مواضيع اليوم

نظرات في كتاب السباعي رحمه الله: "السيرة النبوية: دروس وعبر" (2)

حسن محمد لمعنقش

2012-09-19 22:49:41

0

ضوابط في منهجية دراسة السيرة النبوية
تشغل المنهجية مركز الدائرة في التعامل مع أي موضوع، إذ عليها تبنى الاستنتاجات والخلاصات والأفكار. والخطأ في تلك المنهجية لن يقود إلا إلى الخطأ في الاستنتاج. وفي كتاب د.عماد الدين خليل (دراسة في السيرة) عدة أمثلة للتنكب الاستشراقي المعتاد للمنهجية السليمة في دراسة السيرة، كما هو الشأن في كتابات هنري لامنس وكارل بروكلمان وإسرائيل ولفنسون… حتى أنه يمكن الكلام عن أصول للنظرة الاستشراقية للسيرة(1).
ويتحدث الكثيرون عن قيمة التكوين المنهجي عوض الإكثار من المعلومات. فمن قديم حبذ الصيني تعليمه كيفية اصطياد السمك بدل إعطائه إياه. وما أروع ذلك التوجيه النبوي الذي علم متسولا كيف يكسب من عرق جبينه عوض أن يتكفف الناس، حينما باع منه بعض أمتعته واشترى له بثمنها طعاما وقدوما وقال صلى الله عليه وسلم له: فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما. فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: هذا خير لك أن تجئ المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة(2).
وفي هذه الدراسة سيتم الكلام عن ضوابط في منهجية دراسة السيرة النبوية، نقدم لها بما يوضح حدودها وبعض ارتباطاتها، ونثني بذكر مجموعة ضوابط ينبغي التقيد بها حينها، والله المستعان.
مقدمتان :
المقدمة الأولى:
إن كلامنا يتعلق بالسيرة المحمدية، لا بالسنة النبوية. ومعلوم أن السنة، هي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أي تشمل جانبا نظريا (قول)، وجانبا عمليا تطبيقيا (فعل أو تقرير).
أما السيرة فهي تتضمن كل ما يرتبط بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية وتطبيقاته للإسلام. وقد قام د.إبراهيم قريبي-أحد الباحثين في السيرة- بتتبع تعامل مجموعة من المصنفين في السيرة مع هذه الكلمة (أي السيرة)، كابن سيد الناس في “عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير” وابن زكريا العامري في” بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص السير والمعجزات والشمائل”، والقسطلاني في” المواهب اللدنية بالمنح المحمدية”…وغيرهم من
المصنفين. فتوصل -أي د.قريبي- إلى أن لفظ السيرة مر” بتطورات علمية بارزة “على حد قوله. ثم قال إن العلماء” يخصون لفظ السيرة بالغزوات والسرايا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما يقع فيها من قضايا متعددة الجوانب، لذلك قال الفيومي: وغالب اسم السيرة في ألسنة الفقهاء على المغازي”(3).
ويختم الباحث بقوله:” يمكن القول بأن مصطلح السيرة شامل لجميع ما يتصل بتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم العملية للإسلام”(4).
المقدمة الثانية:
حين الكلام عن ضوابط منهجية التعامل مع السيرة النبوية، قد نجد تداخلا بينها وبين ضوابط التعامل مع الحديث الشريف. فمثلا من تلك الضوابط الضرورية في التعامل مع كل من الحديث والسيرة ضابط إخضاع كل منهما للقرآن الكريم. فالحديث لا يمكن فهمه بمعزل عن القرآن الكريم، ولذلك رد العلماء حديث: ابن الزنا لا يدخل الجنة إلى سبعة أبناء(5)، لأن كتاب الله يؤكد: {و لا تزر وازرة وزر أخرى} (النجم: 38).
وفي السيرة ينبغي قبول كل ما لا يتعارض مع آيات القرآن الكريم ومعطيات السنن الصحيحة…(6)، وهو ما ينعته د. عماد الدين خليل ب “المقياس الصارم”(7).
ضوابط في دراسة السيرة النبوية :
أ- دراسة السيرة في إطار القرآن الكريم:
من المعلوم أن القرآن الكريم يشتمل على الكثير من أحداث ووقائع السيرة، ولذلك كتب محمد عزة دروزة رحمه الله السيرة انطلاقا من كتاب الله عز وجل:( سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: صور مقتبسة من القرآن الكريم).
وبهذا الضابط رد المحققون من العلماء حكاية الغرانيق التي مضمونها، كما ذكـر ذلك ابن جرير رحمه الله: عن سعيد بن جبير قـال: لما نزلت هذه الآيـة: {أفرأيتم اللات والعزى} (النجم 19)، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه. فأنزل الله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيء إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته..} إلى قوله: {عذاب يوم عقيم} (الحج: 52- 55)(8).
وقد أجاد الشيخ الألباني رحمه الله في رده هذه القصة بعد أن ساق جميع رواياتها وبين عللها. وكان من ضمن ما ردها به- غير تعليل الرواية- ما جاء في كتاب الله سبحانه مما يذكره في قوله: “فهذه طامات يجب تنزيه الرسول منها…فإنه لو كان صحيحا لصدق فيه عليه الصلاة والسلام -وحاشاه- قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} (الحاقة: 44- 46)”(9).
كذلك ردها البعض بآيات أخرى منها قوله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك
لتفتري علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لاتجد لك علينا نصيرا}(الإسراء73-74-75)، وقوله تعالى في صدر السورة نفسها:{وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالافق الاعلى} (النجم3-7)
والقرآن صريح أنه لاسلطان للشيطان على الذين آمنوا:{إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا
وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} (النحل:99-
100). فكيف يستطيع شيطان من الإنس أو الجن أن يفتن رسول الله صلى الله عليه وسلم” في التقول على الله، أو يزيد فيما أنزل الله أو ينحرف عن وحي الله…؟”(10).
ب- الاعتماد على صحيح الأخبار:
استفاد الحديث النبوي من مجهودات جبارة لتمييز صحيحه عن سقيمه. غير أن السيرة لم تستفد من مثل تلك المجهودات. فقد عرف عن الإخباريين-عكس المحدثين- التساهل، خاصة وأن غرضهم ذكر أخبار ليست مناط الحلال والحرام غالبا.
في حين كان هم المحدثين ذكر الأحاديث التي هي مناط معرفة الحلال والحرام. ولذلك أثر عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: “ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير”(11). وقد يكون هذا الكلام منه رحمه الله محمولا على كثرة المراسيل والمنقطعات والبلاغات وغيرها فيها، وحمل على غير ذلك.
ومما يجدر التنويه به عمل مجموعة من العلماء على تطبيق مناهج المحدثين على أخبار السيرة، مثلما فعل أحمد صالح العلي في” صحيح السيرة النبوية”، والشيخ محمد بن رزق بن طرهوني السلمي في “صحيح السيرة النبوية ّ أيضا. ود. أكرم ضياء العمري في” السيرة النبوية الصحيحة: محاولة لتطبيق قواعد المحدّثين في نقد روايات السيرة النبوية”، وفي” المجتمع المدني في عهد النبوة: خصائصه وتنظيماته الأولى”،وفي مقدمته يقول:”هذه دراسة كتبتها في أناة، ونقحتها على مهل، وحاولت فيها تطبيق منهج النقد عند المحدثين على الروايات التاريخية…وقد وجهت عددا من الرسائل التي سجلت في قسم الدراسات العليا لنيل درجتي (الماجيستر والدكتوراه) نحو نقد المرويات التي احتوتها كتب الحديث والمغازي والتواريخ عن السيرة النبوية، وذلك بهدف توثيق معلوماتنا عن حياة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام”(12).
أما المنهج المعتمد في توثيق نصوص السيرة، فيوضحه العمري بقوله: “المطلوب اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها، ثم الحَسَنة، ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة التاريخية
لأحداث المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام… وعند التعارض يُقَدم الأقوى دائما…أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعتضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على أن لا تتعلق بجانب عقدي أو شرعي، لأن القاعدة: التشدد فيما يتعلق بالعقيدة أو الشريعة…”(13).
ج- الابتعاد عن المنهج العلماني في فهم السيرة:
من أصول النظرة الاستشراقية للسيرة إسقاط الطابع العلماني الوضعي عليها كما سبق. ففي نظر طائفة من المستشرقين -مثلا- أن الرسول صلى الله عليه وسلم خضع في دعوته لضغط الواقع المتقلب، بحيث لم يكن لدعوته صلى الله عليه وسلم في البداية بُعْدها العالمي إلا حينما واتته ظروف طارئة!!.
ويذكر بندلي الجوزي - أحد رواد التفسير المادي للتاريخ الإسلامي(14) كما يقول عماد الدين خليل -أن “المدينة- وأكثر سكانها فلاحون فقراء- غير مكة صاحبة الثروة والتجارة الواسعة. وعليه فاللسان الذي كان يصلح في مكة لم يعد يصلح في المدينة، بل لم يعد مفهوما هناك. والغاية التي أخذ يرمي إليها النبي في المدينة ويعمل على تحقيقها هي غير غايته في مكة، وفوق ذلك فإن سياسته مع المكيين قد تغيرت كثيرا في المدينة تحت تأثير عوامل جديدة، ولأسباب عديدة أو جدتها الظروف، وأدى إليها الاختيار وحب النبي لوطنه الأصلي وأهله وذويه…(15).
وقد تأثر بعض المحسوبين على الإسلام بهذه النظرة العلمانية. من ذلك كتابة أحدهم لسيرة بدون معجزات، حيث شكك د. محمد حسنين هيكل في كتابه “حياة محمد” في حادثة شق الصدر مثلا - مع أنها في صحيحي البخاري ومسلم وأخرجها جمع من العلماء منهم أحمد والنسائي والحاكم والترمذي…- وقال أي هيكل، عنها: “لا يطمئن المستشرقون، ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه، ويرونها ضعيفة السند…"(16).
ويوضح مقياسه في ذلك في قوله:”…وعندنا أن خير مقياس يقاس به الحديث وتقاس به سائر الأنباء التي ذكرت عن النبي، ما روي عنه عليه السلام أنه قال:إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فمني، وما خالفه فليس عني…” ثم قال: ”و هذا مقياس دقيق، أخذ به أئمة المسلمين منذ العصور الأولى، ومازال المفكرون منهم يأخذون به إلى يومنا الحاضر”(17). ولذلك نجد هيكل ينكر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم” كل ما لا يدخل في معروف العقل “على حد قوله، ويرى” ما ورد من ذلك غير متفق مع ما دعا القرآن إليه من النظر في خلق الله…”(18).
وغير بعيد عن هذا تأويل الطير الأبابيل بداء الجُدَري الذي أصاب أبرهة وقومه، وتفسيرالنبوة تفسيرا فرويديا كما في قول من قال:”نصوص الوحي ذاتها نشأت في الشعور، إما في الشعور العام الشامل وهو ذات الله، أو في شعور المرسل إليه والمعلن فيه، وهو شعور الرسول، أو شعور المتلقي للرسالة، وهو شعور الإنسان العادي الذي قد يشعر بأزمة فينادي على حل ثم يأتي الوحي مصدقا لما طلب…”(19).
ومما تجدر الإشارة إليه، والكلام حول الابتعاد عن المنهج العلماني-ضرورة استعمال المصطلحات والألفاظ الشرعية في دراسة السيرة. فالمصطلحات” لها رصيد نفسي ودلالات فكرية وتطبيقات تاريخية مأمونة. إنها أوعية النقل الثقافي وأقنية التواصل الحضاري”(20) وعليه فمصطلحات المؤمن والكافر والمنافق هي الأجدر بالاستعمال بدل اليساري واليميني والتقدمي والرجعي…وكذلك مصطلح الفتح بدل الاحتلال حين الكلام عن المد الإسلامي، والنبي أو الرسول بدل” مؤسس الدين الإسلامي” و”المصلح العربي” و” واضع الشريعة الإسلامية“ و”المشرع العربي”…وغيرها من الألفاظ التي امتلأ بها كتاب بندلي الجوزي المشار إليه أعلاه(21).
د- فهم النص في إطاره الزماني والمكاني:
إن حدثا يعبر عنه نص من نصوص السيرة، إذا تَمّ ربطه بالظروف الزمانية والملابسات المكانية التي وقع فيها، أمكن التوصل إلى الاستنتاجات الحقيقية من النص.
فمثلا قد يتحمس متحمس للتصالح مع اليهود المغتصبين لأولى القبلتين وثالث الحرمين، انطلاقا من موادعة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود ومعاهدتهم وتركهم على دينهم وأموالهم، مما ذكره نص الوثيقة التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار(22). غير أن نص الوثيقة كان والدولة دولة الإسلام والمسلمين، واليهود محكومين غير حاكمين، بل في نصوصها أن اليهود” إذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم ما على المؤمنين إلا من حارب في الدين…”(23)، فالاستجابة إلى صلح يطلبه اليهود -والإسلام حاكم- مقيدة بمن لا يشن الحرب على دين الله سبحانه.
وفي الحديث: أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: أحي والدك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد(24)، أي فابذل بالغ الجهد في برهما ونيل رضاهما، وهو يقوم مقام جهاد العدو.
هذا الرجل يحتمل أن يكون جاهمة بن العباس بن مرداس، إذ روى النسائي عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك. فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها(25).
وجاهمة ذكره ابن سعد في الطبقات فيمن أسلم قبل فتح مكة من الصحابة(26).
والمعلوم أن المجاهدين من الصحابة آنذاك كثر، مما يدفعنا إلى استنتاج أن الجهاد آنذاك لم يكن متعينا. ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في الفتح عند شرحه للحديث:” قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين، لأن بِرَّهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية. فإذا تعين الجهاد فلا إذن"(27).
هـ - الارتباط حين دراسة السيرة، بالرسالة لا بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم:
إن هذا الضابط يعني عدم المبالغة في تعظيم رسول صلى الله عليه وسلم أو الغلو في شخصه عليه الصلاة والسلام. إنه ضابط عقدي مخالفته لوثة من لوثات النصرانية المحرفة. وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله(28).
وحين يغيب هذا المنهج عمن يتعرض لدراسة السيرة النبوية، فإنه قد يرى أن من وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصل بالأرواح التي في الأجساد، وينزع الحجب ليطلع على القلوب التي في الصدور وأن الرسالة تقتضي لصاحبها…حق التصريف لكل قلب تصريفا غير محدود(29).مع أن مقلب القلوب والذي يتصرف فيها بما يشاء هو الله وحده، ولا مشاركة لأحد له في ذلك، ولو كان نبيا مرسلا.
والارتباط بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم دون الرسالة قد تدفع من كانت تلك حاله إلى تنكب الصراط القويم مع الاحتفاء بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، كما هو الحال في إحياء ذكرى المولد النبوي مثلا مع اقتراف المعاصي في نفس الوقت !! وقد تخلى من كانت تلك حاله أيضا عن الدين بمجرد سماعه وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقادا منه أن الدين انتهى بانتهاء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما أكدته الأحداث التاريخية المرتبطة بحروب الردة.
إن الارتباط بالرسالة يعني الثبات على المبادئ التي جاءت بها الرسالة ولو لم يوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما تجسد في موقف أبي بكر رضي الله عنه حين قال للناس لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم : أما بعد، من كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} إلى قوله {الشاكرين} (آل عمران: 144) (30).
وارتباط المسلم بالرسالة يدفعه إلى التأسي بالرسول في أمور الشرع، وترك ما هو من خصائصه عليه السلام فلا يقتفي أثره فيها، كاختصاصه عليه السلام بالزواج بأكثر من أربع، وبدون ولي ولا شهود، وكاختصاصه صلى الله عليه وسلم بإباحة القتال بمكة المكرمة والقتل بها كما حدث في غزوة الفتح، وغير ذلك…
و- الابتعاد عن تضخيم السيرة بالخوارق والإسرائيليات:
هذا الضابط متفرع عن الضابط السابق، إذ الارتباط بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم
مدعاة لدى البعض لاختلاق أحداث ترفع من شأنه صلى الله عليه وسلم في نظرهم، مع أنه عليه السلام- وبدون تلك الأحداث المختلَقة- المستحق للإجلال والتوقير.
لقد علق بالسيرة، ومنذ القديم، الكثير من المفتريات التي لا تستقيم في ميزان الحقيقة التاريخية، مثل الادعاء بسقوط إيوان كسرى يوم مولده عليه السلام، وانطفاء نار المجوس وغيض بحيرة ساوى…إلخ.وأنشد بهذه المفتريات بعض الشعراء والمخرفون، كما قال أحدهم:
أبان مولده عن طيب عنصره يا طيب مبتدإ منه ومختتــــم
يوم تفرس فيه الفرس أنهــــم قد أنذروا بحلول البؤس والنقم
وبات إيوان كسرى وهومنصــدع كشمل أصحاب كسرى غيرملتئــم
والنار خامدة الأنفاس من أسف عليه والنهر ساهي العين من سدم
وساء ساوة أن غاضت بحيرتهــا ورد واردها بالغيظ حين ظمـي
كأن بالنار ما بالماء من بــلـــل حزنا وبالماء ما بالنار من ضــرم
والجن تهتف والأنوار ساطعــــــة والحق يظهر من معنى ومن كلـم(31) ز- النظر في أسباب الأحداث، بدل اعتماد الغيب وحده أساساً للتحليل:
وهو درس قرآني تمدنا به الآية الكريمة: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير} (آل عمران: 165). إذ ترشد الآية المؤمنين، الذين تساءلوا عن سبب ما لحق بهم في غزوة أحد، إلى البحث عن مصدره في ذوات أنفسهم. حتى إذا استيقنوا هذه الحقيقة، تعود الآية كي تبين لهم أن تلك الأسباب تجري بقدر الله: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين…} (آل عمران: 166). فلا منافاة بين الأخذ بالأسباب وربطها بمسبباتها، وبين الإيمان بالقدر خيره وشره. ولذلك: لما قرر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدم دخول الشام لانتشار الطاعون بها، وقيل له: أفِراراً من قدر الله؟ قال: نعم نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله(32).
ولابن القيم رحمه الله كلام قيم حول الأسباب يقول فيه: “ليس إسقاط الأسباب من التوحيد، بل القيام بها واعتبارها وإنزالها في منازلها التي أنزلها الله فيها هو محض التوحيد والعبودية. والقول بإسقاط الأسباب هو توحيد القدرية الجبرية أتباع الجهم بن صفوان في الجبر، فإنه كان غاليا فيه… وطرد هذا المذهب مفسد للدنيا والدين، بل وسائر أديان الرسل. ولهذا لما طرده قوم أسقطوا الأسباب الدنيوية وعطلوها وجعلوا وجودها كعدمها ولم يمكنهم ذلك، فإنهم لابد أن يأكلوا ويشربوا ويباشروا من الأسباب ما يدفع عنهم الحر والبرد والألم”(33).
ح- رفض منطق التسويغ والتبرير عند التعامل مع أحداث السيرة:
في غمرة الانبهار بالغرب وأفكاره، وما تلا ذلك من انهزام نفسي، بدأ بعض المسلمين يقبلون على دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في محاولة للملاءمة بين بعض ما جاء فيها وبين ما يؤمن به الغرب من قيم. حتى إذا عجزوا عن تحقيق تلك الملاءمة، بذلوا قصارى جهدهم في توهين الرواية التي أعجزتهم وتضعيفها. ولقد رأينا سابقا مثال موقف هيكل من حادثة شق الصدر، مع أنها صحيحة كما مر. ومن الأمثلة أيضا اعتبار بعض الدارسين الجهاد حركة دفاع فقط عن الدولة الإسلامية الناشئة. وحيث لا اعتداء فلا جهاد!! مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال مباشرة بعد انصراف المشركين من غزوة الخندق:” الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم”(34). وهذا ما فعله عليه السلام في غزوة خيبر مثلا، “وقد بدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغار بها فجأة على اليهود الذين استوطنوا بقاع خيبر، دون أن يبدأوا المسلمين بأي محاربة أو قتال" (35).
ومما نفاه البعض أيضا قتل مقاتلي بني قريظة -على الرغم من صحة الرواية فيه(36)- لعدم توصلهم إلى مخرج لتسويغ حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه في اليهود: “…فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم”(37).
ط- معالجة مشكلات الواقع المعيش من خلال السيرة:
اعتاد كثير من الدارسين أن يقبلوا على دراسة السيرة النبوية بطريقة تقريرية جافة لا تحرك عاطفة ولا تثير عقلا، في حين هي تاريخ للمهمة الملقاة على عاتق المسلم فردا، وللرسالة التي يجب أن تحملها الأمة جماعة.
والأكثر من هذا أن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم هي شريعة إسلامية يجب الالتزام بها وتكييف الحياة بمقتضاها، إلا ما قام الدليل على أنه ليس من التشريع كما سيأتي.
ومن ثمة فإن دراسة السيرة لا ينبغي أن تتم بعيدا عن طرح أسئلة واقعنا المعيش عليها، ولا عن العمل على الاستفادة منها في إيجاد حلول لمشكلات حياتنا.
إن غزوات مثل غزوات بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة مثلا تمدنا بأسس لفهم الطبيعة الغادرة والنفسية الحقود لليهود الذين لا يفتأون يدنسون أرض فلسطين.
وإن حدثا مثل الإسراء والمعراج لا ينبغي أن يمر ذكره دون العمل على التأكيد على الارتباط الشديد للمسلم بأرض الأقصى.
وحينما أضحى موضوع المرأة الموضوع الأثير لدى العلمانيين لإعلان الحرب على الإسلام والمسلمين، لم يعد ممكنا، مثلا، الكلام عن أول من آمن بهذا الدين، وهو امرأة (خديجة رضي الله عنها)، وعن أول من استشهد لأجله، وهو أيضا امرأة (سمية بنت خباط رضي الله عنها)، من غير إثارة ارتباط الإسلام -دون غيره من النحل والمذاهب- ومنذ بداياته الأولى، بالانتصار لحقوق المرأة وكرامتها…
إن الدراسة المطلوبة للسيرة أن ندرسها على أنها سنن ربانية يمكن أن تتكرر كلما تكررت
ظروفها(38). فانتصار المسلمين مثلا في غزوة بدر لم يكن حادثا فرديا، إنما كان سنة، سنة قابلة للتكرار، وإن لم يكن بنفس الصورة التي وقعت في بدر. وهذا هو الدرس الذي ينبغي أن نأخذه من هذه الواقعة التاريخية...(39)،وأن نستلهمه في حروبنا مع قوى الاستكبار والطغيان، فتصبح السيرة حية ملازمة لنا في شؤون حياتنا كلها، لا مجرد أقاصيص تردد لنمتع بها أسماعنا، أو حكايات جدات تُنوِّم بها أحفادها كما هو الشأن لدى الكثيرين اليوم.
ي- الربط بين أحداث السيرة لا تجزيئها:
السيرة النبوية حلقات مترابطة لا يمكن عزل حلقة عن أخرى. فحياته عليه السلام تجسيد حي لمنهج متكامل. وعليه فدراستها تقتضي الإحاطة الشاملة بالأحداث لا إخضاعها للتقطيع والتجزيء، ومن ثمة الاقتصار على دلالة حدث معين، بالزعم أنها تعبر عما استقر عليه أمر الإسلام أخيراً من حِكم أو أحكام. ومرة أخرى نشير إلى ترديد البعض للازمة الحرب الدفاعية تعريفا للجهاد في الإسلام، اعتمادا على غزوات دارت أحداثها قبل صلح الحديبية مثلا، وهو ترديد لكلام يحذف جزءا كبيرا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقد تمت الإشارة إلى غزوة خيبر وبدئه صلى الله عليه وسلم لليهود بالقتال، وقوله صلى الله عليه وسلم ، عقب غزوة الخندق: الآن نغزوهم ولا يغزوننا(40).
والغريب أن الذين يجزئون السيرة ويلتقطون حدثا هنا وحدثا هناك لا يطردون هذا التجزيء مع حادث صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا كما في الحديث(41)، إذ من شأن اطراد ذلك التجزيء اعتبار الصلاة إلى بيت المقدس جائزة إلى اليوم!!
ك- التأكد من مدلولات الألفاظ:
من الثابت المعلوم أن اللغة تعرف ما يعرف بظاهرة تغير المجال الدلالي الذي يؤدي إلى نقل لفظ من معناه الأصلي إلى معنى آخر عن طريق استعماله في غير ما وضع له.
حتى إذا ما أطلق اللفظ انصرف الذهن إلى ذلك المعنى الحادث. هذا التغير الدلالي يخضع لقوانين لغوية منها:
1- وجود علاقة المشابهة بين المعنيين.
2- أن يكون اللفظ موضوعا في الأصل لمعنى كلي يشمل عدة جزئيات، فيغلب استعماله في جزئية من تلك الجزئيات.
3- عكس ما سبق، وهو أن يكون اللفظ موضوعا في الأصل لمعنى خاص، فيغلب استعماله في معنى عام، مثل كلمة البأس التي كانت تستعمل أصلا في الحرب، فأصبحت تطلق على كل شدة.
4- أن يطلق اللفظ على معنى اصطلاحي علمي أو مدني بعد نقله من معناه الأصلي.
إن هذا يعني أن اللغة تتطور عن طريق تغير الدلالات مثلا، مما يفرض على الدارس مراعاة دلالات ألفاظ الحديث كما كانت على عهد السلف الصالح، وعدم تنزيلها على المعنى الحادث. من أمثلة ذلك لفظ العصابة المذكور في عدة أحاديث وفي نصوص السيرة، ومن ذلك:
-أخرج البخاري رحمه الله عن أبي إدريس عائذ بن عبد الله أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه -وكان شهد بدرا، وأحد النقباء ليلة العقبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله
عصابة من أصحابه: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا… الحديث(42).
-وأخرج مسلم رحمه الله عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا. فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة. ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم
إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض(43).
إن هذا اللفظ، لفظ العصابة أصبح له الآن معنى قدحي يعادل الإجرام، فلا يمكن إذن تنزيل
اللفظ في الأحاديث ونصوص السيرة على هذا المعنى القدحي، على أن العصابة كانت تطلق آنذاك على المجموعة من الناس. ففي الصحاح للجوهري أن العصابة هي”الجماعة من الناس
والخيل والطير”(44)، وفي لسان العرب هي “جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين… قال الأخفش: والعصبة والعصابة جماعة ليس لها واحد… ومنه قول النابغة: عصابة طير تهتدي بعصائب”(45). ومن أمثلة ذلك أيضا لفظ الشورى، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم "شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان"(46) في غزوة بدر مثلا، واستشار الصحابة أيضا في مقام الجند وفي موضوع أسرى بدر، كما استشارهم في الخروج لأحد وفي غزوة الخندق وفي يوم الحديبية…حتى أنه يمكن الجزم أنه لم يكن أحدٌ "أكثرَ مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه و سلم"(47).
غير أن بعض الناس حملوا هذه الشورى على معنى الديموقراطية الحادث في ديار المسلمين، فقال أحدهم: "… ومع أن روح الديموقراطية الحرة بدأت في الزوال، إلا أننا لازلنا نجد في عهد معاوية -لقرب العهد بعصر الرسول صلى الله عليه و سلم - بقية من ذلك الإشعاع الديموقراطي الحر الذي تركه الرسول صلى الله عليه و سلم في أعماق النفوس"(48).
مثل هذا الكلام يقال مع أن الاختلاف حاصل بين مدلولي كل من الشورى والديموقراطية. إذ الشورى مصطلح إسلامي لا ينبغي أن يطلق على غير مدلوله الشرعي، كما لا يجوز أن يطلق مدلول الصلاة والزكاة والطهارة إلا على الحالة الشرعية المعلومة من الدين(49). وحيث يوجد النص فلا شورى، وإنما الطاعة والتسليم.
ل- التمييز بين أحوال الأفعال الصادرة عنه عليه السلام وعن بعض أصحابه:
لقد مر أن من مميزات سيرة النبي صلى الله عليه و سلم أنها شريعة إسلامية، الالتزام بها
واجب، غير أنه ليس كُلُّ ما ورد فيها تشريع. فمما ثبت في السيرة ولا يؤخذ منه تشريع:
1- ما فعله صلى الله عليه و سلم بحسب طبيعته البشرية مثل أكله صلى الله عليه و سلم
وشربه، مثلما ورد عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان يحب الدباء، فكان يتتبع الدباء من حوالي القصعة، كما قال أنس رضي الله عنه، لما قرب إليه صلى الله عليه و سلم طعام صنعه له خياط(50).
2- ما صدر عنه عليه السلام بحسب تجربته في شتى مناحي الحياة، مما يدخل تحت
تصرفه بالسياسة الشرعية باعتباره إماماً ورئيس دولة، لا باعتباره رسولا. من ذلك مثلا ما ذكره ابن هشام عن غزوة بدر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل بأدنى ماء من بدر،” قال الحباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون. فقال صلى الله عليه و سلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن معه من الناس…(51)
وفعل ما أشار به عليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه.
3- ما قام الدليل على أنه خاص به عليه السلام كزواجه عليه السلام بأكثر من أربع نساء
كما مر، ومثل:”اختصاصه صلى الله عليه و سلم بخمُس الفيء والغنيمة وباصطفاء ما يختاره من الغنيمة قبل القسمة من جارية وغيرها” كما قال السيوطي رحمه الله(52).
وفي ذلك يقول عمر رضي الله عنه:” إن الله قد خص رسوله صلى الله عليه و سلم في هذا
الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره، ثم قرأ: {وما أفاء الله على رسوله منهم -إلى قوله- قدير}، فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه و سلم (53).
وفي الاصطفاء مثلا أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قدمنا خيبر، فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قتل زوجها، وكانت عروسا. فاصطفاها النبي صلى الله عليه و سلم لنفسه، فخرج بها، حتى بلغنا سد الصهباء حلت، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم (54). وقد قال محمد بن سيرين رحمه الله : “كان يضرب له -أي للنبي صلى الله عليه و سلم - بسهم من المسلمين وإن لم يشهد، والصفي يؤخذ له رأساً من الخمس قبل كل شيء”(55) وتؤكد الصديقة عائشة رضي الله عنها ذلك بقولها : “كانت صفية من الصفي”( 56).
بقيت الإشارة إلى أن معرفة الخصائص عند دراسة السيرة يحتمها” أنه عليه الصلاة والسلام إذا تميز للكافة بما خص به من الأحكام انقطع التشوق إلى التأسي به في ذلك، وثبوت خصلة من خصائصه يمنع من ثبوتها في حق غيره عليه السلام”( 57).
4- خصوصيات الصحابة ، ومن ذلك:
ما أخرجه البخاري رحمه الله عن المسور بن مخرمة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
و سلم يقول وهو على المنبر:” إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذَنُ ثم لا آذنُ ثم لاآذن ،إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها”(58).
وفي رواية أخرى للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: “إن فاطمة مني وأنا أتخوف أن تفتن في دينها” .ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه قال:” حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي، وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وبنت عدو الله أبداً”(59) وبنفس المعنى وردت روايات أخرى في البخاري وغيره.
ويمكن أن نستنتج ما يلي:
- أن فاطمة رضي الله عنها يغضبها زواج علي كرم الله وجهه عليها، وإغضابها إغضاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، وهو -أي إغضابه صلى الله عليه و سلم - كفر في الدين.
- أن رفض الرسول صلى الله عليه و سلم لم يكن لتعدد الزوجات، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال : “وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما”، ولكنه رفض لـلجمع بين بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وبنت عدو الله. والدليل على تحريم ذلك الجمع أن عليا كرم الله وجهه تزوج، بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، عددا من النساء، وتوفي تاركا وراءه أربع زوجات حرائر على قيد الحياة، ومنهن أمامة بنت أبي العاص بن الربيع القرشية، كانت فاطمة رضي
الله عنها أوصته بالزواج بها بعدها.
نخلص إذن إلى أن عدم الجمع بين فاطمة رضي اله عنها وبين غيرها هو من خصوصياتها، ولذلك علق الإمام القسطلاني رحمه الله على الحديث بقوله:” … ولا يبعد أن يكون من خصائصه صلى الله عليه و سلم أن لا يتزوج على بناته، وهو خاص بفاطمة”(60).
اعتبار شهادة خزيمة بن ثابت الأنصاري بشهادتين: عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه- وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم- أن النبي صلى الله عليه و سلم ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه و سلم ليقضيه ثمن فرسه: فأسرع رسول الله صلى الله عليه و سلم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه و سلم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته. فقان النبي صلى الله عليه و سلم حين سمع نداء الأعرابي فقال: أو ليس قد ابتعته منك؟. فقال الأعرابي: لا والله ما بعتكه. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: بلى ابتعته منك. فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدا. فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه و سلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين(61).
وقد جاء في تعليق الشيخ التليدي -حفظه الله- في الهامش قوله: “… وفي الحديث فضيلة لخزيمة بن ثابت وخصيصة خصه بها رسول الله صلى الله عليه و سلم…”(62).

خاتمة:
لم يكن ما سبق كل الضوابط الواجب مراعاتها حين دراسة السيرة النبوية، إذ هناك ضوابط أخرى تحتاج إلى زيادة توضيح وبيان.
فأحد الباحثين مثلا ذكر -من تلك الضوابط- صدق العاطفة وتحديد هدف الكتابة والشريحة المخاطبة بها والاهتمام بتحرير المنهج النبوي في سائر المجالات… وذكر آخر ضابط بذل الجهد في جمع الأخبار الواردة في الموضوع الواحد وضابط وجود أمور في السيرة النبوية وقع تحديدها قدرا واتفاقا فلا يقاس عليها… بالإضافة إلى ضوابط أخرى بعضها متضمن فيما ذكرناه(63).
غير أن ما ينبغي التأكيد عليه أن مصادر السيرة النبوية -غير القرآن الكريم وكتب الحديث الملتزمة للصحة، والتي لا تعطي الصورة الكاملة لحياة الرسول صلى الله عليه و سلم في معظمها -هي مصادر فيها الغث والسمين. ومن ثمة لا ينبغي النظر إليها بنفس النظرة ووضعها
في مرتبة واحدة : فمنها ما اقتصر صاحبها فيها على الصحيح فقط مثل مغازي موسى بن عقبة بن أبي عياش، فقد كان الإمام مالك رحمه الله يقول عنه: "عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه ثقة". وفي رواية أخرى أنه قال : "عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي" (64).
ومن مصادر السيرة ما جمع بين الصحيح والضعيف، لكن مع ذكر أسانيد كل رواية، على قاعدة :”من أسند فقد حمل، ومن أرسل فقد تحمل”، مثل صنيع الطبري رحمه الله في تاريخه… وعلى أي فالمطلوب التمييز بين الصحيح والسقيم في تلك المصادر، والله الموفق.

 

 


الهوامش:
1 - يجمل أحد الباحثين تلك الأصول فيما يلي:1- الخضوع للمنطلقات اليهودية والنصرانية، وتأويل مفردات حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في ضوئها. 2- التقاط شواذ الأخبار وتوظيفها.3- وجود قناعات قبلية مسبقة والبحث لها عن مبررات.4- إثارة الشكوك في بعض الحلقات القوية من تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته.5- إسقاط "الطابع العلماني الوضعي للمناهج الغربية " كما يقول عماد الدين خليل (ص 17).انظر مقال:السيرة النبوية في مناهج المستشرقين تكريس لمركزية الغرب وتشويه لثوابت الوعي الإسلامي لخالد توفيق، مجلة (العالم)، لندن. عدد 98.
2 - الحديث بتمامه في سنن أبي داود في الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة، حديث 1641. والحديث أخرجه أيضا ابن ماجة في التجارات، باب بيع المزايدة، حديث 2198، والترمذي مختصرا في البيوع، باب ماجاء في بيع من يزيد، حديث 1218 ثم قال: حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان.
3- د. إبراهيم قريبي ، مرويات غزوة حنين وحصار الطائف، ج 1 ص10 وص 11.
4- نفسه ونفس الصفحة.
5 - ذكر د.مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه (السنة النبوية ومكانتها في التشريع) أن هذا الكلام مأخوذ من التوراة. وبالرجوع إلى سفر التثنية وجدنا ما يلي :لا يدخل ابن زنا ولا أحد من نسله في جماعة المؤمنين بالرب ولو في الجيل العاشر (التثنية: 23/3). وفيه أيضا:جميع هذه اللعنات تحل عليكم وتلحق بكم وتطبق عليكم حتى تزيلكم، لأنكم لم تسمعوا كلام الرب وإلهكم وتعملوا بوصاياه وسننه التي أمركم بها، فتكون آثارها فيكم وفي نسلكم إلى الأبد(التثنية 28:45-46).
6و7 - د. عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، ص 06..
8 - أخرجه ابن جرير في تفسيره، المجلد 09 ص 176.
9 - الألباني رحمه الله، نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، ص 36.
10-محمد سيد أحمد المسير، مقال:”دفاع عن الوحي المحمدي: قصة الغرانيق بين العقل والنقل” مجلة جامعة الملك عبدالعزيز، عدد خاص بالعلوم التربوية،المجلد01.
11- أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (تحقيق محمود الطحان، ص 8/162). وهناك من يضعف ثبوت هذه القولة عن الإمام أحمد رحمه الله، على اعتبار أن في سندها مجموعة من الثقات غير محمد بن سعيد الحراني الذي لا يحتج بروايته وإنما تكتب للاعتبار، وذلك إشعار ضعف (أحمد محمد العليمي باوزير، مرويات غزوة بدر، ص 34.)
12 - د.أكرم ضياء العمري، المجتمع المدني في عهد النبوة، ص09 من المقدمة، وقد أثمرت هذه المجهودات عدة رسائل منها:
- الهجرة الأولى في الإسلام (فقه المرويات) لسليمان بن حمد العودة .
- مرويات غزوة بني المصطلق لإبراهيم قريبي، وهي رسالة ماجيستر تحت إشراف د. أكرم ضياء العمري.
- مرويات غزوة حنين وحصار الطائف لقريبي أيضا
- مرويات غزوة بدر لأحمد محمد العليمي باوزير.
- مرويات غزوة أحد للدكتور أحمد الباكري.
- مرويات فتح مكة لمحسن الدوم رحمه الله.
- مرويات السيرة في العهد المكي إلى نهاية حادث الإسراء والمعراج لعادل عبد الغفور.
- أمهات المؤمنين للدكتور عبد العزبز آل عبد اللطيف.
- مرويات تاريخ يهود المدينة للدكتور أكرم حسين علي.
- مرويات صلح الحديبية للدكتور حافظ محمد الحكمي وغيرها…
13- د. أكرم ضياء العمري، المرجع السابق، ص25.
14 - د. عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، ص 19.
15- بندلي الجوزي، من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام، ص 48.
16- نقلا عن د.سعد المرصفي: الجامع الصحيح للسيرة النبوية، ص 126.
17- نفسه، ص 123/124. والحديث الذي انطلق منه الرجل حديث موضوع، وهو من وضع الزنادقة، كما يذكر ذلك أهل هذا الفن.
18- نفسه، ص 123.
19- حسن حنفي، التراث والتجديد، ص 114/115.
20- من تقديم عمر عبيد حسنة لكتاب د.محسن عبد الحميد، المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، كتاب الأمة 06، ص 12/13.
21- ذكر ذلك في أكثر من عشرين صفحة من كتابه المذكور.
22- يذكر د.أكرم ضياء العمري أن نص الوثيقة ذكره ابن إسحاق دون إسناد، وابن سيد الناس برواية ابن أبي خيثمة لها من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو المزني- وهو ممن يروي الموضوعات- وذكرها أو عبيد القاسم بن سلام في الأموال بسند فيه انقطاع ويقف عند الزهري رحمه الله.
ويذكر العمري أن بعض نصوص الوثيقة وردت في الصحاح وبقية كتب الحديث متصلة. ثم يختم قائلا:”وإذا كانت الوثيقة بمجموعها لا تصلح للاحتجاج بها في الأحكام الشرعية سوى ما ورد منها من كتب الحديث الصحيح، فإنها تصلح أساسا للدراسة التاريخية التي لا تتطلب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية، خاصة وأن الوثيقة وردت من طرق عديدة تتضافر في إكسابها القوة…”من” المجتمع المدني في عهد النبوة”، ص: 108-111.23
23 - تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون، ص 103.
24- البخاري في الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، حديث 3004.
25- أخرجه النسائي، واللفظ له، في الجهاد، باب الرخصة في التخلف لمن له والدة، حديث 3104، وأحمد في 3/429، وابن ماجة في الجهاد، باب الرجل يغزو وله أبوان، حديث 2781. كما أخرجه الحاكم (4/151) وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي في الذيل.
26- الطبقات الكبرى لابن سعد، ص 4/274.
27-ابن حجر، فتح الباري، ص 6/173.
28 - البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله:واذكر في الكتاب مريم… حديث 3445.
29 - الشيخ علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، ص 156.
30- البخاري في المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، حديث 4454.
31 - من بردة البوصيري، أنظر: ديوان البوصيري، شرح أحمد حسن بسج، ص 168/169.
32 - من حديث أخرجه بتمامه البخاري في الطب، باب ما يذكر في الطاعون، حديث 5729.
33- ابن قيم الجوزية رحمه الله: مدارج السالكين ص: 3/495 - 469.
34- من حديث للبخاري عن سليمان بن صرد في المغازي، باب غزوة الخندق، حديث 4110.
35- محمد سعيد رمضان البوطي، فقه السيرة، ، ص: 259.
36-كما في: البخاري في المغازي، باب مرجع النبي (ص) من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة، حديث 4121، ومسلم في الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز، حديث 1766.
37- البخاري، نفس الموضع السابق، حديث 4122.
38-محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص: 81.
39-نفسه بنفس الصفحة.
40 - سبق تخريجه.
41- من حديث أخرجه البخاري في الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، حديث 40.
42 - كتاب الإيمان، باب بدون ترجمة، حديث 18.
43 - كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، حديث 58.
44 - الصحاح للجوهري، مادة عصب.
45 - لسان العرب لابن منظور، مادة عصب.
46- أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب غزوة بدر، حديث 1779.
47- أخرجه الترمذي موقوفا على أبي هريرة رضي الله عنه، بصيغة التمريض (يروى…)، وذلك في الجهاد، باب ما جاء في المشورة.
48- د. عبد الحميد الأنصاري، الشورى وأثرها في الديمقراطية، ص: 14.
49- باوزير، مرجع سابق، ص: 440.
50- انظر البخاري، كتاب البيوع، باب الخياط، حديث 2092.
51 - تهذيب سيرة ابن هشام، ص: 115. وقد علق باوزير على هذه القصة قائلا أنها” رويت موصولة ومرسلة من طرق كثيرة ولو أن فيها ضعفا، ولكنها قد تتقوى وترتفع عن درجة الضعف إلى درجة الحسن…” (مرجع سابق، ص: 164-165).
52- الشيخ عبد الله التليدي، تهذيب الخصائص النبوية الكبرى للسيوطي رحمه الله،ص: 414.
53 - من حديث طويل أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب فرض الخمس، حديث 3094.
54 - البخاري في المغازي، باب غزوة خيبر، حديث 4211.
55 - أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في سهم الصفي، حديث 2992.
56 - أخرجه أبو داود في نفس الكتاب والباب السابقين، حديث 2994.
57 - الكلام لأحد فقهاء الشافعية القاضي مجلي بن جميع بن نجا القرشي (ت 0549) في كتابه: الذخائر في فقه الشافعية، ذكره الحافظ الخيضري الشافعي في:” اللفظ المكرم بخصائص النبي المعظم “ص: 16.
58 -البخاري في النكاح، باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف، حديث 5230.
59 - البخاري في فرض الخمس، باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه… حديث 3110.
60 - القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، ج 11 ص: 517.
61- أخرجه أبو داود في الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، حديث 3607.
62 - الشيخ التليدي، مرجع سابق، ص: 441.
63- يراجع:
- عبد اللطيف بن محمد الحسن، مقاله القيم : أصول وضوابط في دراسة السيرة النبوية الشريفة، مجلة البيان الغراء، عدد 147.
- د. محمد بن صامل السلمي، مقال : ضوابط استخراج الدروس والفوائد التربوية من السيرة، مجلة البيان، عدد 159.
64- كلام مالك رحمه الله من تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني، ص 10/361 .

 


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !