الشهامة والكرامة والرجولة الفت الحوراني وألفها. وكأنّ سهل حوران أنتجها مثلما ينتج قمحه . وكاد "الحوارنة" أن يتفردوا بها, بخصائصها, بطعمها, بنكهتها. فلمنتج كل ارض خصائص ونكهة. استنبتوا سهلهم ففاض خيرا وغذى غالبية سوريا والجوار. وانبت قيما, تفاعلوا معه فتفاعل معهم.
بين الحوراني وأرضه صلة تكاد تكون منقطعة النظير عبر التاريخ والى يومنا هذا. لم يهجرها رغم كل المسببات التي تدفع الشعوب للهجرة. حتى في أيام القحط والجفاف كان يغادرها لأوقات قصيرة ولاماكن قريبة, ليعود إليها رافضا عنها بديلا.
سهل حوران المعطاء, بطبيعته وطيب تربته, وامتداداته لم ولن ينبت سلفية , ولا إرهاب , ولا عصابات, ولا تعصب. لم ولن ينبت حقدا وكراهية ضد أحد. سهل مفتوح ممتد على مدى النظر لا يخفي شيئا, ولا يمكن إخفاء شيء فيه, خلت منه حتى الحجارة والأشواك. سهل تواصل مع الآخرين عبر التاريخ. حسن لقاء وكرم ضيافة. يا لروعة سهل حوران.
إن كان للمجد وقفة هنا وهناك, فله في سهل حوران وعبر التاريخ وقفات ووقفات. لم ينقطع سهل حوران عن جبله واعتز جبله بسهله. وان كانت قسوة الحياة قد أفرغت الجبل منذ عقود من شبابه وقواه الفاعلة فذهبوا في هجرات بعشرات آلاف إلى أمريكيا اللاتينية في هجرات واستيطان, وفي هجرات تكاد تكون نزوحا, لدول الجوار في محافظة مهملة ومعزولة بناها مغتربوها واحيوا مواتها بثمن باهظ جدا: هجر الأهل والوطن. وان كان اليوم, وفي غياب نخبه, يعمل بعض شبيحته على المس بشموخه وبتاريخه, فان العزاء كل العزاء في شباب السهل, والفخر كل الفخر بأحرار السهل. بأحرار درعا ونوى ,وجاسم, وبصر, وبصرى الشام, والشيخ مسكين, والمسيفرة, ومعربة, والحراك, والحريك, والمليحة بفرعيها, وداعل, وأم ولد, بكل القرى الممتدة على طول وعرض السهل الخصيب.
حين هتف شباب درعا للحرية كسروا حاجز الخوف المخيم على سوريا كلها من أقصاها لأقصاها ولعقود طويلة. كان لهتافهم ثمن دفعته حوران كلها ببطولة ورجولة. ودون تردد.
"الموت ولا المذلة" أطلقها أحرار حوران ليس مجرد صرخات في الهواء. وإنما استقبلوا الرصاص بصدور عارية وقدموا مئات الشهداء والجرحى وآلاف المعتقلين رفضا فعليا للمذلة. حُصروا ومزقت وحدة محافظتهم جنازير الدبابات. جاعوا جميعا وجميعا عطشوا, كبارا رجالا ونساء وأطفالا. عاشوا في الظلام. ومع ذلك بقوا يهتفون الموت ولا المذلة. ثارت حوران فثار معها كل أحرار سورية وقدموا التضحيات الجسيمة مئات من الشهداء. هاتفين لدرعا وكل حوران. لان من حوران ودرعا خرج صوت الحرية. وسوف تبقى تردده سوريا وتدفع ثمن ترديده إلى يوم الحرية والكرامة وبناء الديمقراطية.
يذوب خجلا من نفسه وتأنيبا من ضميره كل صامت بقي عنده شيء من ضمير, ويذوب مهانة لم يتجرأ على رفضها, كل متفرج مكتف بلعن الظلم والدعاء على الظالم في سره , متلفظا بغمغمة لا يمكن لأحد أن يفك طلاسمها. كل متخف وراء الأعذار. ومع ذلك لم يند جبين من كان يُنظّر للحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان, من "مثقفين" وباعة سياسة ومواقف إن كان لهم جبين ليندى, أو جبين قابل للرفع, أو كرامة لتجرح, فقد استمرؤوا الهوان والذل ونافقوا عقودا.
دم الشهداء لا يغير لونه كذب أجهزة الإعلام المزيفة للحقائق, التي لا يُخجلها أن الدم المراق هو دم سوري. دم من طالبوا بالحرية والكرامة للشعب السوري بأجمعه, بمن فيه الحرية لهؤلاء الإعلاميين الذين لا حرية ولا كرامة لهم ولا إنسانية فيهم. يكذبون ليل نهار على الشهيد وعلى الشعب وعلى الله. وعلى أنفسهم. كما لا يخجلهم الاستنجاد بجوقة من الدجالين من جيران سورية الذين يبيعون ذممهم للتكسب وتجريب فن الخطابة وبيع البضاعة التي لا ثمن لها حتى في مسقط رؤوسهم. فالشهداء ليسوا شهداءهم, والقضية ليست قضيتهم, والكرامة ليست من صفاتهم. ومن لا خير فيه لبلده لا خير فيه ولا رجاء منه. فهم مع النعماء حيث تميل.
من يعرف أهل حوران أهل "الفزعة" والنخوة, أهل التكاتف والتعاضد لنصرة الحق, يؤمن إيمانا عميقا بان قضية الحرية هي المنتصرة حتما.
نشدوا مجدا, المجد لهم.
د. هايل نصر
التعليقات (0)