بسم اللّه الرحمن الرحيم
نظام القضاء في الإسلام
بقلم سماحة الشيخ آية الله العظمى جوادي آملي
الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه علي جميع الأنبياء والمرسلين سيّما محمد وآله الطّاهرين.
وبعد، فيقول العبد المفتقر إلي اللّه، عبداللّه الجوادي الطبري الآملي: تمرّ علينا في الآيات القرآنية الكريمة آيات عديدة تعالج(نظام القضاء) معالجة شاملة لابدّ من الوقوف عندها، ودراسة هذه الآيات واستخلاص النتائج المتوخّاة منها، ولنذكر شيئاً من ذلك في فصول، وهي:
1. ضرورة القضاء وأنّه لايمكن أن يعيش الإنسان بدونه.
2. ميزان القضاء.
3. أدب القاضي وما يعتبر فيه من الأوصاف، وما له من الحقوق، وما عليه من الوظائف الخاصّة.
4. وظيفة المتخاصمين، من الرجوع إلي الموازين التي عيّنها الوحي لاغيرها، والمنع من الإعراض عنها والاعتراض علي ما صدر من منبع القضاء.
5. وظيفة الشاهد.
6. الحكم بين أهل الكتاب.
وتندرج في هذه الأمور مباحث مهمّة لابد من الكلام حولها واستفادة النظرة القرآنية فيها، ثمّ نذكر خاتمة.
٭ ٭ ٭
الفصل الأوّل
ضرورة القضاء
الإنسان مخلوق اجتماعي لايقدر أن ينفصل عن الآخرين انفصالاً كليّاً في زاوية الخمول والانفراد كما لايمكنه أن يتّحد مع غيره من كل جوانب الاتحاد؛ لما يحمله كلّ شخص من الأفكار الخاصة والصفات التي تختص به والأعمال التي يميل إليها بطبعه وينفرد بها ولايشاركه فيها غيره كلاً وبعضاً.
وإذا لم يتمكّن الإنسان من الانفراد والإخلاد إلي الوحدة المطلقة ولا الاتحاد الصرف مع الآخرين، فلابدّ أن تظهر الخلافات بين الأفراد والجماعات، ويقع النزاع فيما بينهم وتحدث المشاجرات حول المصالح الخاصّة وغيرها إذ «كل يجر النار إلي قرصه». فلو لم يكن هناك ضوابط يرجع إليها الناس وملاكات بها يتميز الحقّ عن الباطل، لاختلّ النظام وانهار المجتمع الإنساني وسادت الفوضي بين الناس. وفي النصوص القرآنية الكريمة دلائل علي ما قلنا:
أما الأوّل. وهو كون الإنسان اجتماعياً فيدلّ عليه قوله تعالي: ﴿ياَيُّهَا النّاسُ اِنّا خَلَقنكُم مِن ذَكَرٍ واُنثي وجَعَلنكُم شُعوبًا وقَبائِلَ لِتَعارَفوا﴾ الآية.[1] إذ لو لميكن الإنسان اجتماعياً بالطبع وكان يمكنه أن يعيش وحده لما احتاج إلي تكوّن الشعوب والقبائل؛ لأنّه لم يحتج إلي التعارف المتوقّف علي الروابط الاجتماعية المفروض انتفاؤها.
وأما الثاني. وهو كون التنازع ضرورياً فيدل عليه قوله تعالي: ﴿ولَو شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ اُمَّةً وحِدَةً ولايَزالونَ مُختَلِفين ٭ اِلاّمَن رَحِمَ رَبُّكَ ولِذلِكَ خَلَقَهُم﴾ [2]،وقولهتعالي: ﴿وعَلَي اللّهِ قَصدُ السَّبيلِ ومِنها جآئِرٌ ولَو شاءَ لَهَدكُماَجمَعين﴾.[3] فلايصحّ جعلهم أمة واحدة يأتمّون كلهم قهراً بإمام واحد لايحيدون عنه أصلاً؛ لأنّ ذلك إلجاء مناف للتكليف، بل مناف للتكامل أيضاً، بل هذا الإلجاء مناف للحكمة أيضاً؛ لأنّ الاختلاف في الجملة أمر نافع وبه يتحقّق القسط ويتجنّب عن الحيف. وهذا اختلاف ممدوح.
و هناك اختلاف مذموم وهو ما كان بعد تبيّن الرشد من الغيّ واتّضاح الحقّ. ولقد أشار إلي هذين القسمين من الاختلاف قوله تعالي: ﴿كانَ النّاسُ اُمَّةً وحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيّينَ مُبَشِّرينَ ومُنذِرينَ واَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتبَ بِالحَقِّ لِيَحكُمَ بَينَ النّاسِ فيمَا اختَلَفوا فيهِ ومَا اختَلَفَ فيهِ اِلاَّ الَّذينَ اوتوهُ مِن بَعدِ ما جاءَتهُمُ البَيِّنتُ بَغيًا بَينَهُم فَهَدَياللّهُ الَّذينَ ءامَنوا لِمَا اختَلَفوا فيهِ مِنَ الحَقِّ بِاِذنِهِ واللّهُ يَهدي مَن يَشاءُ اِلي صِرطٍ مُستَقيم﴾.[4]
فإنّ المستفاد من صدر الآية أنّ الإنسان البدائي كان ساذجاً في عقائده سليم الفطرة بعيداً عن الزيغ والهوي وإن كان يختلف مع بني نوعه في بعض شؤونه الحياتيّة، والاختلاف في مثل هذه الأمور لابدّ منه في مسيرة حياته؛ لأنّه خلق معدّاً للكمال وهذا دخيل في مراحل تكامله.
ولأجل تعديل هذا الاختلاف وبيان ما هو الحق عند التنازع أنزل اللّه تعالي الكتاب المصحوب مع الحقّ يدور معه حيثما دار، وعند تبيّن الحقّ واتّضاحه انقسموا إلي قسمين، فبعضهم آمن واتّبع ما جاء به الكتاب وبعضهم لم يؤمن بغياً وعدواناً. و هذا الأخير هو الاختلاف في العقيدة، وهو الاختلاف المذموم وهو البغي والطغيان؛ لأنّه بعد تبيّن الحقّ .
وأما الثالث. وهو لزوم تعيين الضابط لحلّ الاختلاف فيدلّ عليه قوله تعالي: ﴿بَل كَذَّبوا بِالحَقِّ لَمّا جاءَهُم فَهُم في اَمرٍ مَريج﴾ [5]، فإنه عزّ شأنه ذمّهم باختلال أمرهم، وأنّهم وقعوا في هرج ومرج بتكذيبهم الحقّ، فيلزم عليهم الرجوع إلي الحقّ والتجنب عن إيجاد الهرج والمحافظة علي النظم الصحيح.
لقد اهتم الإسلام في دفع هذا الاختلاف بالتعليم والتربية والتهذيب والتصفية فحثّ علي الاعتصام بحبل اللّه المتين وعدم التنازع الموجب للفشل، وأوجد الإخاء والتآلف بين المؤمنين وجعلهم رحماء بينهم وإن كانوا أشدّاء علي الكفّار وكأنّهم بنيان مرصوص في وجههم، وفيما بينهم بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ودعاهم إلي الدخول في السلم كافة وأن لايشذوا عن ربقة الإسلام ولو شبراً؛ «الشاذ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب» [6]، ومدح الذين يستغفرون اللّه تعالي لهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، وعرّفهم بأنّهم يدعونه تعالي بأن لايجعل في قلوبهم غلاًّ للذين آمنوا... إلي غير ذلك من الأوصاف السامية الموجبة لدفع الاختلاف المانعة من حصوله في الجوانح أو بروزه في الجوارح، حيث أدّبهم بأنّ اللّه يعلم ما يخفون في أنفسهم وما يبدونه علي جوارحهم، وأمر برفع الاختلاف بالتحاكم إلي اللّه ورسوله، والرد إليه وتحكيمه فيما شجر بينهم، وعدم العدول عنه إلي غيره، وأنّ حكمه هو المرجع القضائي الوحيد لفصل الخصومات وحلّ الخلافات، وأن ليس لأحد الخِيَرة فيما قضي اللّه ورسوله، صوناً للنظام وحفظاً للوحدة؛ لأنّ القضاء الحق هو الضامن لتطبيق النظام العادل والمانع من الاضطراب في الأمور والموجب لاستقرار كلّ شيء في مقره ورجوع كلّ حقّ إلي صاحبه ونيل كلّ ذي حقّ حقّه.
و من هنا سمّيت القضيّة «قضيّة» لأنّ المحمول ما لم يتبيّن وضعه وحكمه بالنسبة إلي الموضوع ولميتعيّن حكمه بالقياس إلي المحمول سلباً أو إثباتاً، يكون الإنسان متردّداً غير مطمئن إلي شيء، يُقدِّم رجلاً ويؤخّر أخري إلي أن يتبيّن الرشد من الغيّ ويمتاز الصحيح من السقيم، ويحكم العقل بأمر خاص ويقضي بحكم مخصوص، فتحصل الطّمأنينة النفسية وتزول عنه الشكوك، فيتصف حينئذٍ ذلك الأمر بلحاظ أجزائه المتصوّرة بالقضية كما أنّه تتصف تلك الصورة النفسانية بلحاظ مقدّماتها التصوّرية بالتصديق.
٭ ٭ ٭
الفصل الثاني
ميزان القضاء
تبيّن في الفصل السابق أنّ القضاء ضروري في حفظ النظام والحد من الجموح، ونعطف العنان في هذا الفصل إلي البحث عن المعيار فيه ومعرفة ميزانه، فنقول:
يحتمل باديء الأمر استقلال العقل الإنساني في ذلك، وأنّ مداره ما ناله البشر المتفكر برأيه من دون الرجوع إلي الرسالات السماوية، بل من دون حاجة إلي ذلك رأساً. ولكن التعمّق في دليل ضرورة القضاء وتحتّمه يرشد إلي عدم كفاية العقل الإنساني في ذلك، وأنّه قاصر عن تعيين ميزان القضاء وتحديد مداره؛ لأنّ الإنسان كما تقدم ليس متوافقاً في كل آرائه ونظرياته مع غيرَه من بني نوعه، وكل شخص يري نفسه مصيباً فيما يرتأيه وغيرَه مخطئاً فيما يذهب إليه ويتخيّل أنّ رأيه هو الصائب النافع للناس ورأيَ غيره قاصر ضار بهم، فينشأ الجدال الفكري والنزاع العلمي والأخذ والرد.
هذا، بالإضافة إلي أنّه جبل الكلّ علي نفع النفس والقوم والعشيرة واعتبار أنّهم أولي من غيرهم، وهذا يؤثّر كلّ الأثر في كيفيّة وضع القانون وتطبيقه.
والنتيجة: أنّ العامل للاختلاف الموجب لضرورة القضاء لايمكن أن يكون رافعاً للاختلاف وعاملاً لحلّ الخصومات. ومن هنا نستنتج أنّ العقل الإنساني غيركافٍ لتوفير السعادة في المجتمع البشري بالاستقلال، بل هو سراج ينير الطريق ويهدي سالكه إلي الهدف المنشود، ونعني به الطريق الذي دلّ عليه الوحي الإلهي.
وإذا كان العقل البشري لقصور باعه العلمي واحتفافه بدواع نفسانية زائفة غير كاف لتعيين ميزان القضاء، فينبغي البحث عمّا هو المعيار الكامل للحكم بين الناس، ويتمّ ذلك بالنظر في أمرين:
أحدهما: قصور الفكر البشري وعدم توصّله إلي بيان المعيار القضائي، والآخر: كفاءة الوحي الإلهي وصلوحه لتبيين النظام القضائي؛ لأنّه مستمد من الغيب وخارق لنواميس الطبيعة، كما سيظهر ذلك إن شاء اللّه.
أمّا الأمر الأول فيدلّ عليه قوله تعالي: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرينَ ومُنذِرينَ لِئَلاّ يَكونَ لِلنّاسِ عَلَي اللّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ وكانَ اللّهُ عَزيزًا حَكيما﴾ [7]، حيث دلّ علي أنّ العقل وحده غير كافٍ لنيل الكمال والهداية إلي السبيل الأقوم، إذ لو كان ذلك كافياً لصحّ الاحتجاج بهبة العقل والاستناد إلي إرشاده، فلو ارتكب الناس إثماً وفعلوا باطلاً كانت حجّة اللّه عليهم قائمة، بأنّ العقل الذي أوتوه قد نهاهم عنه فَلِمَ لم يتبعوه ولِمَ خالفوه؟ ولصحّ حينئذٍ تعذيبهم علي ما ارتكبوا من الذنوب وما اجترحوه من السيّئات. لكنّ القرآن الكريم لايصحّح التعذيب قبل الإرسال ولايجوّزه، فقد قال تعالي: ﴿وما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّي نَبعَثَ رَسولا﴾ [8]، وقال عزّ شأنه: ﴿ولَو اَنّا اَهلَكنهُم بِعَذابٍ مِن قَبلِهِ لَقالوا رَبَّنا لَولا اَرسَلتَ اِلَينا رَسولًا فَنَتَّبِعَ ءايتِكَ مِن قَبلِ اَن نَذِلَّ ونَخزي﴾. [9] دلّ هذا علي أنّه ليس من سنن اللّه تعذيب العباد قبل إرسال الرسل، ولاالإذلال والإخزاء والإهلاك بالعذاب قبل بعث الأنبياء، وإلّا لما كان يمكن لأولئك المفروضين أن يحتجّوا عليه تعالي بأنّ ذلك كان قبل إتمام الحجّة. وهذا وإن لم يكن في مورد القضاء ولكنّه لدلالته علي أنّ العقل وحده لايوفّر السعادة الإنسانية يشمل القضاء أيضاً.
وممّا يدلّ علي قصور باع الفكر البشري وأنّه ليس محيطاً بجميع المصالح والمفاسد حتّي في أقرب الأمور إليه، قوله تعالي عند بيان توزيع الإرث وتعيين النصاب الخاص لكلّ واحد من الورّاث: ﴿لاتَدرونَ اَيُّهُم اَقرَبُ لَكُم نَفعا﴾ [10]، وكذا قوله تعالي عند بيان لزوم الإيمان بالوحي وعدم جواز التولّي عنه: ﴿فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِءون﴾ [11]، حيث يدلّ علي أنّ ما عند البشر من علم لايضمن توفير السعادة له وإلاّ لم يكن الاكتفاء به مذموماً، وليس ذلك إلاّ لأنّه قاصر عن التوصّل إلي ما يحتاج إليه، فالاقتصار عليه والإعراض عمّا جاء به الأنبياء أمر قبيح ومذموم.
وممّا يدلّ علي أنّ الإنسان لايقدر علي إقامة القسط وتعيين ميزان القضاء العادل بما أوتي من العقل، قوله تعالي: ﴿لَقَد اَرسَلنا رُسُلَنا بِالبَيِّنتِ واَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتبَ والميزانَ لِيَقومَ النّاسُ بِالقِسطِ واَنزَلنَا الحَديدَ فيهِ بَأسٌ شَديدٌ ومَنفِعُ لِلنّاسَِِ ولِيَعلَمَ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالغَيبِ اِنَّ اللّهَ قَوىٌّ عَزيز﴾ [12]، فإنّه يدلّ على أنّ الغاية المترتبة على إرسال الرسل مع البيّنات وإنزال الكتاب معهم هو قيام الناس بالقسط، فلو كان الإنسان قادراً بعقله على إحراز القسط بدون الوحي لما احتاج إليه.
والسرّ في أنّ الإنسان غير قادر على تعيين المعيار للقضاء أنّ الإنسان موجود له عوالم ودرجات أو دركات، ينتقل من عالم إلى عالم ومن مرتبة إلى أخرى وهو موجود دائمي لايفنى وإن كان ينتقل من دار إلى دار، وعليه فلابدّ من تكامله بأمر لايزول ولايفنى ولايضر بدنياه ولاأخراه. ومن المعلوم أنّ تعيين ما يصلح لمن هذا شأنه يحتاج إلى العلم المحيط بحقائق الإنسانية وما به يترقى إلى الدرجات العلى أو يهوى إلى الدّركات السفلى، وأين هذا من الإنسان الذي قد أوتي من العلم قليلاً ولايدرك كثيراً ممّا ينفعه أو يضرّه؟
أمّا الأمر الثاني وهو صلوح الوحي الإلهي لاغيره لبيان النظام القضائي فيدلّ عليه غير واحدة من الآيات القرآنية.
منها: قوله تعالى: ﴿ومَن لَم يَحكُم بِما اَنزَلَ اللّهُ فَاُولئِكَ هُمُ الكفِرون﴾ [13]، وقوله: ﴿ومَن لَم يَحكُم بِما اَنزَلَ اللّهُ فَاُولئِكَ هُمُ الظّلِمون﴾ [14]، وقوله: ﴿ومَن لَميَحكُم بِما اَنزَلَ اللّهُ فَاُولئِكَ هُمُ الفسِقون﴾ [15]، وسيتضح الفارق بين الكفر وغيره من السيئات الطارئة حال القضاء ومنها: قوله تعالى: ﴿اَفَحُكمَ الجهِلِيَّةِ يَبغونَ ومَن اَحسَنُ مِنَ اللّهِ حُكمًا لِقَومٍ يوقِنون﴾ [16]، فقد دلّ على أنّ الحكم لابدّ وأن يكون حكم اللّه المعين بالوحي وإلاّ فهو حكم الجاهلية. وهذا يشمل كلّ حكم وقانون يتبعه الناس ولم يكن من اللّه تعالى، سواء توسّم ذلك القانون بالمدنيّة أم لا، وسواء رضي به كل الناس أو بعضهم أو رفضوه.
والسرّ فيه، أنّه ليس بعد الحق إلّا الضلال، واتباع ما ليس من اللّه تعالى يوجب البُعد عن الصراط المستقيم المفضي إلى دار السلام. فإنّ الطرق إثنان لاثالث لهما مهما كثرت العناوين واختلفت أسماء الطرق، طريق اللّه عزّ شأنه الهادي إلى سواء السبيل، وطريق الطاغوت الهاوي في المهوى السحيق.
ومنها: قوله تعالى: ﴿ومَا اختَلَفتُم فيهِ مِن شىءٍ فَحُكمُهُ اِلَى اللّهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبّى عَلَيهِ تَوَكَّلتُ واِلَيهِ اُنيب﴾ [17]، تدلّ الآية على أنّ المرجع الوحيد لحلّ الخلافات هو حكم اللّه لاغير، سواءً كان ذلك في الحقوق والأموال أو في غيرها. ومنها: قوله تعالى: ﴿فاحكُم بَينَهُم بِما اَنزَلَ اللّهُ ولاتَتَّبِع اَهواءَهُم عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَق﴾ [18]، فجعل مدار الحكم هو ما أنزله اللّه لاغير.
إلى غير ذلك من الآيات الحاصرة لميزان القضاء في الوحي الإلهي الدالة على أنّ ما عداه جاهلية وطاغوت، وأنّ غير دين اللّه لايقبل، وأنّ غير سبيل المؤمنين لايهدي إلى الرضوان ودار السّلام، بل يسوق إلى السخط ودار البوار، جهنّم يصلونها وبئس القرار؛ لأنّه ليس سبيلاً هادياً إلى سواء القصد، ولذا خاطب عزّ وعلا المنحرفين عن الوحي المعرضين عن الرسول بقوله: ﴿فَاَينَ تَذهَبون ٭ اِن هُوَ اِلاّذِكرٌ لِلعلَمين﴾.[19]
ومن هنا يظهر المراد من العلم الذي قد حثّ اللّه تعالى على ألّا يقولوا ما لايعلمون ولايكذّبوا ما لايعلمون، وأكّد على أنّ تصديقهم وتكذيبهم لابدّ أن يكون عن علم، وإثباتهم ونفيهم عن بصيرة، فقال تعالى تقريعاً للمكذبين بغير علم: ﴿بَل كَذَّبوا بِما لَميُحيطوا بِعِلمِهِ ولَمّا يَأتِهِم تَأويلُه﴾ [20]، وقال تعالى: ﴿اَلَم يُؤخَذ عَلَيهِم ميثقُ الكِتبِ اَن لايَقولوا عَلَى اللّهِ اِلاَّ الحَق﴾.[21] دلّت هذه الآية على الاقتصار على خصوص القول عن علم، والتصديق عن بصيرة، كما في قوله عزّ من قائل: ﴿ولاتَقفُ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ اِنَّ السَّمعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ اُولئِكَ كانَ عَنهُ مَسءولا﴾ .[22]
و يراد من العلم في هذه الموارد ونظائرها ممّا يرجع إلى ما له مساس بالسعادة والحياة الطيّبة، ما يكون مطابقاً لما أنزل اللّه تعالى على رسوله، فإنّه هو المصون عن آفة الجهل والنسيان والطغيان وهو الذي يصلح أن يكون مناطاً ومداراً وحيداً للقضاء. وأمّا العقل فهو مستقل في الأصول الدينية، وبإرشاده يمكن معرفة اللّه تعالى والتصديق به ونفي الصفات الزائدة عنه، وهكذا معرفة الرسول ولزوم عصمته وبراءته عن الذنب والخطأ في التبليغ، ومعرفة أصل المعاد وعود الإنسان بروحه وبدنه للمحاسبة. ولكنّ العقل مع هذا قاصر عن درك كثير من الشؤون الراجعة إلى هذه الأصول الهامّة كما أنّه قاصر عن درك المصالح والمفاسد الخفيّة في الأشياء والأفعال والسنن والآداب، فلذا يحتاج دائماً إلى تسديد الوحي فيما يدركه، ويحتاج إلى تعليمه فيما لايناله بالاستقلال، قال تعالى: ﴿ويُعَلِّمُكُم ما لَم تَكونوا تَعلَمون﴾. [23]
و الحاصل: أنّ معيار القضاء هو ما أنزله اللّه بالوحي ووضعه للناس ليقوموا بالقسط والعدل فيما بينهم.
٭ ٭ ٭
الفصل الثالث
أدب القاضي
قد تبيّن أنّ القضاء ضروري لحفظ المجتمع الإنساني، وأنّ ميزانه هو الوحي لا غير، وفي هذا الفصل نريد أن نتحدث عن تحقّقه الخارجي وكيف يمكن أن يوجد بالشكل المطلوب الذي يتمكن من تطبيق العدل الإلهي المستمد من الوحي السماوي.
يمكن نشر العدل في المجتمع الإنساني بقاض عالم بالميزان الإلهي للقضاء ومؤمن به عامل بمقتضاه، ولو لم يتحقق العلم والإيمان والعمل لم يبق للميزان وحده أثر هام؛ لأنّه يكون كالسراج في يد الأعمى لاينتفع هو به ولاينفع غيره، وهو غير مأمون من العثرة وعندها ينكسر السراج أو ينطفىء، فلامحيص من كون القاضي المباشر للقضاء عالماً عادلاً.
والإنسان تحكم عليه ثلاث قوى هامّة تنبع منها سعادته أو شقاوته، هذه الثلاثة هي: عقله الذي به يدرك الأمور، وشهوته التي بها يجذب الأشياء ويريدها لنفسه، وغضبه الذي به يدفع عنه ما يكرهه.
ولابدّ من العلم والعدل في هذه القوى الثلاثة حتّى لايجور القاضي في الحكم ولايتعدى عن طريق الحقّ. وذلك بأن يكون عقله متوجّهاً إلى نيل ما جاء به الأنبياء وتعلّمه، لكي لايتطرق إليه الهوى؛ إذ لاسبيل للرأي في الدين، و«من نظر برأيه هلك،... ومن ترك كتاب اللّه تعالى وقول نبيّه كفر» [24]، ومن كان مفزعه في المعضلات نفسه لاغيرها ضلّ، ومن اتّكأ في المبهمات على رأيه فكأنّما جُعل إمام نفسه.[25]
وأن تكون شهوته عادلة، لايحكم حبّاً لأمر خاصّ أو شخص معيّن أو طمعاً في مال أو جاه أو مقام وغير ذلك ممّا يرجع إلى مشتهيات النفس الباطلة.
وأن يكون غضبه معتدلاً، لايحكم بغضاً لأمر ولا اعتداءً على شخص أو خوفاً من تهديد أو رعباً من تخويف وغير ذلك ممّا يعود إلى شُعَب الغضب والبغض وأمثالهما.
فمن اعتدل في عقله بتعليم الوحي الإلهي والإيمان به واعتدل في شهوته وغضبه بأن كان حبّه وبغضه للّه تعالى، فهو الصالح للقضاء بين الناس بالحقّ. ولقد اعتنى القرآن الكريم بتهذيب النفس سيّما حال القضاء بتعديل القوى الثلاثة المذكورة. وإليك بعض ما جاء فيه:
الأوّل. ما يدلّ على تعديل العقل بلزوم تعلّم الوحي والتعمّق فيما جاء به الأنبياء(عليهمالسلام) وأنّ من لم يحكم بما أنزل اللّه فهو كافر، وهذا سبق تفصيله في الفصل الثاني فلانعيده.
الثاني. ما يدلّ على تعديل الحبّ كما في قوله تعالى: ﴿ياَيُّهَا الَّذينَ ءامَنوا كونوا قَوّامينَ بِالقِسطِ شُهَداءَ لِلّهِ ولَو عَلى اَنفُسِكُم اَوِ الولِدَينِ والاَقرَبين﴾ [26]، فقد أمر تعالى المؤمن أن يكون قوّاماً بالقسط، وهو أعظم من القيام بالقسط جدّاً، وأمر أن تكون شهادته للّه ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، حتّى لايكون حبّه لنفسه أو لأقاربه مانعاً عن إقامة القسط أو الشهادة للّه، فلو لزم الإقرار على نفسه أقرّ عليها، ولو كان إقامة الحقّ يستدعي الشهادة على أقاربه الأدنين لم يمتنع من الشهادة. وعند ذلك تكون شهوته عادلة وحبّه في اللّه، وهو مجذوب إلى اللّه، فلايطمع في شيء لايرضاه اللّه ولايطمعه شيء يكرهه اللّه، ولايرغب في باطل ولايميل إلى زائف، فلايمكن السيطرة عليه من قبل شهوته ولاالسلطة عليه من جهتها ولا الاستيلاء عليه من طريقها.
الثالث. ما يدلّ على تعديل الغضب، كما في قوله تعالى: ﴿ياَيُّهَا الَّذينَ ءامَنوا كونوا قَوّمينَ للّهِ شُهَداءَ بِالقِسطِ ولايَجرِمَنَّكُم شَنَءانُ قَومٍ عَلى اَلاّتَعدِلوا اعدِلوا هُوَ اَقرَبُ لِلتَّقوى واتَّقوا اللّهَ اِنَّ اللّهَ خَبيرٌ بِما تَعمَلون﴾.[27] أمر تعالى في هذه الآية المؤمن أن يكون قوّاماً للّه شاهداً بالقسط، وهي كالآية السابقة مشحونة بالعناية بالقسط والعدل، ونهى تعالى أيضاً المؤمن أن يحمله شنآن قوم وعداوتهم على الاعتداء وترك العدل وسيطرة البغض على القضاء. وعليه، فلابدّ للقاضي أن يتأدّب بآداب اللّه تعالى، بأن يكون غضبه للّه وحده، ولايوجب بغضه لقوم حكماً جائراً، وإذا كان كذلك اعتدلت قوته الغضبيّة فلاخوف له من غيراللّه ولارهبة له من مخلوق، فلايمكن السلطة عليه من ناحية الغضب ولا إثارة غيضه.
فإذا بلغ الإنسان هذا المبلغ من السيطرة على النفس واتصف بالعلم والعدل واعتدلت قواه العقلية والعملية، صحّ له حينذاك أن يتصدى للقضاء والجلوس في مجلس «لايجلسه إلّا نبي أو وصيّ» [28]، لأنّه وإن لم يكن نبيّاً ولاوصيّاً بالوصاية الخاصّة كما في الأئمّة المعصومين(عليهمالسلام) إلّا أنّه وصي بالوصاية العامّة بمقتضى نصوص النصب.
وصحّ أيضاً لهذا القاضي أن يحكم بعلمه؛ لأنّ سائر الأمارات حجّة بالعلم وهو أي العلم حجة بذاته، فإذا علم القاضي العادل الحقَّ فله أن يحكم بما علم، لشمول الآيات الآمرة بالحكم بالعدل ونحوه له. بل لو قامت البيّنة على خلاف ما علم أو حلف المنكر كذلك، فله أن يعرض عن الحكم ويرجعه إلى قاضٍ آخر مثلاً، ولايجوز له الحكم على خلاف علمه وإن وافق البيّنة أو اليمين.
ولايصحّ نقض حكمه والردّ عليه؛ لأنّه كالردّ على الإمام المعصوم الذي يكون الردّ عليه كالردّ على اللّه تعالى، وهو على حدّ الكفر الفعلي والشرك العملي باللّه، لا الكفر الاعتقادي؛ لأنّ الكفر الاعتقادي يختصّ بما يرجع إلى إنكار أحد الأصول الدينيّة بلا واسطة أو معها عند الالتفات إلى الرجوع إليه.
ثمّ إنّ من أهمّ آداب القاضي النزاهة عن الرشوة في الحكم؛ لأنّه سحت وغلول وتعدّ قد نهى القرآن الكريم عنه بقوله: ﴿ولاتَأكُلوا اَمولَكُم بَينَكُم بِالبطِلِ وتُدلوا بِها اِلَى الحُكّامِ لِتَأكُلوا فَريقًا مِن اَمولِ النّاسِ بِالاِثمِ واَنتُم تَعلَمون﴾.[29] نهى تعالى عن الإدلاء بالأموال إلى الحكام طمعاً في قضائهم بالجور. والإدلاء هو إرسال الدلو إلى باطن البئر لاستخراج ما في غورها من الماء، والنكتة في استعمال هذه اللفظة هنا أنّ الرشوة بمنزلة الدلو المرسل إلى باطن القاضي لاستخراج ما في سريرته من الحيف والجور.
فلابدّ من طهارة الباطن ونزاهة الضمير حتّى لاينعطف نحو المال ولاينقبض بالقهر، وقد نهى القرآن عن هاتين الخصلتين بقوله: ﴿فَلا تَخشَوُا النّاسَ واخشَونِ ولاتَشتَروا بِءايتى ثَمَنًا قَليلا﴾.[30] فالأوّل نهي عن الخوف الباطل، تعديلاً للقوة الغضبيّة، والثّاني نهي عن الجذب الكاذب، تعديلاً للقوة الشهوية. مع الالتفات إلى أنّ الدّنيا بأسرها متاع قليل، والقاضي الجائر لو أوتي الدنيا بحذافيرها تجاه ما يجور في الحكم لكان قد اشترى بحكم اللّه ثمناً قليلاً؛ لأنّ الزائل قليل مهما كان كثيراً في ظاهر الأمر.
ولا اختصاص للرشوة المنهيّ عنها بالعين بل تشمل المنفعة والانتفاع أيضاً، كما أنّها قد تكون عملاً خاصّاً ينجزه الراشي، أو قولاً يمدحه به ويثني عليه، أو فعلاً كإظهار تعظيمه وتبجيله مثلاً، فهذه كلّها محرّمة لصدق الرشوة عليها موضوعاً أو للإلحاق بها حكماً.[31] وسنذكر في فصل )أدب المتخاصمين( أنّ البذل والأخذ كلاهما حرام.
وممّا مضى ظهر لزوم تحفظ القاضي عن أن يصير خصيماً للخائن، وهو إمّا بالجذب الباطل أو الدفع الكاذب، ويدلّ عليه قوله تعالى: ﴿اِنّا اَنزَلنا اِلَيكَ الكِتبَ بِالحَقِّ لِتَحكُمَ بَينَ النّاسِ بِما اَركَ اللّهُ ولاتَكُن لِلخائِنينَ خَصيما﴾.[32] فقد نهى القاضي أن يكون خصيماً للخائن مدافعاً عنه، إذ الخائن إنّما يخون نفسه ولذلك لايحبّه اللّه تعالى. فعلى الحاكم أن يتحرّز عن الميل إليه والذب عنه، ويتجنب التخلّي عن المظلوم والوقوف إلى جانب الظالم.
ونتيجة الكلام: أنّ المطلوب في نظام القضاء هو اتصاف القاضي بالعدالة الكبرى الحاصلة في القوّة العقلية بالحكمة، وفي الشّهويّة بالسخاء والعفّة، وفي الغضبية بالشجاعة، فيصبح القضاء طاهراً عن لوث الجور وقذارة الباطل ورجس الزور، وبذلك ينال من الخير ما لايُعادله الحسنات الأخر.
ومن سنن القضاء أن لايبادر القاضي بالحكم قبل تمام التحقيق وسؤال الخصمين، وإليه يشير قوله تعالى: ﴿ اِنَّ هذا اَخى لَهُ تِسعٌ وتِسعونَ نَعجَةً ولِىَ نَعجَةٌ وحِدَةٌ فَقالَ اَكفِلنيها وعَزَّنى فِى الخِطاب ٭ قالَ لَقَد ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعجَتِكَ اِلى نِعاجِهِ واِنَّ كَثيرًا مِنَ الخُلَطاءِ لَيَبغى بَعضُهُم عَلى بَعضٍ اِلاَّ الَّذينَ ءامَنوا وعَمِلوا الصّلِحتِ وقَليلٌ ما هُم وظَنَّ داوودُ اَنَّما فَتَنّهُ فَاستَغفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ راكِعًا واَناب﴾.[33]
في هذه الآية إشارة إلى أنّ الأولى ترك البدار إلى وصف الخصم بالظلم وإن كان مع حفظ الفرض والاشتراط، أي على فرض صحّة ذاك السؤال فهو ظالم.
وليس في الآية ما يدل على الحزازة بالنسبة إلى مقام النبوة، إذ ذكرت هذه القضيّة في سورة)ص( بين مدحين لداوود$، فقبلها قوله تعالى: ﴿وءاتَينهُ الحِكمَةَ وفَصلَ الخِطاب﴾ [34] وبعدها قوله: ﴿يداوودُ اِنّا جَعَلنكَ خَليفَةً فِى الاَرضِ فَاحكُم بَينَ النّاسِ بِالحَق﴾.[35] ومن المعلوم، أنّ النبي الذي آتاه اللّه الحكمة وفصل الخطاب وجعله خليفة في الأرض وأمره أن يحكم بين الناس بالحقّ، لايبادر إلى الحكم قبل تمام نصاب التحقيق بتاتاً، فلابدّ وأن يكون ما صدر منه$ إنّما صدر بلسان التعليق والاشتراط، أي لو فرض وقوع ذلك السؤال من أخيك لكان أخوك ظالماً.
فعليه يلزم أن يتأدّب القاضي بترك التسرع لما كان مثل هذا الحكم أيضاً. كما أنّ عليه أن يسوّي بين الخصمين في النظر والقول، وأن يعلم أنّ لسانه بين جمرتين من النار، وأن يكون لسانه وراء قلبه فإن كان له قال وإن كان عليه أمسك.
ولو لم يتأدّب القاضي بالأدب الإلهي لما كان لقضائه مغزىً وإن كان حقّاً؛ إذ المعتبر في نفوذ القضاء أمران: الحسن الفعلي، بأن يكون القضاء مطابقاً للحقّ.
والحسن الفاعلي، بأن يكون صادراً عن نفسٍ زكيّة وقلب مطمئنّ بالإيمان لايخاف في اللّه لومة لائم، إذ «القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنّة» [36]، وهو الذي قضى بالحقّ وهو يعلم أنّه حقّ.
٭ ٭ ٭
الفصل الرابع
وظيفة المتخاصمين
قد تبيّن أنّ ميزان القضاء هو الوحي الإلهي لاغير، وأنّ المرجع الوحيد لفصل الخصومة هو العالم بالوحي والمؤمن به والمتصف بما جعلته الشريعة ملاكاً للقضاء، فيتعيّن الرجوع إليه عند التخاصم ويكون الإعراض عنه بالرجوع إلى غيره إعراضاً عن الحقّ وتوجهاً نحو الباطل، وهو ضلال بعيد كما قال تعالى: ﴿اَلَم تَرَ اِلَى الَّذينَ يَزعُمونَ اَنَّهُم ءامَنوا بِما اُنزِلَ اِلَيكَ وما اُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُريدونَ اَن يَتَحاكَموا اِلَى الطّغوتِ وقَد اُمِروا اَن يَكفُروا بِهِ ويُريدُ الشَّيطنُ اَن يُضِلَّهُم ضَللاً بَعيدا﴾.[37]
فليس للمؤمن أن يتحاكم إلى من أُمِر أن يكفر به، كما أنّه ليس للطاغوت أيضاً أن ينصب نفسه للقضاء. ولايبلغ الإنسان درجة الإيمان حتى يحكّم رسول اللّه ويختاره حكماً كما اختاره اللّه تعالى لذلك، ويرجع المؤمن في خلافاته مع الآخرين إليه، ثمّ لايجد في نفسه حرجاً ولاضيقاً ممّا حكم به الرسول سواء كان له أو عليه، إذ المؤمن هو الذي يُسلم أمره إلى اللّه تعالى: ﴿فَلا ورَبِّكَ لايُؤمِنونَ حَتّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لايَجِدوا فى اَنفُسِهِم حَرَجًا مِمّا قَضَيتَ ويُسَلِّموا تَسليما﴾.[38]
فالآية الكريمة تبيّن بوضوح وظيفة المتخاصمين عند الاختلاف والنزاع، وأنّ الوظيفة هي الرجوع إلى الرسول لاغير، وتحث على الانقياد المحض لحكمه بعد التحاكم إليهصلى الله عليه و آله و سلم؛إذ الإيمان هو طمأنينة النفس والسكون، وهو لايحصل إلاّ بانقياد القلب وعمل الجوارح كليهما.
وقد وَصَف القرآن الكريم بالظلم من لايتحاكم إلى اللّه ورسوله، إلّا إذا كان الحقّ له فلا يُطالب به، كما وصف بالفلاح من إذا دُعي إلى اللّه ورسوله ليحكم بينه وبين خصمه أجاب وأطاع، فقال عزّ من قائل: ﴿واِذا دُعوا اِلَى اللّهِ ورَسولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم اِذا فَريقٌ مِنهُم مُعرِضون ٭ واِن يَكُن لَهُمُ الحَقُّ يَأتوا اِلَيهِ مُذعِنين ٭ اَفى قُلوبِهِم مَرَضٌ اَمِ ارتابوا اَم يَخافونَ اَن يَحيفَ اللّهُ عَلَيهِم ورَسولُهُ بَل اُولئِكَ هُمُ الظّلِمون﴾ [39]، فقد أفاد بالتحليل أنّ الإعراض عن محكمة الرسول إنّما هو ناش عن الظلم. وقال تعالى: ﴿اِنَّما كانَ قَولَ المُؤمِنينَ اِذا دُعوا اِلَى اللّهِ ورَسولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم اَن يَقولوا سَمِعنا واَطَعنا واُولئِكَ هُمُ المُفلِحون﴾.[40] فقد أفاد أنّ الفلاح يقتضي الانقياد للّه ورسوله. وسرّ ذلك: أنّ المؤمن قد بايع اللّه ورسوله، ومقتضى البيعة أنّه قد باع نفسه وجميع ما يملك من الأهل والمال للّه ورسوله، فهو لايملك نفسه ولا شيئاً ممّا يضاف إليه، لأنّه قد باعها للّه والرسول، فليس له أن يتصرف في نفسه أو ما يعود إليه إلاّ برضى اللّه ورسوله، ولذا قال تعالى: ﴿وما كانَ لِمُؤمِنٍ ولامُؤمِنَةٍ اِذا قَضَى اللّهُ ورَسولُهُ اَمرًا اَن يَكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن اَمرِهِم ومَن يَعصِ اللّهَ ورَسولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَللًا مُبينا﴾.[41]
وكما أنّ المؤمن ليس له الخيرة في التحاكم إلى اللّه ورسوله أو رفضه، بل التحاكم متعيّن عليه، كذلك ليس له الخيرة في أمره بعد صدور حكمهما عليه؛ فإنّ عدم الإذعان إلى حكمهما عصيان وضلال.
أضف إلى ذلك أنّ الرسول قد بعث بالكتاب ليحكم بين الناس بالحقّ، وهذا الحكم هو المتعيّن عليهصلى الله عليه و آله و سلم فيتعيّن الرجوع إليه وقبول قضائه؛ وإلّا لما كان لتعيّن الحكم بين الناس بالحقّ على الرسول وجه، كما أنّه لايبقى وجه لتعين التحاكم إلى الرسول على الناس مع عدم تعيّن الحكم بينهم عليه.
تنبيهان
الأوّل: إنّ الرجوع إلى الطاغوت عصيان وأخذ المال بحكمه سحت وإن كان المأخوذ حلالاً، هذا إذا كان المال المتنازع فيه عيناً. وأمّا الدَّين ففي كونه كالعين إشكال، تفصيله يطلب من الكتب الفقهية.
الثاني: إنّما القضاء لفصل الخصومة فقط ولا أثر له في تغيير الواقع عمّا هو عليه، فمن ادعى باطلاً وأقام على دعواه شاهد زور، أو أنكر حقّاً وحلف يميناً فاجرة، وخفي ذلك على الحاكم فحكم على مقتضى البيّنة الكاذبة أو اليمين الفاجرة بخلاف الواقع، يلزم على كلّ من علم به اجتناب المأخوذ بالباطل؛ لأنّه قطعة من النار، وتفصيل ذلك في الكتب الفقهية أيضاًً.
٭ ٭ ٭
الفصل الخامس
وظيفة الشاهد
للقضاء سند خاصّ يستند إليه القاضي في حكمه، فإن كان متيناً كان القضاء صحيحاً مطابقاً للشريعة وإلّا فلا. وكما قلنا في القاضي لابدّ أن يكون عالماً عادلاً، كذلك لابدّ أن يكون الشاهد عالماً عادلاً. والفرق بينهما أنّه يعتبر في القاضي علمه بالقانون الإلهي، وفي الشاهد علمه بالموضوع مشاهدة. فيلزم عليه رعاية أمور: منها: حضور الحادثة لتحمل الشهادة عن معاينة. ومنها: الحضور في المحكمة لأدائها[42] بلاتبديل ولاإعراض، أي ليس له أن يعرض عن الشهادة ويكتمها لأنّ الكاتم آثم قلبه[43]، وليس له أن يبدلها لأنّ اللّه تعالى بما يعملون خبير، كما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿ياَيُّهَا الَّذينَ ءامَنوا كونوا قَوّامينَ بِالقِسطِ شُهَداءَ لِلّهِ ولَو عَلى اَنفُسِكُم اَوِ الولِدَينِ والاَقرَبينَ اِن يَكُن غَنِيًّا اَو فَقِيرًا فَاللّهُ اَولى بِهِما فَلا تَتَّبِعوا الهَوى اَن تَعدِلوا واِن تَلووا اَو تُعرِضوا فَاِنَّ اللّهَ كَانَ بِما تَعمَلونَ خَبيرا﴾ .[44]
وتقدّمت الإشارة إلى الفرق بين كون الإنسان قائماً بالقسط وكونه قوّاماً به، كما تقدّمت الإشارة أيضاً إلى الشهادة على النفس والأقرباء. والمتحصّل من الآية الكريمة: رفض تدخل شيء من العوامل النفسية أو القومية أو الاقتصادية في الشهادة، فلايوجب حبّ النفس أو الوالدين أو الأقربين أمراً باطلاً، وكذا يجب أنلاتؤثّر العوامل الاقتصادية من الغنى والفقر في أداء الشهادة أو كيفيتها. والسرّ في ذلك كلّه أنّ اللّه تعالى خبير بما يعمله العبد كائناً ما كان، شهيد عليه، فمن علم ذلك يحفظ نفسه عن الزلة والذلة.
ويستفاد من الآية أيضاً عدم منع القرابة عن قبول شهادة الأقرباء بعضهم لبعض أو عليه، حتّى الولد على الوالد لتماميّة دلالة الآية وعدم تماميّة ما استدلّ به للمنع عن ذلك، وتفصيل ذلك يطلب من كتب الفقه.
٭ ٭ ٭
الفصل السادس
الحكم بين أهل الكتاب
المتحاكمان قد يكونان مسلمين وقد يكونان من اليهود أو النصارى مثلاً وقد يكونان مختلفي الدّين. فإن كان المتحاكمان مسلمين يحكم القاضي بينهما بمقتضى الدّين الإسلامي لاغير. وإن كانا يهوديين أو نصرانيين مثلاً، فالحاكم بالخيار بين أنيحكم بينهما بمقتضى الإسلام أو يرجعهما إلى المحاكم الخاصّة بملّتهما لتحكم بينهما بمقتضى تلك الملّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿فَاِن جاءوكَ فَاحكُم بَينَهُم اَو اَعرِض عَنهُم واِن تُعرِض عَنهُم فَلَن يَضُرّوكَ شيءاً واِن حَكَمتَ فَاحكُم بَينَهُم بِالقِسطِ اِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقسِطين﴾.[45] وصريح هذه الآية الكريمة هو التخيير بين الأمرين، ولاينافيه ما هو الظاهر في تعيين الحكم بينهم بمقتضى الإسلام؛ لأنّ النص مقدّم على الظاهر أوّلاً، ولأنّ التخيير بين الأمرين هو أيضاً ممّا يقتضيه الإسلام، فلامجال لتوهّم كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فاحكُم بَينَهُم بِما اَنزَلَ اللّهُ ولاتَتَّبِع اَهواءَهُم﴾ [46]؛ إذ لاتنافي بين ما هو نص في التخيير وما هو ظاهر في التعيين، مع أنّ التخيير أيضاً هو ممّا أنزله اللّه تعالى.
ثمّ إنّ تفصيل الكلام فيما إذا كان المتحاكمان مختلفين في الملّة، وفي جواز أن يحكم قاضي المسلمين بينهم بمقتضى شريعتهم حسبما يترائى من قوله$: «لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم... » [47]، وفي غير ذلك من المباحث الفرعية، موكول إلى محلّه من كتب الفقه. ولقد قوّى بعض أصحابنا الإمامية تحتّم الحكم بينهما بمذهب الإسلام؛ لأنّ ردّهما إلى إحدى الملّتين موجب لإثارة الفتنة[48]، وقد احتاط سيّدنا الاُستاذ دام ظلّه فيما إذا زنى ذمّي بذميّة أو لاط ذمّي بذمّي بإجراء الحدّ عليه.[49]
الخاتمة
من نوادر أحكام القضاء
1. قد تقرّر في الفقه أنّ للقضاء ميزاناً لايتعدّاه القاضي، وهو البيّنة أو اليمين. ومن موازين القضاء القسامة عند اللّوث، وكذا علم الحاكم، وكذا الإقرار، فلايمكن للقاضي الحكم الثبوتي أو السلبي بما عدا ذلك. نعم، قد يستعين بالقرعة عند تزاحم الحقوق فقط، لالبيان الحكم وكشفه بل للتقسيم ونحوه ممّا يشتبه فيه الموضوع الخارجي، وتفصيل ذلك في الفقه. وقيل: إنّ له اصلاً في القرآن الكريم. ولايخلو التعرض له عن فائدة. والأصل المذكور هو قوله تعالى: ﴿وما كُنتَ لَدَيهِم اِذ يُلقونَ اَقلمَهُم اَيُّهُم يَكفُلُ مَريَمَ وما كُنتَ لَدَيهِم اِذ يَختَصِمون﴾ [50] وقوله تعالى: ﴿فَساهَمَ فَكانَ مِنَ المُدحَضين﴾ [51]، أي المغلوبين بالقرعة، إذ كان سهمه الإلقاء في البحر ليلتقمه الحوت أو لغير ذلك. وما ذكر عن القرعة في مثل هذه الموارد لامساس له بالقضاء لأعميّة القرعة من بابه، إلّا أنّ للقرعة مساساً به قد أوجب الإيماء إليه هنا بهذا القدر.
2. قد يتخيّل الاختلاف بين حكمي داوود وسليمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، فيحمل على اختلافهما في الاجتهاد تارة، أو أنّ الذي اُوحي إلى سليمان كان ناسخاً لما حكم به داود تارة أخرى.
أقول: أمّا الاجتهاد عن رأي وتفكّر حصولي فلامجال له عند نبي بالنسبة إلى الحكم الإلهي، مضافاً إلى قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمنها سُلَيمن﴾ [52]، المشعر بكونه تفهيماً إلهيّاً. كما أنّ ما أوتي داوود$ كان من قِبَلِ اللّه عزّ وجلّ، إذ آتاه اللّه الحكمة وفصل الخطاب الذي قيل فيه: إنّ منه كون البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر. وأمّا النسخ فلعلّه لم يثبت به؛ لاحتمال كون كلا الحكمين حقّاً، إلّا أنّ ما حكم به سليمان كان أنفع وأعود بلحاظ المتحاكمين، فتدبّر.
تمّ بحمده تعالى
عبداللّه الجوادي الآملي
٭ ٭ ٭
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ سورة الحجرات، الآية 13.
[2] ـ سورة هود، الآيات 119 ـ 118.
[3] ـ سورة النحل، الآية 9.
[4] ـ سورة البقرة، الآية 213.
[5] ـ سورة ق، الآية 5.
[6] ـ نهج البلاغة، الخطبة 127.
[7] ـ سورة النساء، الآية 165.
[8] ـ سورة الإسراء، الآية 15.
[9] ـ سورة طه، الآية 134.
[10] ـ سورة النساء، الآية 11.
[11] ـ سورة غافر، الآية 83.
[12] ـ سورة الحديد، الآية 25.
[13] ـ سورة المائدة، الآية 44.
[14] ـ سورة المائدة، الآية 45.
[15] ـ سورة المائدة، الآية 47.
[16] ـ سورة المائدة، الآية 50.
[17] ـ سورة الشورى، الآية 10.
[18] ـ سورة المائدة، الآية 48.
[19] ـ سورة التكوير، الآيات 27 ـ 26.
[20] ـ سورة يونس، الآية 39.
[21] ـ سورة الأعراف، الآية 169.
[22] ـ سورة الإسراء، الآية 36.
[23] ـ سورة البقرة، الآية151.
[24] ـ وسائل الشيعة، ج 27، ص 40.
[25] ـ هذه الفقرات مضامين أخبار.
[26] ـ سورة النساء، الآية 135.
[27] ـ سورة المائدة، الآية 8.
[28] ـ الكافي، ج 7، ص 406؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 217.
[29] ـ سورة البقرة، الآية 188.
[30] ـ سورة المائدة، الآية 44.
[31] ـ العروة الوثقى، ج 6، ص 444.
[32] ـ سورة النساء، الآية 105.
[33] ـ سورة ص، الآيات 24 ـ 23.
[34] ـ سورة ص، الآية 20.
[35] ـ سورة ص، الآية 26.
[36] ـ الكافي، ج 7، ص 407؛ وسائل الشيعة، ج 27، ص 22.
[37] ـ سورة النساء، الآية 60.
[38] ـ سورة النساء، الآية 65.
[39] ـ سورة النور، الآيات 50 ـ 48.
[40] ـ سورة النور، الآية 51.
[41] ـ سورة الأحزاب، الآية 36.
[42] ـ من سورة البقرة، الآية 282.
[43] ـ من سورة البقرة، الآية 283.
[44] ـ سورة النساء، الآية 135.
[45] ـ سورة المائدة، الآية 42.
[46] ـ سورة المائدة، الآية 48.
[47] ـ بحار الأنوار، ج 30، ص 672.
[48] ـ كنز العرفان، ج 2، ص 378.
[49] ـ تحرير الوسيلة، ج 2، ص 441 و446.
[50] ـ سورة آل عمران، الآية 44.
[51] ـ سورة الصافات، الآية141.
[52] ـ سورة الأنبياء، الآية 79.
المصدر: http://esraco.net/
التعليقات (0)