لم تعد أهمية البريد الإلكتروني لتخفى على أحد. وقد لا نبالغ إذا قنا بأن العوالم الافتراضية بكل ما تعج به ما هي إلا نظام جد متطور لبث رسالة ما واستقبال أخرى، بالحرف أو بالصوت أو بالصورة أو بكليهما معا، وحتى بالرمز أو الأيقونة.
وقد سبق لنا في إدراج قديم أن تحدثنا عن فن التراسل بين القديم والحديث بصيغة المفرد عندما يكتب الشخص لنفسه فقط، أو بصيغة المثنى عندما يشرك غيره في الخطاب؛
ففي الحالة الأولى يحتفظ الكاتب بتلك الرسائل لنفسه ويغلق عليها الأدراج ويختم عليها بالسر والكتمان، وقد لا تكتشف أو تظهر للناس إلا بعد وفاته.
أما في الحالة الثانية فيسمح الشخص لرسالته بالعبور من مكانه الأول إلى المكان الثاني الذي يقيم فيه الشخص المُرسل إليه، فتنتقل ملكية تلك الرسالة بالضرورة إلى الطرف الثاني، ولا ترجع إليه كرة أخرى إلا في شكل رد أو جواب إذا كان مضمونها يحتمل ردا أو جوابا.
وأمر طبيعي أن يتحول كل مكتوب إلى رد أو جواب، غير أننا تعودنا الاهتمام بالرسائل أو المكتوبات الأولى وقلما انتبهنا إلى ردودها وأجوبتها الثانية التي تقتضها ظروف الزمان والمكان المختلفة.
وقد خصصنا هذا الإدراج في مرحلة أولى للحديث عن المجموعات البريدية واقعا وأفقا، باعتبارها شكلا من أشكال التراسل البريدي أيضا ولكن، ليس بصيغة المفرد أو المثنى، كما جرت العادة، وإنما بصيغة الجمع حيث يحرص المنضمون إلى المجموعات البريدية على توجيه رسائلهم ليس فقط إلى فرد واحد وإنما إلى أكبر عدد من الأفراد.
وقد لاحظت في الآونة الأخيرة إقبالا متزايدا من لدن المجتمع الافتراضي العربي على الانضمام إلى نظام المجموعات البريدية؛ ومنهم صفوة المدونين وصفوة المثقفين من الصحفيين الورقيين والافتراضيين والكتاب والقصاص والروائيين والشعراء والفنانين وكثير من المهتمين والقراء الجيدين والمتابعين الجادين للشأن العربي الافتراضي الراهن.
وفي الحقيقة لقد بدأت أمضي كثيرا من الوقت في قراءة ما يرد علي عبر المجموعات البريدية العربية التي انضممت إليها أو التي استدعيت إليها من طرف أشخاص لا أعلمهم جازاهم الله أحسن الجزاء على ضم عنواني البريدي إلى مجموعاتهم.
وأنا هنا لا أنكر على نفسي مدى الفائدة التي أجنيها من قراءة محتوى بريد تلك المجموعات شكلا ومضمونا وأسلوبا وتحليلا ومنهجا ورؤية وإبداعا. إذ يظهر أن نظام المجموعات البريدية العربية، في صورته الحالية على الأقل، قد حاز لنفسه قدرا عظيما من المسؤولية والجدية والاحترام. إذ يحرص المتراسلون في هذه المجموعات البريدية على توخي مبدأ الجودة والفائدة والمتعة بدل الاقتحام والتطفل والإزعاج. ومن هنا يمكن أن ننعت نظام المجموعات البريدية بأنه بريد الصفوة أو النخبة العربية الافتراضية.
ويبدو أن نظام المجموعات البريدية كأنه قد أعلن حربا خفية على نظام البريد الإلكتروني العادي الذي لا يخلو في الغالب من البذاءة والضحالة والإسفاف، وعلى نظام البريد المزعج الذي يعلق بالبريد الإلكتروني كما الغبار والدخان. وقد تجاوز نظام المجموعات البريدية مرحلة الإخبار العادي بمسافة بعيدة إلى محاولة ترسيخ نموذج ثقافي وفكري جاد يبقى ألقه مستمرا على الدوام أسوة بكثير من المواقع الافتراضية والمدونات العربية الجادة.
وإذا كنت لا أتردد طرفة عين في شطب عشرات من الرسائل البريدية العادية أو المزعجة دفعة واحدة وقذفها إلى الأبد في سلة الأزبال الافتراضية فإني أتردد كثيرا في شطب رسالة واحدة من الرسائل التي تردني عبر نظام المجموعات البريدية، فقد صارت عندي أشبه ما تكون بالوثاق والمراجع المفيدة والكتيبات النادرة والجذاذات البحثية النفيسة التي أحرص كثيرا على الاحتفاظ بها وتوثيقها وتجميعها في مجلد خاص حتى يتسنى لي الوقت الكافي لدراستها والكتابة عنها وتقييم محتواها في إدراجات لاحقة إن شاء الله تعالى.
التعليقات (0)