مواضيع اليوم

نصوص لم تنشر لمحود درويش

عبد الوهاب الملوح

2009-08-07 08:59:34

0

ذاهبون الى القصيدة (الى بابلو نيرودا)
الجمعة, 07 أغسطس 2009

في العام 1975، بعد نحو ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب في لبنان، صدر العدد السادس والأربعون من مجلة «شؤون فلسطينية» (حزيران/ يونيو) حاملاً قصيدة للشاعر محمود درويش عـنوانها «ذاهبون الى القصيدة – الى بابلو نيرودا». لكن ظروف الحرب حالت دون انتشار العدد من المجلة التي كان درويش يرأس تحريرها، ما جعل القصيدة تبقى مجهولة أو شبه مجهولة، على رغم أهمّيتها، ونبرتها الغنائية الجديدة التي ستتجلّى من ثمّ في أعمال الشاعر اللاحقة. كان درويش أصدر آخر دواوينه حينذاك «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» وكان يتهيّأ لنشر ديوانه الجديد «أعراس». وعندما صدر «أعراس» لم تكن هذه القصيدة ذات الطابع المختلف في عداد قصائـده. ثم تـوالت دواويـن درويـش ولـم يحـمـل أيٌّ منـها هذه القصيدة. لم ينس محمود قصيدته هذه ولم يتناسَها، لكنه لم يجد لها موقعاً في دواوينه التي تعاقبت حاملة سماتها الخاصة، فظلت القصيدة مجهولة أو شبه مجهولة، مع أن الشاعر كان يحبها ويكنّ لها عاطفة وذكرى، وكان يردّد مقاطع منها أمام أصدقائه في الجلسات الحميمة. وكان دوماً يقول أن لا بد لها من أن تجد مكاناً لها في ديوان. وغاب محمود درويش ولم تصدر القصيدة في ديوان، فظلّت أسيرة ذلك العدد من «شؤون فلسطينية».

ولعل فرادة هذه القصيدة تكمن في انتمائها الى بدايات المرحلة الجديدة التي كان يخوضها الشاعر مشرعاً نوافذ الشعر على آفاق متعدّدة، هي آفاق الذات الإنسانية والغنائية العالية واللغة المحدثة.


يتسلّقُ الجيتارَ:

ستُّ سنابل تأتي من الأسرارِ.

تنهمرُ الجهاتُ عليه – منه. وهكذا تأتي الخلاصةُ:

إنّ خمس أنامل تحمي المحيطَ من الجفاف.

ويغضبُ الجيتارُ:

ستُّ زوابعٍ تأتي من الصمتِ المهدِّدِ.

هكذا تأتي الخلاصة: إنّ خمس أصابع

تحمي الصباح من التردّدِ.

إنّ نيرودا

يُغنّي

بين الفراشة واللهيب يسافرُ الشعراءُ

بين السيف والدم فوق حدّ السيف ينتظرون وردتهم

يُحبّون القصيدة حيث تفلت من هواجسهم وينتحرون في أوجِ القصيدةْ

الموتُ يسكنهم ولا يدرون... ينفجرون مثل شقائق النعمان في يومٍ

ربيعيّ قصيرْ.

بين القصيدة والقصيدة يطردون البحرَ...

ينتقمون من زَبَدٍ يفرّ من الأصابعِ

يذهبون إلى الشوارع عاجزين ومُتعبين

كأيّ بوليس يفتّشُ عن علاقات مُحرّمة ليكتبَ أيّ

شيء ضدّ أي شيء...

يكذبون على النساء...

يزوّرون الحبرَ والقبلاتِ...

عاديّون عاديّون ما بين القصيدة والقصيدة يسأمون الشّعر والفجر

المبكّر و... الوطن.

... وكما يموت النّسرُ ينطلقونَ

نيرودا!

جَمَعْتَ لنا الندى من كلّ زنبقة وجمجمةٍ

شربتَ هدير هذا البحر نخبَ يدٍ تقاومُ في حقول الموزِ -

والأصدافُ بين يديكَ -

كان الشرقُ يغسل وجههُ في لهجةٍ صينيّةٍ

والحربُ تجعل كلّ شيء واضحاً كالخبزِ

هل يتمهّلُ الزلزال أمسيةً لنخرجَ من قواميس اللغات إلى

ضواحي الصوت؟

فلّاحوكَ

صيّادوكَ

جلّادوكَ

يحتشدون فوق أصابع الجيتار...

أحصنةٌ تدور مع الرياح السودِ

إمرأةٌ تهاجمها بأغنيةٍ، وتسقطُ في البنفسجِ

تستطيعُ وتستطيعُ وتستطيعْ.

دمُنا على المحراثِ

نيرودا! تُغنّي أمْ تروّض غابةً

تمشي على الإيقاع أم يتجوّل البركانُ فيكَ

وحارسُ البستان يختزن الأفاعي خلفَ صوتكَ.

إنّ جمهوريةً أخرى تُعيد قصيدة أخرى إلى أفراحها...

لكن شطآن القصيدة لا تُدجّنها البحيرةُ -

كان فيدريكو يموت على «سياجٍ يحجبُ القمر» الحبيبُ يموتُ.

أجراسٌ تدقّ وتختفي في القلبِ...

كان الموتُ يجعلُ كلّ شيء واضحاً كالعشبِ

هل يتمهّل الزلزال أمسيةً لنجمع عن خناجرهم دمَ الأطفال

والشعراءِ؟

كان الليل أوضحَ من خطى الشهداءِ

لكنّ المياه تسيلُ من وَتَرٍ يقاومُ صخرةً صمّاء...

نيرودا! سننتصرُ

القيود لنا - سننتصرُ

النشيدُ لنا - سننتصرُ

الضروعُ مليئةٌ بالبرقِ - ننتصرُ

الضلوع منازلٌ للعشق - ننتصرُ

الجيادُ السودُ تهبط من مكانٍ ما - سننتصرُ

النهايةُ تنتهي

هذا هو الجيتارُ أرضٌ في تمامِ الصوت تزخر بالوضوح من الوريد

إلى الوريد...

وها همُ الشعراءُ في أوجِ القصيدةِ ذاهبون إلى القصيدةِ في

شباكِ الصيّدِ

يولدُ فوجُ ضبّاط جديدٌ. سورةُ الموتى تزيدُ. وعاملُ التعدين

يدخل عامه السبعين. والشعراء يختارون هاجسهمْ

وينتحرونَ خلف البرلمانِ...

منذ البدايةِ: إنّ هذا المسرحَ الخالي من الجمهور والجدران

ينتظر البشارةَ في الأغاني.

ها نحنُ نتّفقُ: الغزالةُ لا تحبّ الشعرَ

والشعراء حقلٌ أزرقٌ لم يُفتَرعْ إلا بأقدام الغزالةْ.

ها نحن نختلفُ: الجبالُ بعيدةٌ...

نتسلّقُ الجيتارَ. ستّ زنابقٍ تأتي من الفحم. الجهاتُ تعودُ

من ساحات غربتها وتأوي للنوافذِ. إنّ خمس أصابع تحمي الفضاء

من البقاء على سطوح البرلمانِ.

وإنّ

نيرودا

يغنّي.

ها نحن نختلفُ - اتفقنا

ها نحن نتّفقُ - اختلفنا.

للجبالِ يدٌ هي المطرُ. القصيدة ملء هذا المسرح الخالي من

الجدرانِ

للأرضِ ارتعاشاتٌ هي الدمُ. حين ينهمرُ الرصاص عليكَ – منك

ومن لصوص الليلِ تصرخُ في وضوحْ

إنّ الجروح هي الجروحْ.

لكنّ هذا البحر أزرقْ

لكنّ هذا الحقل أخضرْ

ودم المغنّي أبيضٌ فوق الشوارعِ والأصابعِ.

عاملُ التعدين يدخل عامه السبعين...

يقرأ أبجديّة قلبه المشويّ فوق الفحم فحماً...

والرغيفُ غزالةٌ تعدو وتعدو في القيودِ..

وفوج ضبّاط جديدٌ يُتقن السهر الطويلَ على حدود الخبزِ...

قد مرّوا «جماجم من رصاص» مرةً أخرى... ونيرودا يموتُ.

«خيولهم سوداء». نيرودا يموتُ على قصيدته... فتذهب في الفضاء...

وعاملُ التعدين يقرأ صفحةً أخرى ويسقط في البنفسجِ

يغضبُ الجيتارُ

ستُّ زاوبعٍ

تأتي من الصمت المهدِّدِ

إن خمس أصابعٍ

تحمي

الصباحَ

من

التردّدِ.

كان نيرودا يغنّي

ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ بين أيدينا.

دمُ الشعراء محراثٌ

ويحتفلُ الترابْ.

ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ بين أيدينا.

لأجلك يرجعُ البطّ المخيِّمُ في جنوب البحرِ

نيرودا! لأجلكَ نكتفي بالعمر أغنيةً وكأساً من سحاب.

مدنٌ تنام على السلالم في انتظاركَ. آه نيرودا. شواطئ هذه

الأرض الصغيرة - عبر صوتك - قبلةٌ مفتوحةٌ للنورس الباكي وللبجع

الذي يتعلّم الرقص المميتَ

لكَ القرنفلُ. شهرُ أيارَ. البديلُ الاشتراكيُّ. المدارسُ. أبجديّةُ

عامل الميناء. تمثال الصدى والعطرِ. أوّل خطوة بعد الزنازين.

الأغاني في حوانيت الفواكهِ

آه نيرودا! حدودُ الأرض في ليمون صوتكَ ملعبُ الكرةِ،

المظاهرةُ، احتفالُ الذاهبين إلى الجحيم. لك اعترافاتُ النساء العاشقاتِ.

لك النشيدُ الأزرقُ... الحريةُ الزرقاءُ... أبعدُ قريةٍ في الأرض

لكنْ / بعد موتك

عبر موتك

قرب موتكَ

كلُّ فجرٍ كان ينتظرُ انطفاءك كي يضيءْ

وكلُّ صوت كان ينتظر اختفاءك كي يجيءْ.

ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ لا تحبّ الشعرَ في الزمن الرديءْ.


خمسون عاما بلا  لوركا

م يكن المغني يغني، كان ينبثق من بلور لوركا المكسور. لم يكن أمانيثيو برادا يغني لنا، كان يلم شتات الروح. وكان علينا أن نصرخ لنشفى من حريق الورد: أُلِّي... الله، في مساء مدينة البرتقال الإسباني فالينسيا.

لم يكف خوان غويتسولو عن تأكيد البهجة: إن سوناتات الحب المعتم هذه، هي أحب قصائد لوركا على قلبي.

إسبانيا في كل أرجاء الذاكرة. إسبانيا في تمام إيقاعها المحاذي لموت يقدَّس. ونحن على هامش الهامش. لا ندخل ولا نخرج، نتحرر قليلاً من عقدة الخوف من الطرب. ولكن، من هو هذا المغني الذي يتلاشى، جسدياً، مع الأغنية؟

إنه متخصص في غناء قصائد لوركا... إنه يسبح ضد التيار الجارف الذي يعزل الغناء عن الشعر، كما فعل لوركا وهو يقاوم عزل الشعر عن الغناء.

كان لوركا ينشد. كان لوركا يقول إن الشعر يحتاج إلى ناقل، يحتاج إلى كائن حي، سواء كان هذا الناقل مغنياً أو منشداً. وكان لوركا يمتحن حاسة الذوق، ويمتحن القصيدة ذاتها بالإلقاء. كان يبحث عن العلاقة المباشرة بين الصوت والقلب. فالشعر ليس فناً بصرياً. لا بد من إذن. لا بد من جرْس.

ساعة واحدة. ساعة واحدة فقط كانت كافية لأن تنقلنا مما نحن فيه، من زماننا ومكاننا إلى... ما لا ندري، بشفافية الشعر، وفضة الصوت، وأمهات البرتقال الإسباني. لماذا نُصاب بهذا الفرح، وبهذا الشجن، لماذا ننتفض؟ هل نسينا أن هذه الرهافة، وهذا الغياب، هما وطن الشعر، الذي لا وطن له؟ وهل نسينا هذا الزواج الأبدي السعيد بين الشعر والموسيقى، لتعيد لنا تلك الساعة مشهد الروح وهي تحوّل البصري إلى صوت، وتطلع من الصوت رائحة الخريف؟

نسمة ملح تنقش أسماءنا على الرخام. إيقاعات زهر تنثر في الدم دبابيس الرغبة. بعيد يبتعد. ويد تحضن الكلام نوافير من ضوء ينسكب من بين غصون. إسبانيا، لوركا، خوف من قمر يرى ويفضح. لا نفهم هذه اللغة، ولكننا نحس ونؤلف كلاماً لمشهد يُطل علينا منّا. لذلك، ندرك الشعر الذي تقوله، لأنه أشكال داخلنا، ولأننا نعرف ما حدث في تلك الليلة، التي نحاول طردها عنّا، كما نطرد ذبابة بمروحة، على رغم أن سلفادور دالي واصل تناول السردين بشهية حين قالوا له إنهم قتلوا لوركا. هناك دالي، وهنا بابلو بيكاسو، الذي احتاج عشرين سنة أخرى ليرسم الحمام.

خمسون سنة على غياب لوركا. خمسون سنة على غياب وعد الجمهورية. ماذا نفعل بلا لوركا، ماذا نفعل بلا جمهورية؟

المغني يبوح بحساسية أخرى، باعتراف مظلم هو جزء من حرية. ولكن كنائس الكلام كانت تنتشر فينا كغابة صنوبر متباعدة الأشجار. إذ ليس لوركا فينا، سرّه الشخصي، بقدر ما هو فضيحة الإبداع المعدية... ولا أستطيع التحرر من الإحساس بأنهم يقتلون لوركا الآن. هنا، أمامي. لقد فتحت لي الأغنية باب خوفي الأوّل من القمر، الذي كان يكبّر الأشباح، وأعادتني إلى درسي الأوّل، الحاد الغامض، في قابلية الألفاظ الحسية على نشر مشاهد بصرية. هو... هو الذي أخذني إلى هذه الظلال، إلى هذا المزيج الناري، وإلى تسليط القلب على «الطبيعة الميتة» كما يقول الرسامون، وعلى إغراء العقل في التسلل العلني إلى القصيدة. هو الذي علمني شد الوتر من الحجر، والسير في غابات الزيتون. هو الذي دلني إلى طريق الخيل والمطر فوق منحدرات الجيتار. وهو الذي علمني الرحيل إلى قرطبة...

خمسون سنة على غيابه. ماذا فعلنا في غيابه؟ لقد توقف الجسد الإسباني، ذو السلالة العربية، عن التساؤل الخبيث: هل الأسطورة هي التي خلقت الشاعر، أم الشاعر هو الذي خلق الأسطورة؟ يريدون، لكي لا يحجبهم ضوؤه، أن يستبدلوا مجال الشاعرية بساحة إعدام. الشفقة لا الحب. ويريدون أن يقايضوا جداول حبنا القادمة من ينبوع شعر نادر برصاصة تثير التعاطف الشهير. لقد توقف هذا الجسد الإسباني، منذ عجزت الحواس عن العمل بلا أصوات لوركا الملونة، ومنذ عجز الديكتاتور القابع في القصر، وصغار الضباط المندسين في الشعر، عن الحيلولة دون انبثاق أغنية لوركا من كل أعضاء الجسد، ومن كل مجالات الروح التي تمتد إلى قدمي الراقصة الإسبانية الطامحة إلى الإقلاع عن جاذبية الأرض، ومنذ عجزوا عن اقتلاع أشجار الزيتون من أي حلق أندلسي، ومنذ عجزوا عن تحويل الغجري إلى موظف.

لوركا! من يستطيع وقف الرعشة إزاء هذا الاسم المكهرب؟

المغني يتسلل على حبل الظل. يرسم أغنية لوركا الهشّة. يتلوى، يصلّي، يزني، يعود على حافة الوتر الذي يجرح الهواء. ونحن نصفق لما تبقى فينا من قدرة على الافتتان: أولِّي... أُلِّي... الله. هل نسينا طابع الشعر هذا، هذا الطابع؟ وهل في وسع الشعر أن يجدد إنتاج حياته بغير هذا الحلق... وبغير هذه الأذن... وبغير هذا الاتصال؟ ليس مقياس الشاعرية أن يُقرأ الشعر - منْ وضع هذا المقياس؟ - بل أن يُسمع، أن يُغنى، وأن يُعاد إنتاجه على مستوى علاقة - منْ رفض هذا المقياس؟

خواطر. فرح. من سمَّى هذا الطرب عيباً؟ سؤال يُحال إلى عملية التدمير الذاتي التي يُمارسها الشعراء بتطهير شعرهم من العاطفة، وباستبدال غموض الأحاسيس المعلقة على أشجار الليل بوضوح الرياضيات، الذي لا يُفهم. أهذا ما يريده الذين ضاقوا ذرعاً، أو جهلاً بالموسيقى فحاولوا استحضارها من الكيمياء؟

غنِّ أكثر، أيها الكائن الحيّ، غنِّ أكثر يا ناقل الأغنية إلينا، نحن الجمهور. الموسيقى تعلن انتسابها العضوي، ولا تشرح. الموسيقى تنبثق ولا تصاحب. الموسيقى أحد أرواح الشعر، ما أُعلن منها، وما بُطِّن. غنِّ أكثر، ولكن لا تذكر كلمة «لونا». لا تذكر القمر. الليلة قتلوا لوركا...

وهكذا قدّم القاتل شهادته في رواية فيلالونغا: «ذهبتُ في طلب لوركا، في منتصف ليلة التاسع عشر من آب (أغسطس). انهض... هذا هو الموعد. قال: متى شئت أنا جاهز. نظرت إلى ساعتي: على مهلك. معنا وقت. قال لوركا: أحب ألا يحدث ذلك في المقبرة، فالمقابر ليست ليموت الناس فيها. إنها، فقط، للصمت والأزهار والغيوم. ولا أحب الموت على مرأى من القمر.

«... وحين وصلنا ساده فرح غامر فهمت معناه: لا يوجد قمر. توقفت السيارة. نزل منها رجال الفصيل السبعة. كما ترجّل قس طرّز على ثوبه الكهنوتي قلب يسوع المقدس. وضعت إصبعاً على كتف الشاعر، وقلت له: تقدّم... وأنا أدله على الطريق. سار راكضاً في الطريق المحاذي لمجرى ساقية جاف. وبعد دقائق عدة من المشي توقف. ظهرت أمامه في الأفق لاسييرا، وقد غطاها ضباب الليل الأزرق، وقربها وراء غابة الحور السوداء، قرية الشاعر ومسقط رأسه. سمعته يتمتم مرتين: لماذا يا ربي... لماذا؟ كان أحد رجال الفصيل يمشي إلى جانبي، ومسدسه في يده. أدخل فوهته في صُلب الشاعر، وانتهره بجلافة: إمشِ، وإلا بقرت بطنك. استأنف لوركا سيره متعثراً بالـحجـارة، وسـقط ثلاث مرّات على ركبتيه.

وفجأة توقف وسألني: قل لي الحقيقة... هل هذا مؤلم كثيراً؟

«... فجأة ندّت صرخة... صرخة لا يبدو أنها خرجت من حنجرة إنسان. توقف لوركا عند حافة الجرف... أخدود عريض حفر في بطن الأرض، كاشفاً عن جذور الأشجار العميقة... عشرات القبور أخذت شكل الأجسام المواراة تحت التراب الرمادي الناعم... وهناك على مرأى من أبصارنا، منظر فاحش فظيع: ساق امرأة عارية ظلت خارج القبر، فوق التراب المحرّك منذ وقت قريب. أجهش لوركا بالبكاء...

«... تقدّم الكاهن، وفي يده صليب. قال للشاعر:

اعترف؟

تساءل: بماذا أعترف؟

قال الكاهن: بما تريد...

مد لوركا يده وأبعد الكاهن. عبّأ رجال الفصيل سلاحهم. قلت له: اركض! نظر إليّ، وهو لا يفهم قصدي، وأنا أؤكد: أقول لك اركض. قال: بأي اتجاه؟ قلت: على خط مستقيم... إلى أمام!

ركض عشرين متراً تقريباً في شكل يثير الشفقة، وتوقف. اركض، أيضاً. استأنف الركض، ويداه تهتزان، ورأسه يتداعى كأنه تمثال لا حياة فيه. وأصدرت أمري: نار.

ولما اقتربت منه رأيت وجهه معفراً بالدم والتراب الأحمر. كانت عيناه جاحظتين. قال بصوت خافت: أنا ما زلتُ حيّاً. حشوت مسدسي، وصوّبته إلى الصدغ. انطلقت رصاصة، ونفذت من البطن. ودفناه عند جذع شجرة زيتون».

غنِّ أكثر، أيها الكائن الحي، لنصدق أن على مثل هذه الأرض المجبولة بالجريمة، شيئاً ما يستحق الحياة. إنهم يذبحون الشاعر كالأرنب. وحين يعجزون عن ذبح الأغنية، يحيلون هذه المهمة إلى شعراء آخرين، يحيلونها بدورهم إلى نقاد آخرين. وحين ينتابنا الخوف من قمر أو خنجر، نتحسس قلوبنا.

وبقدر ما نجد لوركا نواصل البحث عن الروح في الغناء، والبحث عن الغناء في الروح.

خمسون عاماً بلا فيدريكو غارسيا لوركا...

شعراء أكثر، وشعر أقل.

دأب محمود درويش على كتابة مقال اسبوعي في مجلة «اليوم السابع» الصادرة في باريس، بدءاً من العام 1986 حتى توقفها. ويعمل حالياً الناقد الفلسطيني حسن خضر على جمع هذه المقالات بغية اصدارها في كتاب خاص. هذا المقال الذي يستعيد الذكرى الخمسين لرحيل الشاعر الاسباني لوركا نشر في المجلة في 23/6/1986.

جريدة الحياة الندنية  الجمعة 07/08/09




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !