الجعفري : المرأة اليوم بدأت ترتقي من جديد على سُلـَّم الدولة والمجتمع من خلال كونها إنسانة
نص كلمة الدكتور ابراهيم الجعفري بمناسبة اليوم العالمي للمرأة التي اقيمت برعاية دولة رئيس الوزراء
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلاة، وأتمّ السلام على أشرف الخلق أجمعين سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وجميع عباد الله الصالحين..
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته..
قال الله - تبارك وتعالى - في محكم كتابه العزيز:
((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)) [التحريم:11]
ما أروع أن تكون المرأة مثلاً أعلى لمجتمعاتنا، وما أروع أن يصف القرآن الكريم بقداسته صورة للسيدة آسية بنت مزاحم بأنها مثل للذين آمنوا، وكيف استطاعت أن تختزل زمن الصعود، وترتقي إلى قمة المجد، وتدوّي بصوتها؛ حتى نرى نموذجاً رائعاً يستحق أن يتأسى به رجالنا ونساؤنا.. إنها آسية بنت مزاحم المرأة التي عاشت قصر فرعون جدراناً خاوية، ورفضته بكل زخارفه، وكل ثرائه، وآثرت الحياة مع المستضعفين، وأبت إلا أن تناضل ضدّ ذلك الجبروت الفرعوني الذي يذكره لنا القرآن الكريم، ماأروع أن تتسنم هذه المرأة وهي سيدة نساء عصرها هذا الموقع السامق؛ حتى تكون نبضاً حياتياً ليس فقط في ذلك الوقت، بل إلى يومنا هذا، ونحن وإياكم إذا نعيش عيد المرأة نتمنى أن يُعطى العيد مضموناً حقيقياً لا يقف عند حدود تسمية عيد المرأة، بل يعبر إلى إعادة المرأة إلى مكانتها التي أراد لها الله - تبارك وتعالى - أن تكون..
لعل كلمة عيد من العود، والرجوع إلى الأصل؛ لذلك تعوّدنا أن نستمع كلمة العيد بعد مجاهدة طويلة، وبعد مسيرة شاقّة ورياضة روحيّة.. على مستوى الصوم فتتوشّح بعيد رمضان أو على مستوى الحج، والمعاناة سواء نبدأ من الإحرام؛ لننتهي في طواف الوداع أو في اليوم العاشر في منى؛ لنلتقي مفهوم العيد بعد رياضة روحيّة كاملة..
لعل الإنسان يعود إلى حيث خلقه الله - تبارك وتعالى -، ويكون قد عاد إلى فطرته، وكذلك عيد الغدير، وكل يوم لم نعص ِفيه الله - تعالى - هو عيد، كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام).. ماأروع أن تأخذ المرأة اليوم حقوقها المسلوبة، فهي في مساراتها التاريخية الطويلة المضمَّخة بالألم، والدموع، والعَرَق، والدماء أحياناً كل المجتمعات ساهمت في ذبحها، وكل الحقب التاريخية ساهمت في عزلها وتهميشها، ولم يكن هذا الاسم اسم عيد للمرأة إلا ولادة متأخرة في بداية القرن العشرين 1907- 1908 حيث أضربت مجموعة من النساء في نيويورك عن العمل، وطالبت بحقوقها، وبعد ذلك كان التعبير عن الركامات والعذابات التي يعاني منها الملوّنون السود في أميركا حينئذ، ولم تقرّ الأمم المتحدة هذا العيد إلا مؤخراً.
كيف نحوّل العيد المناسبة إلى عيد الحياة؟
كيف يكون انتصارنا للمرأة، ونحوّل هذا الانتصار من انتصار عاطفي تشهده المهرجانات، ويتغنى بها الشعراء، ويتحدّث بها المتحدّثون إلى أن نعمّر مجالات المجتمع كافة بالبُعد الإنساني المتحضّر لطبيعة المرأة التي تكون بنتاً أو زوجة أو أختاً أو أماً في البيت، أو أن تكون شريكة ومساهمة في بناء المؤسسات؟
كيف نعيد للمرأة موقعها الذي حباها الله - تبارك وتعالى - به بعد أن عُزِلت عن المجتمع، وبعد أن عانت العذابات، وبعد أن ساهمت في اغتيالها المعنوي كثير من الثقافات في الغرب، وبعض العادات والتقاليد العشائرية في مجتمعنا؟
ها هي اليوم تصحو، وبدأت تصدح بصوتها من جديد.. المرأة اليوم هي النصف الثاني في المجتمع، بل النصف الأول في المجتمع، الذي له دالّته على الرجل منذ السنوات الأولى من حياته في السنوات السبع الأولى.. هذا الدور الذي كان مجمَّداً عاد اليوم ينبض بالحياة من جديد، وإذا نظرنا إلى البنية الفوقية المختلفة من العادات والتقاليد والمؤسسات والكثير من الظواهر الاجتماعية، وانتقلنا من البنية الفوقيّة إلى التحتيّة سنجد أن المرأة سرّ كل ظاهرة سلبية، وهي سرّ كل حالة اجتماعيّة منشودة.
كيف تكون المرأة سرّ الحياة في المجتمع؟
تكون سرّ الحياة في المجتمع عندما تنهض بمهمتها التي حباها الله - تبارك وتعالى - بها، وعندما نستعيد الثقافة الإنسانية للمرأة بدلاً من الثقافة البطرياركية، أو ثقافة الذكورية التي أقصت المرأة، واستكثرت عليها إنسانيتها.
المرأة اليوم بدأت ترتقي من جديد على سُلـَّم الدولة والمجتمع من خلال كونها إنسانة، وإن الله -تبارك وتعالى - منحها كما منح الآخرين.. المرأة تبرز اليوم في المؤسسات موظفة وعاملة، ليس بديلاً عن حركتها في مؤسسة البيت، لكنها تضطلع بمهامها المختلفة بحسب اختصاصاتها وفي العراق بالذات في مجال الإعلام والسياسة والتعليم والتربية والطب والخدمات العامة والاقتصاد والفن والمجالات كافة من دون استثناء.. الظواهر السلبية التي ترونها اليوم تحكم قبضتها على المجتمع، وتقضّ مضجعه تستطيع المرأة أن تساهم في حل الكثير منها.. هناك فرق كبير بين أمّ في البيت تربّي أبناءها على النعرة الطائفيّة والعصبيّة العنصريّة أو القوميّة، وبين أمّ تكون مدرسة لتعزيز الوحدة الوطنية، ومدّ الجسور، وإشاعة ثقافة التعايش المذهبيّ.. فرق كبير بين المرأة التي تتصدّى للسياسة من موقع الوعي والتضحية والالتزام والانسجام بين الداخل المنزليّ والخارج المنزليّ، وبين التي إذا دخلت إلى مجال ٍما هجرت مكاناً آخر.
حان الوقت لأن تنطلق المرأة انطلاقة متوازنة في كل المجالات، ولعلّ بعض المجالات تكون حكراً على المرأة، ولا يستطيع الرجل أن يقتحمها، فعندما ننظر إلى البيت وإلى دور المرأة في التربية، والنشء الجديد خصوصاً عندما قسّمت الأمم المتحدة تقسيمها الثلاثي المعروف (الطفولة المبكرة، والمتوسطة، والمتأخرة) أو (السبعة الأولى، والثانية، والثالثة) كان الإسلام قد قسّم هذا التقسيم منذ أكثر من 1400 سنة (السبعة الأولى، والسبعة الثانية، والسبعة الثالثة).
الأولاد ألصق بأمّهم مما هم بآبائهم، وصدقوا أن الكثير من عظماء العالم يذكرون أن من جملة ما تغذّوا عليه من عناصر القوة في القيم والفكر كان السرّ فيه امرأة، ولعلّ مقولة: (وراء كل عظيم امرأة) صحيحة إلى حدّ كبير..
حان الوقت لأن تستعيد المرأة دورها ومكانتها، ولا يكون ذلك على حساب البيت ليس البيت بمعنى الحلقة الضعيفة في المسلسل التربوي والمسلسل الإداري، إنما البيت؛ لأنه مصنع شخصيات من الرجال والنساء، والقويّ في المجتمع من دون شكّ استمدّ الكثير من عناصر شخصيته من خلال أمّه قبل أن يأخذ من أبيه؛ لأن مرحلة القيم تسبق مرحلة الأفكار، وأن الأولاد في السنوات السبع الأولى ألصق بأمّهاتهم من آبائهم، لا يوجد حاجز أمام المرأة من ناحية الفكر، ولا تعيش عُقدة التقاليد.
إياكم أن تخلطوا بين التقاليد والثقافة فالذي وقف أمامكم ليس الفكر إنما الذي وقف أمامكم هو التقاليد، وهذه التقاليد ساهمت فيها عناصر فـُرِضت على مجتمعنا.. حين نواجه هذه العناصر ستزول، وتتبدّد هذه الخرافات والخزعبلات والتقاليد السيّئة التى لا تمتّ إلى قيمنا وفكرنا وديننا بصلة..
القرآن الكريم يقدّم لنا نماذج رائعة في مجال التصدّي في السياسة، وفي الجهاد، وفي الاعتقاد، وفي الحوارات، وفي كل شيء تجد المرأة نموذجاً في القرآن الكريم، والقرآن له الحاكمية، وكذا السيرة العطرة للرسول (ص) وآل البيت وقد قدّموا أروع النماذج؛ ليجسّدوا آيات القرآن الكريم في سيرة النساء، فلا يشتبه أحد بأن المرأة يقف أمامها حاجز الثقافة، ويقف أمامها حاجز التقاليد، نعم.. في الغرب حاجز الثقافة أما هنا فهذه القيود لا تمتّ إلى ديننا وإلى ثقافتنا بصلة.. قدّم لنا القرآن الكريم نماذج زعيمة قائدة سياسية محاورة حصيفة ناقلة حديث متأنية غير متهورة، قدّم لنا بلقيس ملكة سبأ:
((قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ 34)).
الربيع العربي الآن، والرؤساء الذين يترنحون جعلوا من مستشاريهم يسبحون لهم، فأدوا بهم إلى ما أدّوا بهم، فيما هذه المرأة قائدة وملكة سبأ والهيئة الاستشارية تقول لها:
((قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ))
ما عصف برأسها عواصف الذات والتعصّب والغرور، كما يشهدون، وقالت: ((إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا))
انظر إلى الحكمة: ((وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً))
القرآن الكريم ينقل لنا صورة المرأة السياسية القائدة كملكة سبأ، وتنقل لنا سور كثيرة من القرآن الكريم دور المرأة في هذا المشهد وفي ذلك المشهد وكلها تريد أن تفجّر في المرأة طاقاتها الخلّاقة؛ حتى تساهم في بناء المجتمع.. في الأسرة، وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وفي كل مجال.
كانت سليمة الأسبعية قد اعتنقت الإسلام، ولحقها زوجها، وظفر بها، وكانت قد وصلت إلى رسول الله (ص)، وأراد أن يسترجعها بحسب اتفاقية صلح الحديبية، فقالت له: يا رسول الله أنا امرأة ضعيفة، إذا أمسك بي سوف يقضي عليّ. فتأمل الرسول (ص) قليلاً، فنزل الوحي بالآية القرآنية الكريمة:
((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ))
ولقراءة النص الكامل ، أنقر على الرابط التالي :
التعليقات (0)