نصوص لهذا الليل
يوسف القدرة
[1] في أسفلٍ بعيدٍ
يركلُ الفجرُ ليلاً كاملاً فيما الشبّاكُ مفتوحٌ على هدوئهِ ويدٌ صغيرة توشوشُ عطرَها الناضجْ. إضاءةٌ نعسانةٌ تفتحُ عينيها بصعوبة وتثاؤب كثير. دفءٌ ما يتسلّلُ ناحيةَ قلبٍ يرقصُ مع غجريّةٍ في روحٍ شاردة حيثُ قصرُ الحمراء في أسفلٍ بعيدٍ واللهُ أقربُ مما يظنُّ العابرون. يداعبُ إيقاعُ الراقصينَ أرضاً تمرُّ عليها ريحٌ تتصيّدُ أغنياتٍ ويقينَ فرحٍ طارئٍ.
وحدَكِ. دمُكِ يبكي قُربَ ساحلٍ. بحرُكِ يصفّقُ فرحاناً ومخذولاً يرقصُ. يشتبكُ مع موجِهِ. والموجُ ذاكرةٌ تتقلّبُ على سريرٍ مهملٍ في غرفةٍ مغلقةٍ وعتمةٍ محبوسةٍ في خزانتها. الخزانةُ تحكي تخيّلاتٍ لذاتها وعلى خشبِها القديم قصصٌ كثيرةٌ لطفلةٍ تركضُ في حدائقَ روحِكِ.
[2] .. ولا أعاتب أحداً
يغلبُني نعاسٌ أخرقْ. ألتقي مع نيران تتدفق من عتبة النوم. أشتعل كمعنىً تسوقُه الهاوية. كرسيٌّ غامضٌ يرقصُ في سقفِ الرؤيا. ونيسانٌ صغيرٌ يحكُّ جلدةَ رأسِهِ. الخزانةُ تميلُ باتجاهِ التذكّر. المرآةُ مكسورةٌ وصورتي كذلك. كوب الكابتشينو لا مذاق لهُ غيرَ أنّهُ يبعثُ دفئاً في أصابع وجدي. أتنفّسُ غيابي المقصود. وأدركُ المسافةَ التي تشبهُ وخزاً في جهةِ القلب. أرجعُ إلى وسادةِ التعبِ ولا أعاتبُ أحداً سواي. أفكّرُ في العمى. وأرى أذني ترسمُ أرجوحةً على الشاطئ. أفكّرُ في العتمةِ الكاملة وأرى أنفي يرسمُ كوخاً بالقربِ من الأرجوحةِ بعدَ أنْ جمعَ عطورَ الصبايا التي أحبهنّ. أفكّرُ في الوحدة. وأرى لساني يرسم جزيرةً بعيدةً من مذاقاتٍ عدّة. أمشي ولي طريقي. أكفٌّ بيضاء على قماشٍ أسودٍ تدلُّ الحضور على أثر من مضى في العدم. جوع للظلال ويلتهمُني السكوت.
[3] من جهةِ العدمْ
قمرٌ مرسومٌ في دفتري يبكي وتبكي وردةٌ مسنودةٌ على ضوءهِ. شتاءً قاسياً كانَ وباردةً مساءاته. يرعبُني التشابه. غزَّةُ امرأةٌ غريبةٌ. تهجرُ عشاقَها. مدينةٌ وحيدةٌ كأرملة. سيدةٌ في يقينِها. عالمٌ يندسُّ في جيبِ القُبحِ. يلوي صمتَ محبةٍ متروكةْ. ينجبُ مسخاً أبلهاً من جهةِ العدمْ. قيحاً ينزفُ من عطرِ عرقهِ المنزوع. يحزُّ في التعبِ ويتباهى بجيفةٍ مقشرة عن موتٍ متعفّنْ. كلُّ شيءٍ ينزلقُ في خرافةٍ تنمو على يديه المنهكتين. ورأسهُ بين قدميه يمشي في التشاؤم والاستفزاز. موسيقاهُ صداعٌ في دمه يدبُّ.
[4]عالمٌ نادمٌ في نافذةٍ
يفتحُ بوّابةَ الرعبِ على عيونٍ منهوبةٌ من اللّغزْ. والعالمُ لغزٌ. غير أنَّ اللهاثَ مِصيدةُ الهباءْ. يمشي دونَ رجعةٍ في الذهابْ. يتركُ كذباً مفزوعاً خلفه. كالميلادْ. كأيِّ نحّاتٍ يخلعُ مخيّلتهُ كلّها في حجرٍ يلصقُها. كالموتِ. كأيِّ شهيدٍ يتركُ زوجةً وأبناءً وقصصاً صغيرةً ويقصدُ يقينَه الذي في الهناك. كالحياةْ. كأيِّ نبيٍّ يقطعُ طريقَهُ عارفاً أنّ الحياةَ تستحقُ العيشَ تاركاً المجازَ في الطريقْ. عالمٌ نادمٌ في نافذةٍ مشروخةٍ. كذلكَ روحه الناشفةْ. تتشققُ في سقوطٍ هادرٍ.
[5] الحقيقة أنا وهي ليْ
لا تكُن عبداً لأرضٍ، يا عبدُ. الأرضُ ليْ. كُنْ عبداً ليْ. لا تنسَ يومَ أعطيتُكَ صوتيْ. لا تكُنْ عبداً للكلامِ، يا عبدُ. أنا صاحبُ الكلامِ. كُنْ عبداً ليْ. لا تغرَّنّكَ الأسماءُ والصفاتُ، يا عبدُ. أنا خالقُ الأسماءَ والصفاتِ. لا تكُنْ عبداً لاسمكِ وصفتكِ، يا عبدُ، كن عبداً ليْ. لا تكُن عبداً لادّعاءاتٍ، يا عبدُ. الحقيقة أنا وهي ليْ. كُنْ عبداً ليْ. لا تكُنْ عبداً لخُرافاتٍ إنْثالتْ من مخيّلتِكَ، يا عبدُ. الصفحُ لي. كُنْ عبداً ليْ.
[6] صمتُكِ يؤلمُ صوتي
بابٌ يتفتَّحُ كوردةْ. الإطارُ ضَحِكٌ لا ينتَبِهُ. يتسلَّلُ غَنْجٌ من خلفِ حُجُبٍ وكآبةْ. تَقْلَقُ عتبةٌ يمرُّ عليها غرباءٌ وينفضون حزنَهم على صدرها. صدرٌ مكتنز بالخوفِ والخرافاتْ. لا يليقُ به هذا الألمْ. إذ أنّ عينيكِ في المرآة تدرِّباني على القفز عن الوحشةْ. ابتسامتُكِ تفرّخُ فرحاً لا يُقاسْ. الألمُ الذي في صمتِكِ يؤلمُ صوتي. لو انفجرتِ الآنْ سأكون ضحكتُكِ. أعرفُ أنَّ روحكِ الآن تسقى الورد في البراري. صدى حزنِكِ يمشي على مهلٍ في الأزقة. خطواتُكِ لا زالت تغني على العتبةْ. لماذا كُنتِ تحدِّقين في الجدار القديم؟ وروحُكِ حين تغفو تبدو كـ تشابيه؟
[7] يلتحف بظلّها
رأتْ في عينيهِ سماءٌ، وأسماءٌ من جيبِ سُتْرتهِ تسيل. أمّا الليلُ: قطعةُ قماشْ تحتفظُ بنعومتِها رغم قدومها من بلادٍ بعيدةْ حيثُ لسعتها ريحُ البحار في رحلتِها العظيمة وقاستْ. علّموه أنّ الشجرة التي في بيتهم تسرقُ الأوكسجين ليلاً وتملأُ العتمةَ بالاختناق. لا زال يحبُّ أن يلتحف بظلّها الخفيّ. يقطفُ برتقالةَ صدرها بغتةً. يعصرُها تاركاً الأخرى تشعرُ بغيرةٍ ووحشةْ.
[8] عيناكَ
عيناكَ فحمٌ يابِسٌ والدولةُ فقيرٌ خجول. عيناكَ موتٌ مُعادٌ وترتخي مفاصل الأرصفةْ. عيناكَ رحيلُ طلقةٍ والصدرُ خواءٌ مُضِيء. عيناكَ خروجٌ من الجِلدِ والقادمُ قاتلٌ سائلْ. عيناكَ تنهبُ أيامي يا أبي الذي تجمّد في خوفهِ.
[9] لهفةٌ مُؤجّلةٌ
ونَفَخَتَ في لهفةٍ مُعَلََّقةٍ بينَ ذوبانٍ وحِنَّةٍ فإذا بعشْقٍ مفْتولِ الشَّوْقِ يسيلُ أسْئلةً ويفْردُ رغباته ويطيرُ صوبَ حضنٍ تحصّنَ بتقواهْ ولما تمنّعتَ تمكَّنتْ شكوكٌ من دقِّ مساميرَ ألمٍ في صدر حزنٍ كانَ مُكفّناً بالزعْفرانْ. خَيْبَةٌ مُسَنَّنةٌ وذاتَ عينين مغمضتين على وسادتكَ نامت. الضوء لم يكترث لذبذبةٍ مسموعة. فراشاتٌ بلا سببٍ تتقشّرُ عن الجدارِ وترفرفْ. رطوبةٌ ملعونةٌ تتجمّع على ساقيك النادرتين. يداكَ لا تكفّان عن ارتجافٍ ملحوظ. القطّة تنظر إلى السقف. بينكَ وبين الباب غابة من المللْ. أشجارٌ مهجورةٌ تمشي على أصابعكْ. أسماءٌ كثيرةٌ تسقطُ من ذاكرتِك. الحياةُ بدتْ لكَ كرسيّ من خشبٍ تحتَ نخلةٍ ظلّها أعوج أمامَ بحرٍ هائجٍ والسماء هاربة طبعاً. تفكفكُ حكايةٌ ذاتَها بينَ حلمينِ تركتهما مهملين في خزانتكَ. الأحلامُ لا تحبُّ من يهملُها. تفرُّ من صدورٍ ضيّقةٍ أيضاً. في جيوبِ أوهامكَ قدّاحةٌ تشعلُ روحَكَ بسخريةٍ تُضْحِكُ ولا تَضْحَكْ. ضياعٌ مُبَاغِتٌ يُلَمْلِمُكَ عن أرصفةٍ مررتَ بها. لهفةٌ مُؤجّلةٌ تُصرُّ على الانتحارِ مفخّخة برغائب مكتومة التأوُّه. بَيَاضٌ ناضجٌ يُغَلِّفُ أحزاناً ويُهديها لصلاةِ غريبْ.
[10] لترجم الوهمَ
صباحُكَ وردٌ وبخورٌ يا أبانا الذي من قلبٍ يرتعش فيما حلمَها تقيسه بخطواتِها، صباحُكَ نجومٌ وليلٌ صغيرٌ ينتظر ليلها الطويل، اشرب قليلاً من الماء بالقُربِ منها، واستعذ بصبركَ من مسافة محتملة، وارقص إن استطعتَ كدرويش بين يديها، وكن أعمق في عشقكَ، كن مطراً إن لم تشأ أن تكون حجرْ، المطرُ يحتاجُ إلى مطرٍ، أذاهبٌ أنتَ باتجاه حنينٍ قاتل إلى رحمٍ أمين يحميكَ من شرورِ خوفِكَ الذي يقفزُ من روحك بغتةً. لترجم الوهمَ بالقصائد والدموعْ. سيّان. لتشقّ الصدر عن ينابيع الثلج ولتفتّش عن دهاء. لينزف قلب الحجر تحت قدم الكون. لكَ طائرٌ بحجم لهفتكَ فوق بحرٍ من لهبْ.
التعليقات (0)