نصيحة للمجلس العسكري الإنتقالي
مصعب المشرّف
18 مايو 2019م
البيان الذي تلاه سعادة الفريق أول برهان رئيس المجلس العسكري الإنتقالي فجر الخميس الماضي . إشتمل على نقطة بارزة هامة خطيرة . وهي إتهامه للثورة الشعبية بأنها لم تعد سلمية . وأن الحركات المسلحة قد دفعت بعناصر تابعة لها بأسلحتهم إلى داخل ساحة الإعتصام
الذي يفهمه الكثيرون من هذا الإتهام هو محاولة من الفريق برهان لتجريد الإعتصام من سلميته . وبما يمهد لاحقاً لإصدار القرار بفض هذا الإعتصام بالقوة العسكرية ..
قرار فض الإعتصام بالقوة يبدو أنه قد بدأ يجد (بطول المدة) هوى في نفوس بعض أعضاء المجلس العسكري الإنتقالي سواء الذين في الواجهة أو أولئك الذين قدموا إستقالاتهم وتواروا عن الأنظار. وأنهم يظنون أن الفض هو نهاية الثورة . ويفتح الطريق سالكاً لينفردوا بالسلطة طوال سنوات قادمة . يتمتعون فيها بخيرات البلاد كما تمتع غيرهم .. وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولا ....
ولكن ؛ يظل تردد المجلس العسكري يجاذب نفسه بسبب الخشية من إرتدادات فض هذا الإعتصام بالقوة...
وإذا كان البعض من المنتفعين يزيّن ويحرّض ، ويسوق للمجلس المبررات والحيل القانونية . ويرمي إليهم الآخر بفتاويه الإرهابية الإستئصالية بعد أن يلبسها ويزركشها بالدين ..... فإنه ينبغي لنا أن نحدث المجلس العاقـل بما يليق.
فض إعتصام بهذا الحجم والتكدس والشهرة التي حظي بها على نطاق العالم ؛ سيؤدي إلى حدوث مجزرة دموية تحت بصر وسمع العالم ... ولن تمر مرور الكرام..... لاسيما وأن أبواب المحكمة الجنائية الدولية مفتوحة الشهبة لكل ما يدور في السودان .. ومنظمة حقوق الإنسان قد جعلت لنفسها مكتباً داخل ساحة الإعتصام..... ووسائل التصوير الفوتوغرافي والسينمائي متوافر لدى الجميع تقريبا الهواة منهم والمحترفين ..... والمسألة كما يقولون "ما ناقصة" .. فملفات البعض من القيادات العسكرية والسياسية السابقة والحاضرة في دعاوى دارفور ماثلة ومفتوحة... وأثبتت التجربة طوال سنوات أنها عصية على الإغلاق والإنغلاق . بالرغم مما قدمه المخلوع عمر البشير من تنازلات . ثم ما أنفقه من مئات ملايين الدولارات رشاوي للأفراد والجماعات التي كانت ترد إلى البلاد . وتبذل له الوعود الناعمة بأنها قادرة على إخراجه من محنة الجنائية ...... ولكن هيهات.
على المجلس العسكري قبل أن يستمع إلى تحريض هذا وتهوين هؤلاء وتزيين أولئك ، أن يدرك أن جميع الأوراق ليست بيد هؤلاء . فهم جميعهم ضعفاء وأول من ينسحبون عندما يحمى وطيس الرأي العام الدولي ؛ وتنادي الإنسانية المتحضرة بالقصاص .... ثم أن واقع السياسة الدولية وشرايين الإقتصاد والمال والإستثمار وقرارات الحرب والسلام ؛ إنما تجري دماؤها في داخل الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية. ومن ثم فإنه لا مجال للإستهانة بحقوق الإنسان أو الظن بأن هذا الصديق قد ينفع أو ذاك الشقيق قد يتوسط ويفلح ..... ولو كان الأمر كذلك لكان المخلوع عمر البشير أشطـر.
ولقد دفع السودان أيضاُ الكثير الكثير من التكاليف جراء ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية ، وتقارير منظمات حقوق الإنسان التي تستجيب لها الأسرة الدولية ..... ولم يعد من المقبول أن بخرج السودان من كبوة ومستنقع في هذا المجال ليقع في كبوة ومستنقع آخر في نفس المجال !!... فإلى متى يظل هذا الحال الذي يكاد يجعلنا أفضل "زبائن" المحكمة الجنائية الدولية وتشريعات الكونغرس الأمريكي ، وقرارات البيت الأبيض . ومجلس الأمن والإتحاد الأوروبي والأفريقي بإدراجنا ضمن قوائم الدول المارقة والراعية للإرهاب والمجمّدة عضويتها ........... إنه قمـة السـخف.
كذلك فإن على المجلس العسكري إدراك أن هذا الإعتصام ليس بمنفصل عن الشعب . فهو إمتداد مطلبي ثوري طبيعي وبيولوجي له ، وبما ينبغي التفكير معه في أن كل شاب من هؤلاء المعتصمين إنما يرفده عائليا ومعنويا العشرات من أفراد أسرته ؛ وعائلته وأقاربه الأقربين في البيوت.... ونحمد الله أن لدى البرهان من الأبناء ما يجعله يستشعـر ويتفهم الألم والحزن الذي يعتصر الأمهات والآباء على مقتل وفقدان أبنائهم وفلذات أكبادهم حتى وإن كنا نحتسبهم من الشهداء بإذن الله.
إلصاق تهمة اللاسلمية بإعتصام القيادة العامة لن يجدي في كافة الأحوال . ولن يجد صدى لدى ألشعب ...
وزيارات سفراء الدول العظمى وممثليهم في الخرطوم لساحة الإعتصام والمصابين في المستشفيات دليل على إعتراف هذه الدول الضمني بمشروعية وسلمية هذا الإعتصام . وحيث لا ينبغي لعاقل وذو خبرة في العمل السياسي أن يظن أن زيارة هؤلاء المسئؤلين الدبلوماسيين لساحة الإعتصام ودخولهم فيها ؛ والإلتقاء العشوائي مع بعض المعتصمين ؛ وإختلاطهم بهم وتبادل الأحاديث والآراء معهم والجلوس على الكراسي وسطهم ..... لاينبغي أخذها على أنها مجرّد حب إستطلاع "خواجات" ونزهات سياحية لتغيير اجو والفرفشة ، وإبتلاع العصيدة بالنعيمية ، وشرب الحلومر والآبري الأبيض ، وإحتساء الجَبـَنة السودانية بالسُكّـر زيادة ...
وسفراء وممثلي الدول الكبرى لم يتوقف ويقتصر دعمهم المعنوي والسياسي للثورة الشعبية والمعتصمين عند زيارتهم لساحة الإعتصام فقط . ولكن زادوا على ذلك بزيارة بعضهم للجرحى منهم في المستشفيات .... وهي رسائل قوية مباشرة لكل من يظن أن أرواح البشر ودماؤهم رخيصة.
ومن البديهي أن كافة التقارير المباشرة التي يكتبها هؤلاء الزائرون ، ويبعثون بها إلى وزارات الخارجية والإستخبارات في بلادهم ستكون هي المرجع الوحيد الموضوع أمام رؤساء تلك الدول وقيادات لجان مجالسهم التشريعية والنيابية.
القول بأننا لا نسمح بتدخلات أجنبية في شئوننا الداخلية . وأننا أحرار بأن نفعل ما نشاء في شعبنا من قتل وإبادة وتدمير ... مثل هذه الأقوال الحماسية الكلاسيكية بإمكان إرهابي مرصود لدى الولايات المتحدة مثل عبد الحي يوسف ترديدها ؛ والتلويح بها كنوع من أنواع التهويش بما لا يملك ... أو كالهِــرّ يحكي إنتفاخاً صَوْلة الأسـدـِ .
لم يعد هناك في العالم المُعاش شيء إسمه حرية مطلفة لسلطة منتخبة دستورية ... أو إنقلابية غير شرعية ؛ في إبادة جماعات ومجموعات مدنية من شعبها لأسباب سياسية أو عرقية ودينية .. إلخ. والقتل خارج نطاق القانون.
وحتى يعلم المجلس العسكري حماقة عبد الحي يوسف الذي يسعى ليصبح مفتى البرهان وحميدتي خاصة وأعضاء المجلس عامة ؛ ويوردهم موارد التهلكة في الدنيا والآخرة كما فعل بغيرهم ..... كان من أبرز وجوه حماقة عبد الحي هذا أنه لم يحتمل كتم إسرار بعض أعضاء المجلس له بالسر المكنون لديهم ؛ وهو طمأنتهم له بأنهم لن يسلموا السلطة لقوى الحرية والتغيير ... فسارع عبد الحي يوسف إلى إفشاء هذا السر الخطير على الملأ في قاعة الصداقة أمام جمع من الفرع الإرهابي لحزب المؤتمر الوطني البائد وجماعة الكيزان..... وهو يرمي بذلك إلى الإحراج ووضع المجلس أمام الأمر الواقع.... وزاد على ذلك بإدعاء أن خيانتهم لوعدهم هذا هو خيانة لله ورسوله ...... ولا أدري من أين حصل المتنبيء عبد الحي يوسف على هذه النبوة الإلهية ,,, وهذا التفوسض الرسولي؟
على أية حال ؛ الذي فهمناه من أحمق بني كوز المطاع هذا ؛ أن المجلس العسكري الإنتقالي يفكر في قرارة نفسه ، ويطمح إلى الإنفراد بالسلطة عبر خطة قديمة متكررة معروفة في جمهوريات العالم الثالث المتخلفة . تعتمد على تقريب حزب أو مجموعة أحزاب مدنية هزيلة العضوية ودمجها في بعضها ؛ حيث تقوم هذه الكتلة المدنية بترشيح قائد الإنقلاب العسكري لرئاسة الجمهورية والدعوة لإنتخابات صورية بلا ناخبين ؛ يفوز فيها قائد الإنقلاب بنسبة "قديسية" فلكية ؛ بوصفه منقذ البلاد والقائد المفدى الملهم ... ولتواصل ساقية جحا دورانها الوهمي وتنحدر من تدهور إلى تدهور.
الخطة الموضوعة لفض الإعتصام بالقوة تسرب عنها أنها ستكون شبيهة بتلك التي وضعها الأمن المصري ونفذها لفض إعتصام رابعة العدوية في 14/8/2013م . وتلخصت بداية في التمهيد الإعلامي بأن الإخوان المسلمين المصريين يخزنون أسلحة وأحزمة ناسفة داخل ساحة الإعتصام . وأن هناك إنتحاريون وجهاديون تسللوا إلى داخل ساحة الإعتصام . بما يضفي عليه صفة اللاسلمية. ثم شفع ذلك خروج مسيرات "مليونية" تطالب الفريق السيسي بفض الإعتصام وتمنحه تفويض الحشد الشعبي اللازم.
ولكن ينبغي الأخذ في الإعتبار وبالضرورة ؛ أن الظروف والملابسات التي إكتنفت إعتصام رابعة العدوية وأحاطت به ، تختلف جملة وتفصيلا عن واقع إعتصام الشعب السوداني الثائر أمام القيادة العامة لقواته النظامية المسلحة.
إعتصام ميدان رابعة العدوية كان بتدبير ومشاركة حصرية لجماعة الإخوان المسلمين المصرية .. وهي جماعة إرهابية مسلحة منبوذة معزولة إجتماعياً وعالمياً ؛ سيئة السمعة ولا تزال .... توصف بأنها مفرخة الإرهاب الديني الحديث في العالم...... وكانت تنظيمات الإخوان المسلمين المتسلسلة العنقودية التي تتبنى فكرا واحدا وولدت من رحم واحد ... وكانت قد خرجت لتوها منهزمة مدحورة عسكرياً وفكرياً في أفغانستان والعراق بعد تبنيها أحداث 11 سبتمبر؛ وإرتكابها عديد الإغتيالات السياسية ولبعض علماء الأزهر الشريف في مصر خاصة . وكذلك العديد من العمليات التفجيرية الإرهابية في معظم عواصم ومدن العالم...... وغير ذلك مما لا يتسع المجال هنا للتوسع فيه وتفنيده.
جميع ذلك وربما نذير منه وبعضه كان له أبلغ الأثر في شرعنة مواجهة السيسي بالقوة الغاشمة لإعتصام رابعة العدويةا. وحصوله حتى تاريخه على تأييد الرأي العام المصري خاصة والخارجي عامة ؛ في كل ما يفعله بهذه الجماعات الإرهابية التي روعت أمن المواطن المصري ... كما كانت سببا في ترويع أمن المواطنين المدنيين العزل الأبرياء في كافة أنحاء العالم دون أسس شرعية ومببرات أخلاقية أو مسوغات قانونية.
وبوجه عام كانت طبيعة النزاع السياسي في مصر مختلفة . والإعتصام فيها يختلف عن الإعتصام السوداني اليوم.
ملخص الحالة المصرية تتلخص في أن العداء المستحكم والصراع قد كان بين عامة الشعب المصري من جهة و جماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى...... وأن الجيش المصري بقيادة السيسي يقف في خانة الشعب المصري ضـد جماعة الإخوان المسلمين المعتصمين.
ملخص الحالة السودانية تتلخص في أن العداء المستحكم والصراع دائر الآن بين عامة الشعب السوداني من جهة ، و جماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى...... وأن الجيش السوداني بقيادة البرهان لا مناص لديه سوى أن يقف في خانة الشعب السوداني المعتصم .
إن أهم أسباب قبول الشعب السوداني بالمجلس العسكري الإنتقالي؛ أنه جاء على شرعية وقوفه إلى جانب الأغلبية الكاسحة من الشعب وإنحيازه إلى ثورته.
والشعب السوداني هو صاحب القرار . بدليل أنه أسقط نظام عمر البشير وأسقط مجلس أبنعوف العسكري الإنتقالي .... وأنه هو الذي قبل برئاسة البرهان وهنف بإسمه .. وبذلك إستمد محلسه الماثل شرعيته.
جميع ذلك يصب في خانة أن نمزذج رابعة العدوية المصري يختلف بمعدل 180 درجة عن الحالة السودانية. وبحيث لايمكن أن يختلف حماران ويترافسان ؛ ويلفخان بعضهما البعض في هذا الأمر..... فلا المعتصمين السودانيين هم إخوان مسلمين إرهابيين . ولا الشعب السوداني يقف ضد هؤلاء المعتصمين ...
ومن ثم فإن الخير أن لا يقف المجلس العسكري الإنتقالي في خانة الإخوان المسلمين الإرهابيين الأقلية القليلة ضد الشعب الأغلبية الغالبة...... وليس من الحكمة الإلتقاء بقيادتهم وبذل الوعود والعهود لهم ؛ لأنهم لا يحفظون الأسرار . ويفضحون ويلمزون ويغتابون ويبهتون ويظنون ... ويبيعون بأسرع مما يشترون.
إن من البديهي التسليم بأن الثورة الشعبية السودانية الماثلة قد جاءب ضد حكم الإحوان المسلمين ، بعد فشل ماحق وفساد متلازم عميق إكتنف وتزاوج بحكمهم طوال ثلاثين عام........ ومن الجنون أن يحاول أحد إقناع الشعب السوداني بجدوى إعادة هؤلاء الكيزان إلى السلطة من جديد. أو إبقاء فلولهم في كراسيها ومفاصلها.
إن المعتصمين في الحالة السودانية إنما هم الممثلون للأغلبية الكاسحة من الشعب السوداني التي ثارت ضد حكم الإخوان المسلمين الإرهابيين اللصوص الفاسدين .... وأن المجلس العسكري الإنتقالي قد جاء إلى الواجهة السياسية بمبرر أنه يقف في خانة الشعب ضد نظام جماعة الإحوان المسلمين . وسارع إلى إجتثاث تنظيمهم السياسي الحاكم المسمى المؤتمر الوطني .... وبالتالي فإن أي محاولة من هذا المجلس العسكري الإنتقالي لفض الإعتصام بالقوة. ستكون عواقبها وخيمة .. ولن تستطيع عربة المجلس العسكري السير بعدها سواء في الداخل أو الخارج.
نحن اليوم في عام 1440 و 2019م... ونعيش في أواسط ثورة الإتصالات والمعلوماتية وإحترام حقوق الإنسان ؛ وقناعات الحياة المدنية..... ولسنا بحاجة إلى راسبوتين وكهنوت وتجار دين وإرهابيين.
إن على المجلس العسكري الإنتقالي عدم السماح بإقحام الدين ورجال الدين في أمور السياسة ... وحيث لا يمكن أن يحتفظ علماء الدين بكرسي المنبر وكرسي السلطة السياسية في آن واحد ؛ ويطالبون بالقدسية والإمامة وولاية الفقيه ..... فهم ببساطة ليسوا بمنزهين عن الهوى ... ولا مصطفين ولا مختارين من فوق سبع سماوات ولا مرسلين . إنهم أناس وبشـر ليسوا بأكثر وربما أقل من عاديين. وكل مافي الأمر أنهم لم يدخلوا المساق العلمي في الثانوي ودخلوا الأدبي .. وتلقوا دراسات جامعية علمية في الفقه والشريعة ليعلموا الناس أمور دينهم من صلاة وزكاة وإرث .. إلخ .. ومن خلال الإحتكاك والتجربة أدركنا بما لا يدع مجال للشك أنه لا يشترط أن يكون الفكي والحوار والمؤذن والإمام وعالم الدين متديناً أو قديساً في معاملاته الشخصية والتجارية والمالية أو أخلاقياته ومغامراته العاطفية حتى...... ومن ثم فإنه من الجهل والغباء والبلاهة بمكان أن نسلمهم قيادنا كما يطلبون ويطلب العوام ونذهب خلفهم ونتبعهم كيقما إتسق واتفق كالضان ..... كما أننا لا نعرف في ديننا تفويضات إلهياً وصكوك غفران ، أو ملك خواتم وعبادة رهبان وتراتيل معبدية باللغة السنسكريتية .. والقرآن الكريم الذي بين أيدينا مكتوب بلغتنا العربية وليس بالخطوط المسمارية . ومن ثم فليس من السهولة والبساطة بمكان أن يضحك علينا عبد الحي وجوقته ، وينصبون أنفسهم أوثان وسدنة وأئمـة منتظرين أو غائبين.......
والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى خاتم الأنبياء والمرسلين . وإن الحمد لله رب العالمين.
التعليقات (0)