ب- الحديث الضعيف في كتاب السباعي رحمه الله
الحديث الأول:
ذكر السباعي رحمه الله حديثا للترمذي سيأتي، وعلق عليه في الهامش بأنه " رواه الترمذي بسند صحيح" (1). إلا أن الحديث عند الترمذي ضعيف، كما قال الألباني رحمه الله. وهو –في سنن الترمذي- مخرج بذكر سبب وروده، ولفظه:
"عن العباس بن عبدالمطلب قال: قلت: يارسول الله، إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مَثَلَك كمثل نخلة في كبوة من الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير فِرَقهم وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا" (2).
وقد قال الألباني عقبه: ضعيف. ومن سند الحديث: "عن يزيد بن أبي زياد عن عبدالله بن الحارث عن العباس..."، قال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (الضعيفة 3073):
" يزيد بن أبي زياد، وهو الهاشمي مولاهم، قال الحافظ: (ضعيف، كبر فتغير، صار يتلقن) (3).
وأخرجه أيضا الحاكم (4) وسكت عنه، كما سكت عنه الذهبي رحمه الله في الذيل.
فسند الحديث إذن في الترمذي ضعيف لضعف يزيد، وليس صحيحا كما ذكر السباعي رحمه الله.
لكن في الباب:
أخرج مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (5).
ولعله من الأولى ذكر هذه الرواية لصحتها.
الحديث الثاني:
دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي..."(6).
هذا الدعاء ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" وقال:
" رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات" (7).
لكن د. العمري قال: " وأما دعاؤه على ثقيف بقوله (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي...إلخ) ولقاؤه بعداس فلم يثبت من طريق صحيح" (8).
وقال في الهامش أيضا: " أخرجه ابن إسحاق بسند صحيح، لكنه مرسل محمد بن كعب القرظي، والمرسل من أنواع الضعيف لايحتج به إلا مع قرائن. والحديث (اللهم إليك أشكو) ساقه بدون إسناد، وكذلك قصة عداس ساقها بدون إسناد" (9).
____________
1- السيرة النبوية، ص 19.
2- أخرجه في المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم، حديث 3607، وقال:" حديث حسن، وعبدالله بن الحارث هو ابن نوفل".
3- السلسلة الضعيفة، ص 7/74.
4- المستدرك (3/247).
5- أخرجه في الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، حديث 01.
وأخرجه الترمذي في المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم، حديث 3606، وقال الألباني: صحيح.
6- السيرة النبوية، ص 31.
7- مجمع الزوائد (6/35).
8- السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري، ص1/186.
9- نفسه بنفس الصفحة.
___________________________________________________________________
الحديث الثالث:
قال السباعي رحمه الله عن الهجرة : "وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ، وبعد أن طال انتظار أصحابه له ، يخرجون كل صباح إلى مشارف المدينة ، فلا يرجعون إلا حين تحمى الشمس وقت الظهيرة . فلما رأوه فرحوا به فرحا عظيما ، وأخذت الولائد ينشدون بالدفوف:
طلع البدر علينــــــــــا من ثنيات الـــــوداع
وجب الشكر علينــــــا مـا دعــا للـــــه داع
أيها المبعوث فينـــــــا جئت بالأمر المطاع" (1).
هذا الذي ذكره السباعي رحمه الله، مثلما ذكره مجموعة من الأفاضل، هو مما اشتهر على ألسنة الناس حتى أصبح من المسلمات. غير أنه عند التحقيق نجد أنه مضمون حديث لايصح، كما ذكر ذلك المحققون من العلماء.
وللتوضيح يمكن القول أن كلام السباعي رحمه الله يشير إلى ما رواه البيهقي رحمه الله في "الدلائل" قال: أنبأنا أبو عمرو الأديب قال: أخبرنا أبوبكر الإسماعيلي قال: سمعت أباخليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم عليه السلام المدينة جعل الناس والصبيان يقلن:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع (2).
وابن عائشة هو عبيدالله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبيدالله بن معمر التميمي، أبوعبدالرحمن البصري، المعروف بالعيشي والعائشي وبابن عائشة. وسمي بابن عائشة لأنه من ذرية عائشة بنت طلحة. وهو ليس صحابيا ولا تابعيا، بل أخذ ممن أخذ عن التابعين. فالحديث إذن معضل، أي سقط منه على الأقل ثلاثة من الرواة: الصحابي والتابعي وتابعه. وإلى ذلك أشار ابن حجر رحمه الله في "الفتح" فقال: "وهو سند معضل، ولعل ذلك –أي النشيد- كان في قدومه من غزوة تبوك"(3) .
أما حال ابن عائشة، فهو على العموم "ثقة" كما ذكر ابن حجر في التقريب (4)، وهو من كبار الطبقة العاشرة، فهو لم يلق التابعين . ومعنى ذلك أن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوز .
فالحديث ساقط سندا كما هو واضح. وقد ضعفه الألباني رحمه الله (5). وقال العمري: " أما تلك الروايات التي تفيد استقباله بنشيد (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع) فلم ترد بها رواية صحيحة" (6).
وللحديث رواية أخرى أخرجها الحاكم من طريق إسحق بن أبي طلحة عن أنس: "...فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدف وهن يقلن:
نحن جوار من بني النجار ياحبذا محمد من جار (7)
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله زيادة في هذا الحديث فقال: "وما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة خرجت بنات النجار بالدفوف وهن يقلن:(طلع البدر علينا من ثنيات الوداع) إلى آخر الشعر، فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم:(هزوا غرابيلكم بارك الله فيكم) هذا لايُعْرَف عنه" (8).
وقد أورد صاحب المقال القيم: "دراسة في حديث (طلع البدر علينا)..." روايات عدة للحديث وبين ضعفها، فليرجع إلى المقال من شاء الاطلاع على تلك الروايات (9).
____________
1- السيرة النبوية، ص 38.
2- دلائل النبوة، ص 2/506 – 507.
3- الفتح، ص 7/333.
4- تقريب التهذيب، ص 82.
5- الضعيفة رقم 598.
6- السيرة النبوية الصحيحة، ص 1/219.
7- المستدرك (4/16) .
8- الفتاوي، 18/124.
9- مقال: "دراسة في حديث (طلع البدر علينا)، دراسة حديثية للخبر والنشيد" للدكتور أنيس بن أحمد بن طاهر الأندنوسي، مجلة (مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة)، عدد 12.
_____________________________________________________________________
وقد ناقش العلماء متن الحديث، وتناولوا ما يلي:
" 1- في النشيد رقة وليونة لاتناسب أساليب القول في الزمن المنسوب النشيد إليه، وربما يكون من أشعار القرن الثالث الهجري.
2- جاء النشيد على وزن بحر (الرمل)، وكان يغلب على الأناشيد المرتجلة (الرجز).
3- مما يروى من أبيات النشيد:
جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع
كيف يقول أهل المدينة (شرفت المدينة )، وإنما سميت المدينة بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، واسمها المعروف لديهم (يثرب) ..." (1).
أما تسمية "ثنية الوداع"، فقد رأى مجموعة من العلماء أنها حادثة بعد استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بسنوات، وفي ذلك قال القسطلاني رحمه الله : "وسميت ثنية الوداع لأنه عليه السلام ودعه بها بعض المقيمين بالمدينة في بعض أسفاره. وقيل: لأنه عليه السلام شيع إليها بعض سراياه ، فودعه عندها" (2). وذكر الشارح (الزرقاني) أن السفر المقصود هي غزوة تبوك، وأن السرية هي سرية مؤتة . ثم قال الزرقاني: "وهذان يعطيان أن التسمية حادثة" (3).
بالإضافة إلى ذلك ذكر العلماء أن "ثنية الوداع" ليست من جهة مكة حيث قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في الهجرة. بل هي جهة الشام. قال ابن القيم رحمه الله عمن قال إن ثنية الوداع جهة مكة: "...وبعض الرواة يهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لايراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام" (4).
والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري رحمه الله عن السائب بن يزيد قال: "أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدَمَه من غزوة تبوك" (5).
ثم إن الصحيح يذكر أن المستقبلين للرسول صلى الله عليه وسلم رددوا كلاما آخر، وليس ماجاء في النشيد. فعن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانوا يقرئون الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر. ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول صلى الله عليه وسلم. فما قدم حتى قرأت (سبح اسم ربك الاعلى) في سور من المفصل (6).
و"في رواية عبدالله بن رجاء: فخرج الناس حين قدم المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم: جاء محمد رسول الله، الله أكبر، جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (7).
والخلاصة: "أن هذا النشيد لايصح من جهتين: الإسناد والمتن...، ولم أجد أو أظفر بعالم من علماء السنة أهل الحديث المختصين بعلم الحديث الذي يعتمد عليهم ويوثق بعلمهم، وهم أهل الجرح والتعديل
السابقين والمعاصرين، من صحح هذا النشيد، وأثبت بأن النساء والولائد قلن ذلك عند دخول سيد البشر إلى المدينة. وهذا النشيد لم تروه الكتب الستة والعشرة والأربعين !!" (8).
_______________
1- ملخص لكلام محمد محمد حسن شراب في كتابه: "المعالم الأثيرة". أخذته عن مقال الدكتور أنيس الأندنوسي المذكور.
2- المواهب اللدنية مع شرح الزرقاني، ص 2/166.
3- شرح الزرقاني على المواهب اللدنية، ص 2/166.
4- زاد المعاد (3/551).
5- أخرجه في المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، حديث 4427.
6- أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، حديث 3925.
7- الفتح، ص 7/332.
8- مقال: "تحقيق أنشودة طلع البدر علينا..." للشيخ حاي الحاي، مجلة "أ ُمّتي"، عدد 42.
_______________________________________________________________________
الحديث الرابع:
ذكر السباعي رحمه الله حديث "الحكمة ضالة المؤمن يتلمسها أنى وجدها" (1)، وقال معلقا في
الهامش: "انظر (كشف الخفا) للعجلوني في روايات هذا الحديث)" (2).
والحديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها" (3). وقد ذكر الترمذي عن أحد رجال السند قوله، بعد الحديث: "إبراهيم بن الفضل المخزومي يُضَعف في الحديث من قبل حفظه".
وقال الألباني عن الحديث: "ضعيف جدا". وهو نفس ما قاله عن رواية ابن ماجة (4).
أما عن إبراهيم بن الفضل المخزومي المذكور، فقد قال الألباني أنه "متروك كما في التقريب" (5).
الحديث الخامس:
قال السباعي رحمه الله عن غزوة خيبر:" ...ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى كثرة من معه: لن نغلب اليوم من قلة" (6).
ثم أتبع الحديث بتعليق في الهامش كما يلي:
" لم يثبت هذا من قوله صلى الله عليه وسلم، فقد رواه ابن إسحاق في المغازي، وفي سنده انقطاع وجهالة. وقيل: القائل ذلك سلمة بن سلامة بن وقش. وقيل: أبو بكر الصديق. وقيل: العباس. وقيل: رجل من بني بكر" (7).
وفي مسند أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا يُغْلَب إثنا عشر ألفا من قلة " (8).
وفي رواية أخرى عن ابن عباس أيضا قال: :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف. قال: و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لن يُغْلَب قوم عن قلة، يبلغون أن يكونوا اثني عشر ألفا " (9).
والحديث أخرجه أيضا الترمذي (10) عن ابن عباس رضي الله عنهما بنفس لفظ أحمد الأول، ثم قال: "هذا حديث حسن غريب لايسنده كبير أحد غير جرير بن حازم، وإنما رُوِي هذا الحديث عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا...". وقد ذكر الألباني رحمه الله أن الحديث ضعيف.
كما أخرجه أبوداود (11) رحمه الله بنفس اللفظ، ثم قال عقبه: "والصحيح أنه مرسل"، لكن الألباني رحمه الله ذكر أنه "صحيح".
غير أن هذه الأحاديث وردت، كما هو واضح، في موضوع آخر غير الموضوع المذكور في أثر : "لن نغلب اليوم من قلة".
الحديث السادس:
قال السباعي رحمه الله عن "العزى" –صنم لقريش- ما يلي: "...وقد زعموا أنها كانت حبشية، نافشة شعرها، واضعة يدها على عاتقها في داخل شجرة كان قد قطعها خالد، فبرزت له بهذا الشكل، فضربها
____________
1- السيرة النبوية، ص 75.
2- نفسه بنفس الصفحة.
3- أخرجه في العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، حديث 2687، ثم قال: هذا حديث غريب لانعرفه إلا من هذا الوجه.
4- رواه ابن ماجة في الزهد، باب الحكمة، حديث 4169.
5- من تحقيق الألباني رحمه الله لمشكاة المصابيح للخطيب التبريزي، ص 1/75.
6- السيرة النبوية، ص 81.
7- نفسه.
8- المسند (1/294).
9- نفسه (1/299).
10- أخرجه في السير، باب ما جاء في السرايا، حديث 1555.
11- أخرجه في الجهاد، باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا، حديث 2611.
______________________________________________________________________
ففلق رأسها، فإذا هي حممة، فلما أَخبَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداء مهمته، قال عليه الصلاة والسلام: تلك العزى ولاعزى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد بعد اليوم" (1).
وقد أورد الإمام البغوي رحمه الله في تفسيره "معالم التنزيل" رواية مضمونها شبيه لما ذكره السباعي رحمه الله، فقال:
" يقال إن خالدا رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قلعتها, فقال: مارأيت؟ قال: مارأ؟يت شيئا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قلعت. فعاودها فعاد إليها ومعه المعول، فقلعها واجتث أصلها، فخرجت منها امرأة عريانة. فقتلها ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال: تلك العزى ولن تعبد
أبدا" (2).
وقد علق المحقق في الهامش: "عزاه صاحب الفتح السماوي لابن مردويه" (3).
وفي "الفتح السماوي": "قوله (أي القاضي البيضاوي): والعزى سمرة لغطفان كانوا يعبدونها، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها"، ثم قال صاحب " الفتح"، المناوي رحمه الله: "أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس" (4).
وقد علق محقق "الفتح السماوي" على كلام المناوي قائلا: "عزاه له (أي لابن مردويه) الزيلعي، وساق سنده، فهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه، وكلاهما ضعيفان، بل الكلبي متهم..." (5).
ثم ذكر المناوي رحمه الله رواية أخرجها النسائي، وهي: أخبرنا علي بن المنذر قال: حدثنا ابن فُضَيل قال: حدثنا الوليد بن جُمَيْع، عن أبي الطُفَيْل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد، وكانت على ثلاث سمُرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "ارجع فإنك لم تصنع شيئا"، فرجع خالد، فلما أبصرت به السدنة، وهم حجبتها، أمعنوا في الجبل، وهم يقولون: يا عزى. فأتاها خالد، فإذا هي امرأة عريانة ناشرة شعرها تَحْتَفِنُ التراب على رأسها، فعممها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "تلك العزى" (6). وقد علق محقق "الفتح" عليه بقوله: "إسناده حسن"(7).
ج- حديث يحتاج إلى وقفة:
في الفقرة الثالثة من كتابه، يشير السباعي رحمه الله إلى فترة الوحي وحزن الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك "حتى كاد يخرج إلى الجبال فيهم بأن يتردى من رؤوسها" (8).
ثم علق في الهامش قائلا:
" هذه الجملة: (كاد يتردى من رؤوس الجبال حزنا بعد فتور الوحي)، وإن كانت في صحيح البخاري، هي من بلاغات الزهري، وليست موصولة" (9).
وبالفعل فإن هذه الجملة مذكورة في صحيح البخاري (10)، في حديث طويل من حديث الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، وفيه: "...وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم –فيما بلغنا- حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه
______________
1- السيرة النبوية، ص 96.
2- تفسير البغوي، ص 7/408.
3- نفسه.
4- الفتح السماوي للمناوي، ص 3/1015.
5- نفسه.
6- السنن الكبرى، كتاب التفسير، باب قوله تعالى :(أفرايتم اللات والعزى)، حديث 11547.
7- الفتح السماوي، ص 3/1015.
8- السيرة النبوية، ص 26.
9- نفسه.
10- في التعبير، باب أول ما بديئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، حديث 6982.
______________________________________________________________________
تبدى له جبريل...".
وقد علق ابن حجر على هذا الكلام في الفتح بقوله:
" إن القائل (فيما بلغنا) هو الزهري. ومعنى الكلام أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة، وهو من بلاغات الزهري، وليس موصولا" (1). وسيأتي مزيد بيان لهذا الأمر.
أما معنى البلاغات فكقول مالك رحمه الله مثلا: "بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا..."، وهو كثير في الموطإ.
فما مرتبة بلاغات الزهري رحمه الله عند علماء الحديث؟
إن الزهري رحمه الله حينما يقول: "بلغني أو بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا أو فعل
كذا..."، فهو يسقط راويا على الأقل، أي أن بلاغاته رحمه الله هي في منزلة المراسيل، وحكم مرسل الزهري رحمه الله أنه غير مقبول.
لكن ما الحاجة إلى ذكر كل هذا هنا؟
السبب بسيط، وهو أن البعض –خاصة من الشيعة والمتشيعين- اتخذ من هذا البلاغ تكأة يستند عليها للتشكيك في صحيح البخاري رحمه الله، واعتبروا أن فيه انتقاصا من مقام الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ كيف يعقل أن يهم المعصوم عليه الصلاة والسلام بالانتحار؟
وعلى الرغم من أن هذه الشبهة تحيل على واقعة –إن ثبتت- كانت قبل نزول التشريع وتحريم الانتحار، إلا أن علماء الأمة سلكوا في الرد عليها مسلكين:
الأول: البحث في سند الحديث الذي يذكرها.
والثاني: مناقشة الشبهة في ذاتها.
أ- البحث في سند الحديث:
وردت العبارة المذكورة بصيغ مختلفة في ثلاثة أحاديث:
1- أخرج ابن سعد في الطبقات قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى، عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي بحراء مكث أياما لايرى جبريل عليه السلام، فحزن حزنا شديدا حتى كاد يغدو إلى تبير مرة وإلى حراء مرة، يريد أن يلقي نفسه منه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامدا لبعض تلك الجبال، إلى أن سمع صوتا من السماء، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقا للصوت، ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعا عليه، يقول: "يامحمد، أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل" (2).
هذا الحديث مروي عن محمد بن عمر، وهو الواقدي، وقد وثقه البعض وجرحه البعض الآخر.
فممن وثقه :
- الدراوردي قال :" الواقدي أمير المؤمنين في الحديث " (3).
- وقال مجاهد بن موسى :"ما كتبت عن أحد أحفظ من الواقدي "(4).
- قال جابر بن كردي : سمعت يزيد بن هارون يقول :"الواقدي ثقة" (5).
لكن غير هؤلاء من أساطين الجرح والتعديل أمثال: أحمد وابن المديني والبخاري ويحيى بن معين...ضعفوا الواقدي. ومن أمثلة أقوالهم في ذلك:
- قول البخاري رحمه الله عنه في " الضعفاء": "متروك الحديث" (6). وقال عنه أيضا: "سكتوا عنه،
____________
1- فتح الباري، ص 12/446.
2- الطبقات لابن سعد، ص 1/196.
3- ميزان الاعتدال للذهبي رحمه الله، ص 3/665.
4- نفسه، ص 3/663.
5- نفسه، ص 3/665.
6- نفسه، ص 3/665.
_____________________________________________________________________
ماعندي له حرف" (1).
- وقال ابن أبي حاتم: "نا عبدالرحمن قال: سألت أبا زرعة عن محمد بن عمر الواقدي فقال: ضعيف. قلت: يُكتَب حديثه؟ قال: ما يعجبني إلا على الاعتبار، ترك الناس حديثه" (2).
- وقال عنه يحيى بن معين: "الواقدي ليس بشيء" (3). وقال: "أَغْرَب الواقدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين ألف حديث "(4).
بل من علماء الجرح والتعديل من اتهمه بالكذب والوضع، فمثلا :
- قال يونس بن عبدالأعلى: قال لي الشافعي: "كتب الواقدي كذب " (5).
- وقال الدولابي: حدثنا معاوية بن صالح: قال لي أحمد بن حنبل: "الواقدي كذاب" (6).
- وقال إسحق بن راهويه: "هو عندي ممن يضع الحديث" (7).
وللإمام الذهبي رحمه الله كلمة فصل بين من وثقه وبين من جرحه، إذ قال رحمه الله:
" وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج. أما في الفرائض فلا ينبغي أن يُذكَر. فهذه الكتب الستة ومسند أحمد وعامة من جمع في الأحكام، نراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء، بل ومتروكين، ومع هذا لايخرجون لمحمد بن عمر شيئا، مع أن وزنه عندي أنه مع ضعفه يُكتَب حديثه ويُروى، لأني لاأتهمه بالوضع، وقول من أهدره فيه فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لاعبرة بتوثيق من وثقه، كيزيد وأبي عبيد والصاغاني والحربي ومعن... وتمام عشرة محدثين. إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة وأن حديثه في عداد الواهي، رحمه الله " (8).
وعلى ذلك، فإن حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والذي رواه ابن سعد في الطبقات، هو حديث مردود، قال الألباني رحمه الله عن سنده :"وهذا سند واه جدا، محمد بن عمر هو الواقدي، وهو متهم بالكذب على علم بالمغازي والسير" (9).
2- روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير، قال: "سمعت عبدالله بن الزبير، وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي، حدثنا ياعبيد كيف كان بدء ما ابتديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاء جبريل عليه السلام..." فذكر الحديث إلى قوله: "...حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج، فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ماذا أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلي بمثل ما صنع بي، قال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) إلى قوله: (علم الانسان ما لم يعلم) (العلق: 1-5)، قال: فقرأته، قال: ثم انتهى، ثم انصرف عني وهببت من نومي، وكأنما كتب في قلبي كتابا. قال: ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلي من شاعر أو مجنون، كنت لاأطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت: إن الأبعد –يعني نفسه- لشاعر أو مجنون، لاتحدث بها عني قريش أبدا! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن. قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط من الجبل، سمعت صوتا من السماء يقول: يامحمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل..." (10).
_______________
¬1- نفسه بنفس الصفحة.
2- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، ص 6/26.
3- الكامل لابن عدي، ص 7/481.
4- سير أعلام النبلاء للذهبي، ص 9/462.
5- نفسه بنفس الصفحة.
6- نفسه بنفس الصفحة.
7- نفسه بنفس الصفحة.
8- نفسه، ص 9/469.
9- السلسلة الضعيفة، ص 3/161. الضعيفة 1052.
10- تاريخ الطبري، ص 2/300-301.
____________________________________________________________________
هذا الحديث يقدح في سنده:
الإرسال، إذ عبيد بن عمير من كبار التابعين وليس صحابيا.
سلمة بن فضل الأبرش متكلم فيه، وكذلك ابن حميد الرازي. فقد قال ابن حجر رحمه الله ، عن سلمة بن الفضل الأبرش: "صدوق كثير الخطإ" (1). وقال البخاري رحمه الله عنه : "عنده مناكير" (2). وقال أبوحاتم: "محله الصدق، في حديثه إنكار، يكتب حديثه ولا يحتج به" (3). وقال النسائي: " ضعيف" (4).
وابن حميد هو محمد بن حميد بن حيان التميمي، أبوعبدالله الرازي:
قال البخاري:"فيه نظر" (5).
وقال يعقوب بن شيبة:" كثير المناكير" (6).
وقال ابن عدي في "الكامل": سمعت ابن حماد يقول: قال السعدي: محمد بن حميد الرازي كان رديء المذهب غير ثقة" (7).
وقال الذهبي: " وثقه جماعة، والأولى تركه" (8).
وعلى ذلك فالحديث مردود سندا.
أما من حيث المتن، فقد ذكر بعض العلماء أنه يخالف النصوص الأخرى، حيث تثبت تلك النصوص أن رؤية جبريل عليه السلام كانت حقيقية، في حين جعلها هذا الحديث رؤيا في المنام .لذلك ففي الحديث نكارة ظاهرة .
3- أخرج البخاري رحمه الله حديث الباب في مواضع كثيرة من صحيحه، لكنه لم يذكر إلا أطرافا منه، على عادته رحمه الله في تقطيع الحديث لأغراض معلومة، سوى ثلاثة مواضع ذكره فيها تاما، وهي:
لنبدأ بالحديث الذي ذكر العبارة المتضمنة للشبهة، وهو ما أخرجه البخاري قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب،. وحدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، قال الزهري: فأخبرني عروة، عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :فقلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق... ) حتى بلغ (...ما لم يعلم)، فرجع بها ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة فقال: " زملوني زملوني ". فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال " يا خديجة ما لي؟ ". وأخبرها الخبر، وقال: " قد خشيت على نفسي ". فقالت له: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى ـ وهو ابن عم خديجة أخو أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي ـ فقالت له خديجة أى ابن عم اسمع من ابن
أخيك. فقال ورقة: ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا أكون حيا، حين يخرجك قومك! فقال رسول الله
____________
1- تحرير تقريب التهذيب، ص 2/59.
2- التاريخ الكبير، ص 4/84.
3- تهذيب التهذيب لابن حجر، ص 4/139.
4- نفسه.
5- التاريخ الكبير، ص 1/69.
6- الكاشف للذهبي، ص 3/32.
7- الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي، ص 7/530.
8- الكاشف، ص 3/32.
________________________________________________________________________
صلى الله عليه وسلم: " أومخرجي هم؟ ". فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحى فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقي منه نفسه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا. فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك. قال ابن عباس : (فالق الإصباح) ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل (1).
هذا هو الحديث الوحيد الذي ذكر بلاغ الزهري رحمه الله.
الحديث الثاني أخرجه البخاري قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة -أم المؤمنين -أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم -من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح..." إلى قوله: "ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي" (2).
هذا الحديث لم يذكر مطلقا بلاغ الزهري رحمه الله.
الحديث الثالث، وهو كذلك لم يذكر بلاغ الزهري، هو ما أخرجه البخاري قال: حدثنا يحيى، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني سعيد بن مروان، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، أخبرنا أبو صالح سلمويه قال حدثني عبد الله، عن يونس بن يزيد، قال أخبرني ابن شهاب، أن عروة بن الزبير، أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح..."إلى قوله: "...ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحى، فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم" (3).
إن حاصل الأسانيد ثلاثة:
- يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري.
- عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.
- سعيد بن مروان، عن محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، عن أبي صالح سلمويه عن عبد الله، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري.
لكن البخاري رحمه الله أخرج الحديث مرة من طريق الليث عن عقيل وحده في بدء الوحي، ومرة من هذا الطريق وقرن به طريق عبدالرزاق عن معمر –في التعبير- بلفظ يخالف لفظ طريق الليث عن عقيل. فدل ذلك أن الرواية المذكورة في التعبير هي لفظ معمر عن الزهري.
كذلك قرن البخاري رحمه الله بين طريق الليث عن عقيل وطريق عبد الله، عن يونس بن يزيد، بلفظ يخالف لفظ طريق الليث. فدل ذلك على أن هذا اللفظ هو لفظ يونس عن ابن شهاب. قال ابن حجر رحمه الله: "...وقد ساقه –أي البخاري- في المواضع الثلاثة عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري، ولكنه ساقه على لفظه في أول الكتاب، وقرنه في التفسير بيونس بن يزيد وساقه على لفظه، ثم قرنه هنا –يقصد في التعبير- بمعمر وساقه على لفظه" (4).
فالزيادة المذكورة إذن في (التعبير) هي خاصة بمعمر.
لكن لماذا يقرن البخاري رحمه الله بين سندين متناهما ليسا واحدا من حيث اللفظ؟
______________
1- كتاب التعبير ، باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة ،حديث 6982.
2- كتاب بدء الوحي، باب بدون ترجمة، حديث 03.
3- كتاب التفسير، باب بدون ترجمة ، حديث 4953.
4- الفتح، ص 12/440.
_______________________________________________________________________
يجيب ابن حجر رحمه الله –في مكان آخر- عند شرحه لحديث للبخاري قال فيه: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن عُلَيَّة عن عبدالعزيز بن صهيب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. ح .
وحدثنا آدم قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" (1)، أقول: يجيب ابن حجر رحمه الله فيقول:
"فإن قيل: فسياق عبدالعزيز مغاير لسياق قتادة، وصنيع البخاري يوهم اتحادهما في المعنى وليس كذلك، فالجواب: أن البخاري يصنع مثل هذا نظرا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه..." (2).
ويلخص ابن حجر أيضا ما سبق تلخيصا جيدا فيقول: " ...وقوله هنا –يقصد في التعبير-: (فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا)، هذا وما بعده من زيادة معمر على رواية عقيل ويونس. وصنيع المؤلف يوهم أنه داخل في رواية عقيل، وقد جرى على ذلك الحميدي في جمعه فساق الحديث إلى قوله (وفتر الوحي)، ثم قال: انتهى حديث عقيل المفرد عن ابن شهاب إلى حيث ذكرنا، وزاد عنه البخاري في حديثه المقترن بمعمر عن الزهري فقال: (وفتر الوحي فترة حتى حزن) فساقه إلى آخره.
والذي عندي أن هذه الزيادة خاصة برواية معمر، فقد أخرج طريق عقيل أبونعيم في مستخرجه من طريق أبي زرعة الرازي، عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه في أول الكتاب بدونها، وأخرجه مقرونا هنا برواية معمر، وبين أن اللفظ لمعمر، وكذلك صرح الإسماعيلي أن الزيادة في رواية معمر. وأخرجه أحمد ومسلم والإسماعيلي وغيرهم وأبونعيم أيضا من طريق جمع من أصحاب الليث عن الليث بدونها.
ثم إن القائل (فيما بلغنا) هو الزهري. ومعنى الكلام ان في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة، وهو من بلاغات الزهري، وليس موصولا.
وقال الكرماني: هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور، ووقع عند ابن مردويه في التفسير من طريق محمد بن كثير عن معمر بإسقاط قوله (فيما بلغنا) ولفظه (فترة حزن النبي صلى الله عليه وسلم منها حزنا غدا منه) إلى آخره، فصار كله مدرجا على رواية الزهري وعن عروة عن عائشة، والأول هو المعتمد" (3).
والنتيجة:
أن الخبر حول محاولة الرسول صلى الله عليه وسلم إلقاء نفسه من أعلى جبل هو بلاغ للإمام الزهري رحمه الله. وقد مر أن مرسل وبلاغ الزهري غير مقبولين.
ب- مناقشة الشبهة في ذاتها:
يذكر بلاغ الزهري أن الرسول صلى الله عليه وسلم حزن، بعد أن فتر عنه الوحي مدة، "حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال".
غير أن هناك من الأحاديث ما يبين حالة أخرى كانت أشد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه. ومن ذلك ما أخرجه البخاري رحمه الله عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضتُ نفسي على ابن عبدياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم، على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يامحمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لايشرك به شيئا (4).
ففي هذا الحديث يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما لقيه عليه السلام من أهل الطائف لما صدوه وأغروا به سفهاءهم كان أشد عليه مما حدث للمسلمين في غزوة أحد، حيث شج وجهه عليه السلام
_____________
1- أخرجه في الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، حديث 15.
2- الفتح، ص 1/81.
3- الفتح، ص 12/446.
4- أخرجه في بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم "آمين" والملائكة في السماء...ح 3231.
_______________________________________________________________________
وكسرت رباعيته، بل شاع أنه صلى الله عليه وسلم قُتِل، مما أورث المسلمين الغم والحزن.
قال تعالى: (فأثابكم غما بغم) (آل عمران: 153). "قال مجاهد وقتادة وغيرهما: الغم الأول القتل
والجراح، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، إذ صاح به الشيطان. وقيل: الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة. وقيل: الغم الأول الهزيمة، والثاني إشراف أبي سفيان وخالد عليهم في الجبل؛ فلما نظر إليهم المسلمون غمهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم..." (1).
ولما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من أهل الطائف بقي مهموما لم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب، وهو "ميقات أهل نجد، ويقال له قرن المنازل أيضا، وهو على يوم وليلة من مكة " (2).
فلو كان حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن انقطاع الوحي عنه فترة قد دفعه إلى محاولة
"الانتحار" لكان ذلك أجدر بالذكر –لما سألت عائشة رضي الله عنها- من حادثة الطائف.
على أننا لو افترضنا صحة ما جاء في بلاغ الزهري رحمه الله، فإن ذلك لايقدح في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. إذ لم ينزل، آنذاك، أي تشريع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بله تشريع تحريم الانتحار كما سبق.
بالإضافة إلى ذلك، فإننا نلمس في ذلك البلاغ –لو صح- تحقق عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا نظير ما جاء في قوله عليه السلام:
" ما هممت بشيء مما كانوا في الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه..." (الحديث) (3). وفي ذلك "دليل واضح على أن ثمة عناية إلهية خاصة تسيره..." (4)، تلك العناية الإلهية هي "من أعظم الآيات الدالة على معنى النبوة التي خلقه الله لها وهيأه لحمل أعبائها " (5).
ثم إن ما ذُكِر نظير أيضا لما حدث ليوسف عليه السلام، مما جاء في قوله نعالى:
( ولقد همت به، وهم بها لولا أن رءا برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلَصين ) (يوسف: 24).
______________
1- تفسير القرطبي رحمه الله، ص 4/184
2- فتح الباري، ص 6/388.
3- أخرجه الحاكم عن علي رضي الله عنه، وقال: صحيح على شرط مسلم.
4- فقه السيرة للدكتور البوطي حفظه الله، ص 51.
5- نفسه.
التعليقات (0)