعد هذا السرد لتاريخي الطويل يخالجني شعور غريب ان الفساد يبدأ من السلطة الحاكمة. لا أدري ان كان ينتابكم هذا الإحساس ؟.
http://3bdulsalam.wordpress.com/
التعليقات (0)