الكواكبي واحد من المفكرين أصحاب الرسالة الذين تجشموا في سبيل تبليغها أنواع المصاعب ، وهو من الأمثلة العزيزة للمفكرين الذين قدموا أرواحهم هينة في سبيل مناهضة الاستبداد وتعريته أمام أنظار العامة والخاصة سابقا زمنه ،مقدما أفكار تنويرية كشفت مساوئ الاستبداد وطرحت بدائله من خلال دراسة بنية الاستبداد وتحليله وتشريحه وتشخيص طبائعه وسماته المميزة ، لكونه وباء فتاكا يعصف بحاضر الأمة ، ويطوح بمستقبلها في مجاهل التخلف والانحطاط والجمود والتبعية ، وقد سبق الكثير من مجايليه إلى استثمار وتوظيف مجموعة من المفردات والمصطلحات التي أضحت لها راهنية كبيرة في ما بعد من قبيل مصطلحات:الأمة والشعب والوطن والقومية وغيرها من المفاهيم السياسية والحقوقية والاجتماعية .
وقد أدرك الكواكبي بعمق أن الاستبداد قائم في بنيته على درجة عالية من نفي ذاتية الشعب وقدرته على تسيير أمور دينه ودنياه ، أو على الأقل عدم القدرة على المساهمة في ذلك ، وقد عمت هذه الحالة منذ "الأزل" شعوب الدنيا إلا قليلا وخصت الشعوب العربية زمانا ومكانا إلا في ما ندر ، والأدهى أن هذه الحالة تزيد استفحالا وفحشا مع تطاول الزمن وتمكن المستبدين واستكانة الشعوب وركونها إلى السلبية مما يؤدي إلى التخلف وضياع الحقوق وانتشار الجهل والفقر وضمور الإنتاج ، مما يساهم في نضوب الإبداع وجفاف الخلق والابتكار الفكري والعلمي والتعبيري .
و ينجم عن ذلك فتور وجمود عام يصيب مختلف مكونات المجتمع وجوانب الحياة ، وينعكس بالضرورة والسلب على مكانة الدولة وقوتها وتأثيرها في محيطها مما يهوي بها إلى الحضيض الحضاري والثقافي ،ويلقي بها في هاوية التبعية للقوى العظمى التي تحيلها دمية تتحرك وفق الأوامر والتوجيهات والمصالح التي تخدم هذه القوى ،مخلفة وراء ظهرها مصالح مواطنيها وكل ما من شأنه أن يساهم في نموها وازدهارها .
وقد كان الكواكبي من أهم المفكرين الذين انتفضوا ضد الاستبداد ، وناضلوا لمحاربة التخلف والتبعبة والتقليد والجهل والنفاق والجشع والجبن والتواكل والخنوع ، وقد شقي أيما شقاء في نضاله من أجل الحرية التي قدّسها القرآن الكريم وعظمتها السنة النبوية وشوهها المستبدون الذين حصروها في ميادين ومجالات بعينها ، وقد استفاد الكواكبي من الناحية الفكرية والثقافية من أفكار مجموعة من العلماء والأدباء والشعراء كالرازي والطوسي والغزّالي والمعري والمتنبي وابن خلدون وابن بطوطة ...، وفي تعريفه لعلم السياسة قال :" هي إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة " ، وفي مقابل ذلك عرّف الاستبداد بأنه :" التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى " وقد أكد أن أشد درجات الاستبداد تقترن بحكومة الفرد المطلق الوارث للعرش والقائد للجيش والحائز على سلطة دينية .
وقد تصدى الكواكبي لمسألة الخروج عن الحاكم الظالم منتصرا للرأي القائل بالسيف أي مواجهة الحاكم الظالم والوقوف في وجهه بما يتاح للخارجين من وسائل موافقا مذهب الخوارج الذين كانوا أكثر الفرق الإسلامية تحمسا لمبدإ الخروج على الحكام الظلمة، والإباضية الذين كانوا يستحبون الخروج المسلح على الحاكم الظالم ولا يوجبونه، والمعتزلة الذين أكدوا ضرورة الخروج على الحاكم وسل السيف في وجهه لأن ذلك ضرب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يمثل أحد أهم أصول الاعتزال ، إضافــة إلـى الشيعة الزيدية والأئمة أبي حنيفة النعمان و مالك والشافعي وداود و ابن حزم، وذلك على حساب الرأي المقابل المتمثل في الصبر وعدم الخروج على الحاكم الظالم وإن أخذ مالك وجلد ظهرك .
فقد أكد الكواكبي أن الإسلام لم يحرم الخروج على الحاكم الظالم وأنه أقر"عدم وجوب طاعة الظالمين وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعا للفتنة التي تحصد أمثالهم حصدا " ،وقد قدم الكواكبي مجموعة من البدائل التي يمكن اتخاذها مداخل لمصارعة الاستبداد ، فدعا إلى إصلاح الدين من أجل تحقيق الإصلاح السياسي ، ومراقبة الحكومة ومحاسبتها دون تسامح كما جرى في صدر الإسلام ، وذلك من خلال ربط المسؤو
الشبكات الإجتماعية
تابعونـا على :
من صوري
فيديوهاتي
التعليقات (0)