في العام2008 سمعت من أحد سفراء الدول الغربية المهمة في بغداد اثناء تواجدي في مقر كتلة(حزب الفضيلة)في مجلس النواب العراقي في لقاء لم يكن مخططا له مسبقا تحليلاً يصف فيه طريقة ادارة الدولة في العراق ونظام الحكم فيه بأنه "نظام لينيني". وقد أسهب صاحبنا في المقارنة لتعضيد رأيه بأن ادارة الدولة في العراق تسير على خط سابقتها السوفيتية. استقبلت تحليله هذا بشيء من الغضب والكثير من الاستخفاف، وقضيت بعض الوقت أفند رؤيته، مشيراً إلى أن الفرق شاسع بين الأنظمة اللينينية كما تجلت في روسيا ودول المعسكر الشرقي وفيتنام وغيرها، وذلك للاختلاف في طبيعة المجتمعونظام الحكم في العراق أولاً وفي طبيعة الاحزاب الإسلامية ثانياً. فالنظام الحكم في العراق يعتمد على سند ديمقراطي أكبر مما كان للأحزاب اللينينية، كما أنه لا يشن حرباً شاملة على قيم ودين الغالبية ومؤسساتها الاجتماعية كما فعلت تلك الأحزاب، بل هو بالعكس يسعى للتعبير عنها. وإذا كان للنظام حكم في العراق برئاسة السيد المالكي له تطلعات شمولية تجعله يقترب من منهج الأحزاب اللينينية، فإن هذه الجهود لم تحقق نجاحاً يذكر بسبب طبيعة المجتمع العراقي التعددية وقوة مؤسساته الاجتماعية غير الرسمية (الدينية والعشائرية، إلخ.) وحتى هذه التطلعات بعيد ة كل البعد في نظام حكم لا يستطيع التميز بين فقه الدولة وفقه الاحزاب والحركات.
لم نصل لاتفاق وقتها وظل الرجل يردد مقولته تلك حتى غادر البرلمان. ولكنني الآن وبعد شيء من التأمل بدأت أرى بعض الوجاهة فيما ذهب إليه. فهناك على كل حال طرق محدودة لاستخدام آليات الدولة الحديثة من أجل فرض نظام أيديولوجي، وقد استنفدت الأنظمة اللينينية معظم هذه الوسائل، بحيث لم تغادر من ناقمين على الديمقراطية، ولم تترك مجالاً للابتكار. وقد سارت على خطاها بعض الأنظمة العربية من قومية وشبه واستبدادية فطورت أساليبها لتلائم البيئة العربية، ولم تقصر دول الشرق الاوسط كما كان الحال في اليمن حيث الحرب على (الحوثيين) وفي ايران علىالأصلاحيين. وإذا كان نظام حكم المالكي قد لجأ إلى هذه الأساليب كضرورة، فإن الأمر لم يحل من استلهام متعمد لأصلها أو لتجلياته العربية التي كانت حبال الود والتعاون موصولة بين عواصمها وبغداد رغم الخلاف الأيديولوجي العميق بين أطراف هذا التعاون. وقد كان السيد علي الوردي أول من أدرك أن الدولة الإسلامية التي نظر لها ستكون كما قال دولة تشبه إلى حد كبير النماذج البلشفية والفاشية، ولم ير –رحمه الله- في ذاك بأساً!
و لعل أقرب جوانب التماثل بين التجربة العراقية وتاريخ الحركات اللينينة هو الاستقطاب الذي ظهر بعد انشقاق حزب الدعوة الاسلامي ابان انتخابات البرلمانية في 2005، حيث اعادة الحزب هنا الاستقطاب اللينيني بين الستالينيين والتروتسكيين في بدايات العهد الستاليني. فكما حدث في ذلك الصراع الذي اصطفت فيه بيروقراطية الحزب وكوادره الأمنية في جانب ستالين في مواجهة النخبة الفكرية المشغولة بالنقاء الأيديولوجي التي مثلها تروتسكي، كان الاصطفاف في الصراع بين إسلاميي العراقيين وخصوصا (بين اتلاف دولة القانون والاتلاف الوطني العراقي على نفس النسق: بين بيروقراطية الحزب والدولة وأجهزتها الأمنية المهووسة بمهمة الحفاظ على النظام في جانب، وبعض أفراد النخبة المفكرة المهووسة بالنقاء الأيديولوجي في الآخر. الطرف الأول كان براغماتياً تهمه النتائج فقط، أما الطرف الثاني فركز على الشعارات والمبادئ، على الأقل في مبتدأ أمره.
وجه الاختلاف هو أن الحركة التروتسكية لم يكن لها وجود في داخل الاتحاد السوفيتي نفسه، (وهذا يشير إلى فارق مهم كما أسلفنا بين طبيعة النظام في السودان وطبيعة النظام السوفيتي)، ولكنها ازدهرت خارجه، خاصة في الغرب. وقد كان التروتسكيون وما يزالون يزايدون على كل القوى اليسارية الأخرى، بما فيها الشيوعيين الموالين لموسكو، إلا أن عداءهم الشرس لموسكو والأنظمة الشيوعية الأخرى جعلهم فوق الشبهات حتى في الولايات المتحدة التي كانت تطارد الشيوعيين، ولكنها رحبت ضمنياً بالتروتسكيين كلحفاء موضوعيين في الحرب الباردة. وقد جعل هذا التروتسكية خياراً مفضلاً لبعض أفراد النخبة المثقفة باعتبارها مذهباً يجعل الشخص ناقداً للسلطة والمجتمع، وثائراً على الأوضاع القائمة دون أن يكون مضطراً لدفع ثمن باهظ. وفي مرحلة لاحقة قاد بعض التروتسكيين السابقين أحد أهم الانقلابات الأيديولوجية في تاريخ أمريكا الحديث، ألا وهو إنشاء مجموعة المحافظين الجدد التي شكلها تروتسكيون سابقون انقلبوا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين دون أي محطة في الوسط.
ولكن التشابه كبير بين الحالين، حيث أصبح الحزب أول ضحايا الدولة، فذاب في أجهزتها وأصبح أداة من أدواتها. وفي بغداد كما في موسكو سابقاً، أصبح أكثر منسوبي الحركة أشبه بكائنات مستنتسخة، لا تتحدث إلا بلسان الدولة ومن يتصدر الحكومة فيها، ولا تفكر إلا بعد إذن، هذا إذا كان هناك تفكير. وكما كان الحال في روسيا في أيام طيب الذكر ستالين، فإن كل أجهزة الحزب والدولة لا تتحدث إلا بصوت واحد ولسان واحد، فإذا انقلبت سياسية الدولة فجأة انقلب الخطاب من القمة إلى القاعدة، وبنفس الحماس. ولكن ما يحمد فإن "التصفيات" للمخالفين لا تصل هنا إلى الإعدامات والإرسال إلى معسكرات الاعتقال، وإنما يكتفى بالإبعاد والتهميش.
وبالمقابل فإن "تروتسكيي" الحركة تحولوا من "الإسلامية الطفولية" (على وزن "اليسار الطفولي") الذي يقتات الشعارات ويصف خصومه بأنهم باعوا القضية، إلى براغماتية أخجلت أولئك الخصوم. فبعد أن كان هؤلاء يصفون أنفسهم بأنهم خلاصة "الدبابين" (الانتحاريين الذين كانوا يفجرون أنفسهم في دبابات العدون لتدميرها) وبقايا المجاهدين، إذا بهم يعقدون تحالفات مع الحركة الشعبية خلف ظهر النظام، ثم ينقلبون إلى تأييد التدخل الأجنبي في البلاد بما في ذلك تأييدهم لانشاء محكة جناياة دولية على غرار محكمة الحرير على اثر تفجيرات الاربعاء الدامي.
وكما أن الحركة التروتسكية استخدمت من قبل الغرب كأهم أداة سياسية وأيديولوجية في الدعاية ضد الاتحاد السوفيتي واحتواء المد الشيوعي عالمياً وفي الغرب، فإن "تروتسكيي العراق يسعون إلى تقديم أنفسهم للعالم كبديل إسلامي "معتدل"،. ولكن الملاحظ هو أن التروتسكيين الأصليين لعبوا ذلك الدور كنتيجة ثانوية لصراعهم مع خصومهم الستالينيين، ولم يتصدوا له أساساً، كما أن الغرب رفض أن يبلع الطعم الذي قدم له. وقد كانت للتيار التروتسكي مساهمته في تطوير التيار الفكري المتميز الذي عرف بالماركسية الغربية، وهو تيار سعى لتقديم الماركسية (كما نشأت أساساً) في إطار النسق الفكري الغربي العام، وأصبح له نفوذ قوي (وما يزال) في الأروقة الفكرية والأكاديمية، وقد عبر عنه مفكرون أفذاذ أمثال إدوارد سعيد وميشيل فوكو ولويس ألتوسير ومدرسة فرانكفورت (بقيادة أدورنو وهابرماس) ونيكولاس بولانتزاس وفريديريك جيمسون وغيرهم.
وغني عن القول فإن منهج الإسلاميين "الستالينيين" ليس له مستقبل لأنه أجوف فكرياً ومفلس أخلاقياً، لأن مذهبه وغايته هي التمسك بالسلطة بأي ثمن، حتى وإن تمت التضحية بكل المبادئ والمثل. وبسبب منافع السلطة والسياسات التي تجعل الدولة هي الكل في الكل، فإن مثل هذا النهج يجذب إليه الانتهازيين من كل ملة واتجاه، حتى كادوا يصبحون هم الغالبية، بل لا يكاد يوجد غيرهم. ولا شك أن هناك ميزة لتنظيم لا هدف له إلا البقاء في السلطة، لأنه سيقدم كل التنازلات المطلوبة ويتواءم مع كل الأجواء لتحقيق هذه الغاية. ولكن هناك حدود لقدرات التأقلم، خاصة في ظل الظروف العراق المعقدة، والأزمات المتلاحقة وتدويل القضايا. وأهم من ذلك عجز الحكومة عن تطوير قدراته في معالجة الأزمات وحتى استبدال كوادره التي أدمنت خلق الأزمات والفساد المالي بأخرى قادرة على معالجة الأزمات.
وبالمقابل فإن تروتسكيي الحركة عجزوا عن تقديم بديل سياسي وأيديولوجي مقبول عن الطريق الستاليني المغلق. فمن جهة، نجد هذا التيار لم يواجه بصراحة ووضوح مسؤوليته المحورية عن "الحقبة اللينينة" وما تم فيها من ممارسات وتجاوزات، وكون المنهج الذي اتبع حينها هو الذي مهد الطريق للحقبة الستالينية وأرسى أسسها. وهي فوق ذلك تابعت إخوانها الستالينيين في اتباع المنهج الذرائعي، حتى لا نقول الانتهازي، بحيث لم تتورع عن ركوب أي مركب، مهما كان وعراً وموضع تساؤل ديني وأخلاقي، وعن الدخول في أي تحالف، من أجل الانتقام من إخوان الأمس. إضافة إلى أنها لم تقدم أي طرح يختلف نوعياً عن ذلك الذي كانت تشترك فيه مع الطائفة الغالبة، سوى تكرار أن هؤلاء خانوا العهد وانحرفوا عن النهج الصحيح غداة الرابع من رمضان، مما يشي بأن كل ما اشترك الطرفان فيه قبل ذلك كان عين ذلك السراط المستقيم.
وإذا صرفنا النظر جانباً عن السند الأخلاقي المشكوك فيه لهذا التوجه، فإن قيمته الذرائعية موضع شك هي أيضاً، لأن بقية أطراف المعارضة قد جربت جميعها هذا المنهج من تحالفات الأضداد، والاستعانة بالأجانب واستخدام العنف، دون أن يجديهم ذلك كثيراً. ولكن اتباع هذه المناهج المريبة هو الذي أضعف المعارضة شعبياً حينما أضعفها أخلاقياً. فإشكالية تعثر في عالم الديمقراطي في العراق لم تتأت، كما يردد كثير من مفكري النخبة، لأن الشعب متخلف جاهل بحقوقه لا يعي مفهوم الديمقراطية ، تابع لكل ناعق، بل بالعكس، لأن الشعب متقدم كثيراً على هذه النخب الفاشلة التي لم تقدم النموذج الأخلاقي المقنع. فكيف تطالب جماهير الشعب أن تقدم على التضحية خلف قيادة سياسيين يغيرون جلدهم كل يوم، ويلعنون اليوم ما كانوا يقدسونه بالأمس، والعكس بالعكس؟
إن مسار التيار "التروتسكي" المعارض قد ضيع فرصة ذهبية لبناء حركة إسلامية ديمقراطية متطورة هي بالضبط ما تحتاجه الساحة السياسية اليوم، وهي المفتاح للخروج من المأزق الحالي عبر إدخال التيار الإسلامي كفاعل أصيل في الصف المنافح عن الديمقراطية، بل في قيادة ذلك الصف، وسحب الدعم الذي يدعيه البعض باسمه للستالينية الذرائعية. فما يحتاجه العراق هو "بيريسترويكا" إسلامية، تقدم طرحاً ناقداً بالفعل والقول للمسار الخاطئ الذي أساء إلى الإسلام وقيمه وتعاليمه، ونسب إليه وإلى الاحزاب الإسلامية ممارسات مفسدة للدين والدنيا.
الإشكالية هنا هي أن من قاد حركة البريسترويكا في منبعها، وخلع العباءة الستالينية البالية عن روسيا وامبراطوريتها كانت هي القيادات الأمنية، لأن أندروبوف وغورباتشوف كلاهما تخرجا في مدرسة الكي جي بي. ولهذا الأمر منطقه، إذ أن الأنظمة الاستبدادية التي تكمم الأفواه وتحرم التفكير على الناس، وتبيع في إعلامها وخطابهاالرسمي الأوهام والأكاذيب، لا بد أن تبقي عيونها وآذانها مفتوحة حتى لا يجوز عليها التضليل الذي تمارسه على الآخرين. وفي مثل هذه الأنظمة، فإن الأجهزة الأمنية تكون هي الوحيدة التي تطلع على ما يدور في كواليس السلطة وحولها بعيداً عن التمويه. ولهذا فإن هذه الأجهزة تكون أول من يعلم بأن ساعة النظام قد دقت، فتسارع باتخاذ الخطوات الممكنة لتلافي الكارثة.
هذا بالطبع إذا كانت هذه الأجهزة تقوم بواجبها، وفيها من يفكر ويستخدم عقله، وهي قضية فيها نظر في حالات كثيرة. لأن بعض هذه الأجهزة قد تسقط ضحية ألاعيبها فتصدق ما تضخه من ترهات شأن أشعب ووليمته المتخيلة في النكتة المشهورة.
التعليقات (0)