أغرب ما نسمع ونقرأ ونرى, بين حين وحين, من وعن مسؤولين وإعلاميين و "مثقفين" وحزبيين متمرسين, بمناسبات وطنية, أو مهرجانات دعائية أو انتخابات احتفالية, نخوات عربية, وغارات كلامية, وهبات حماسية كالرياح الخماسينية, تذكّر بالأمجاد العربية , وبفضل الأجداد على الحضارة العالمية, وبضرورة الاعتراف لنا نحن أحفاد أحفاد الأجداد, بالدخول في مقدمة الأمم, والجلوس في المحافل الدولية في المقاعد الأمامية الأمامية. وعلينا قبل الجميع تدار القهوة العربية. وقراءة شعر الفخر و المديح لحكامنا وعلى رؤوس الاشهاد ــ أليسوا من سلالات الذين جابوا الأرض طولا وعرضا ــ والهجاء بأقذعه لغيرهم, الحاقدون دوما, المتآمرون أبدا, أعداء الداخل والخارج . الهجاء عقاب للخارج, والقتل والسجن والتشريد حقوق محفوظة لأهل الداخل, وغير قابلة للتقادم أو التنازل. يطالبون بنشر الفكر العربي, الرسمي, والثقافة العربية, ثقافتهم, وغزو العالم بهما, ورد الحيف. تصد ورد على الغزو الفكري والثقافي الغربي والشرقي, ومن أي جهة جاء, وخاصة السياسي منه القائل بالديمقراطية, ودولة القانون وفصل السلطات, أو ببناء المؤسسات و المجتمع المدني, أو, وبشكل أخص, بدع حقوق الإنسان. وصد الأبواب في وجه كل ذلك لحماية منتجاتنا الوطنية, الصالحة لكل زمان ومكان. وقد تنبهت لذلك اليوم الجامعة العربية, كما تطالعنا الإخبار, فخصصت " ورشات عمل" تشارك فيها دول تقدمية ورجعية ــ لا يهم المصلحة القومية أولا ــ بتمويل ليبي خالص وسخي, لدراسة فكر القذافي, والإعداد للهجوم الحضاري المعاكس الوشيك ــ بعد اكتمال الدراسة ــ لمقارعة هذه المرة الفكر بالفكر والحجة بالحجة. وغزو الغرب بالثقافة في عقر داره وبين جمهوره. (أي إذلال واستهتار بنا أخي المواطن !!!.)ومن حسن حظنا, أو من سوئه, أن القارئ في أي مكان من العالم لا يطلع على بضاعتنا "الفكرية" لأنه حتى ولو وصلت إليه فهو غير ملزم, كالقارئ العربي, بإلقاء نظرة عابرة عليها. أو حتى على عنوانيها. ولو للتسلية. فالمسليات لديه أكثر إغراء وأعم فائدة.لاشك أن الغرب يعرف ما قدمه العرب الأوائل للحضارة الإنسانية أكثر مما يعرفه هؤلاء الأدعياء, ولا ينكر ذلك منهم إلا جاحد أو مغرض, وفي مكتباتهم من المخطوطات والكتب القديمة ما هو غير متوفر في أية مكتبة عربية, مصنفة بإتقان واحترام ومقروءة بإعجاب وتقدير. ودليل ذلك أن السؤال الأول الذي يأتيك, دون مواربة, ممن يعرف بأنك عربي هو: كنتم أصحاب حضارة وفكر فلماذا انتم الآن على ما أنتم عليه؟. سؤال كم نود لو يسمعه دعاة نشر الثقافة العربية المشار إليهم. مرفق بسؤال يسأله كل مواطن عربي شريف, ولو سرا أو بينه وبين نفسه, ماذا فعلتم بالثقافة العربية والفكر العربي ؟ ماذا فعلتم من أجلهما ؟ ولأي ثقافة تروجون, أو تنتمون؟.والجواب منهم كالعادة هجومي وسريع ودون تفكير, انه ذنب الاستعمار. والتآمر الاستعماري , والتربص الامبريالي. وكأنهم ينسون إننا مستقلون منذ أكثر من 50 عام ومبتلون بحكمهم هم أنفسهم, وحكم امتداداتهم الطبيعية وتشعباتهم الأخطبوطية, منذ ما يقرب من 40 عام, دون انقطاع, تغير العالم فيها, فسقطت أنظمة سياسية , واقتصادية, ومفاهيم فلسفية, وانحلت دول ونشأت أخرى. ونُسجت علاقات دولية بأنوال مختلفة و بمعطيات مختلفة, تبعتها رؤى جديدة في العوالم الجديدة. وحكامنا باقون بفضل من يهاجمون. هل يمكن أن تُنتج ثقافة وفكرا نيرا أنظمة عدوها الأساسي الفكر والنور؟ كيف في دولة الاستبداد و الحزب الواحد, والرأي الواحد, والملك والشيخ والأمير الذي يتخذ دولته ملكية خاصة, وشعبه للسمع والطاعة. يمكن الإبداع من أي نوع كان, والرد على الآخرين بمنطق عصري وحضاري, كما يطالبون, ومنهم وزير عربي نشيط لا ينقطع عن الكتابة والتصريحات والنضال في كل مجال, لا يُذكر بالاسم, ليس حفاظا على سمعة الوزير المثقف والبليغ, وإنما احتراما لمكانة الوزارة وما تعنيه في الأنظمة السياسية التي تحترم نفسها وشعوبها, أو ربما لخوف أو جبن, فالخوف أصبح حكمة والجبن فضيلة. أليس هذا بعض ما تنتجه ثقافة الاستبداد ومفاهيمه ؟.يريدون من طلابهم وعمالهم ومثقفيهم سفراء لبلدانهم في الخارج, بمفهوم سفارة الحاكم, يبلغون رسائله وسياساته وفكره, ولهم شرحها إن رؤوا فيه فائدة, ولكن بعد موافقة الرقيب , الأمني, الذي يجهل غالبا أصول السفارة واللياقة, ومعنى الثقافة, ولغة وحضارة من يقيم بين ظهرانيهم . وكثيرا ما يحاولون شراء من يمكن شراءه من الغربيين للدفاع عن أنظمتهم, وليس قضايا أمتهم, أو يمولون وسيلة إعلام, غالبا ما تكون متواضعة أو مجهولة, لتلميع صورهم. وكان الثقافة مواد دعائية, أو منتجات تجارية, أو مبتكرات تجميلية. عشية الاستقلال وبداية عهده ازدهر وانتشر الفكر النير والأدب بمختلف فروعه في العديد من الدول العربية, ولمعت أسماء وصل وهجها إلى الغرب, تُرجمت لها أعمال متنوعة إلى لغات عالمية عديدة. وحصل بعضهم على جوائز عالمية, وحتى جائزة نوبل كانت من نصيب احدهم. ورُشح آخرون عن جدارة واستحقاق لنيلها. ومنهم من كتب أعمالا رائعة بلغات أجنبية فنالت التقدير والإعجاب. و بنوا قاعدة ثقافية توفرت فيها الركائز الصلبة لمواصلة البناء.إلى أن بدا عهدكم وبدأت من بدايته محنة الفكر الحر والأدب والثقافة المنفتحة. فتحت شعارات ظاهرها وطني وإنساني وتحرري, الأدب الملتزم, والفن الملتزم, والفكر الملتزم, من اجل القضايا العادلة, وحقيقتها تدجين الفكر وترويضه عن طريق تأميمه وإدخاله اديولوجيات الأحزاب المتحجرة, والنقابات القمعية الملحق بعضها بالأجهزة الأمنية مباشرة. وتحت شعار لا صوت يعلو على صوت المعركة ـ التي لم تقم حقيقة ولم تأت بعد, ولن تأتي كما يجب أن تأتي ـ قُمعت كل الأصوات الحرة بما فيها أصوات الطرب. ولكن هل يُنتظر حلول الديمقراطية وتنزيل الحريات العامة والشخصية بمراسيم رئاسية أو ملكية. حتى يشعل المثقف سيجاره وتبدأ لديه عملية التفكير والإبداع؟ الم تنبثق أكثر الأفكار إنسانية وأعمق النظريات محتوى من ظلام الاستبداد وعهوده؟. وجاءت ردا وتحد لتلك العهود فانتصرت رغم القمع وزال المستبد وبقيت الأفكار ساطعة يستنير بها المفكرون إلى يومنا هذا ويرفضون الخروج عن جوهرها. مثل مبدأ المساواة, والحريات الفردية والعامة, والديمقراطية, وحقوق الإنسان. وان كانت مفاهيمها عند القدماء تختلف من حيث القيم والاتساع عن مفاهيمها عند المعاصرين, فهي مع ذلك بقيت وتبقى مغروسة بعمق في التطلعات والأماني والآمال الإنسانية. عظماء اليونان من فلاسفة ومفكرين لم ينتظروا قدوم الديمقراطية إليهم ليقدموا فكرا خالدا في شتى الميادين, وإنما ساهموا في خلقها وتطويرها لتستوعب فكرهم ويتطور بدوره بتطورها. ومن هامش ديمقراطي, كان يضيق أحيانا ويتسع أخرى, أغنى سيسرون والفقهاء الرومان النظام القانوني الروماني الذي ما زال في أصول القوانين المعاصرة, الفرنسية منها بشكل خاص. ومن ظلمات العصور الوسطى ظهرت أفكار عصر التنوير, ونظريات بناها مع آخرين لوك, و مونتسكيو, وجان جاك روسو... هل كان سيظهر في عالمنا العربي شوقي, وحافظ إبراهيم, وقاسم أمين, والعقاد, وطه حسين .. لو عاشوا عصر تأميم الفكر وكبحه وإخضاعه لرقابة الدولة الأمنية, وملاحقة التكفيريين له من جند الله ــ دون تكليف منه ودون مؤهلات أو قرارات تعيين ــ أم كانوا لو ظهروا سيتحدون ويبدعون, كما فعل السابقون في الحضارات الأخرى؟ سؤال على عاتق الفيلسوف وعالم الاجتماع والحقوقي والمؤرخ ورجل الدين, مجتمعين, يقع عبء الإجابة.وأخيرا, كيف لا تنحط الثقافة بانحطاط السياسة؟ وكيف لا تنحط السياسة دون ثقافة؟.
التعليقات (0)