في غمرة الدم و الإشلاء و الجروح تطل ذكراك أيها الغالي، لم ننساك و لكننا أُضطررنا مرغمين إلى تأجيل إحياء ذكرى رحيلك إلى المساء، كما ذكرى الكثير من الراحلين بهدوء، رغم ما كان يعتمل في قلوبهم من براكين حزن، حتى نخفي الجرحى و نودع الشهداء.
لقد غسلت الدماء كل ذكرياتنا، فحتى إذا أُزيح هذا الكابوس من على صدورنا يوماً، و هو لن يكون بعيداً، فلن يكون فيها للفرح مكان، فالثمن كان فادحاً، تعجز القلوب عن إدراكه.
لا أحتاج إلى كثير تفكير لمعرفة مكانك لو لم تترجل باكراً، و أكاد أشعر بكلماتك الواثقة، كما كانت دائماً و أنت تلملم بها أشلاء قلوبنا المبعثرة التي عجزت كل الأطر عن صهرها، و كل التضحيات عن تطهيرها، و كل الكلمات عن ربطها.
في كردستان كانت السعلة الأولى، كانت إشارة أكتشفت بها ذلك الوحش الذي تسلل إلى جسدك، حملته معك، و لكنه أبى إلا أن يهده، كما يهد الوحش الأسدي اليوم جسد سوريا و يأبى أن يغادره إلا و قد نال منه، فهو يحيى على دماء السوريين و لا يرتوي منها، و في اللحظة التي سيتوقف فيها عن الشرب، ستجف شرايينه و يتفتت.
في ذات المكان الذي قضيت فيه ردحاً من الزمن، حيث وحشة الزنزانة، و رفقة قضبانها، يتوافد اليوم شباب سوريا، لكنهم يخرجون منها، بأرواحهم الصلبة، كروحك حينذاك، و بقايا أجساد تعطي الأمثولة، كما أعطيت أنت، للإستمرار حتى هزيمة الجلاد.
كنت أرقبك أحياناً و إستغرب إقبالك على الحياة، رغم كل الظلم الذي عانيته، كنت ترافع من أجل غيرك من أجل أبسط الحقوق، و كنت ترافع عن الأمة من أجل بقاءها، و لكنك كنت تربأ بنفسك النزول إلى الصغائر، و إعتبار نفسك قضية قابلة للتداول.
لكن إستغرابي كان يزول عندما تعلمت منك ما الذي تعنيه قوة الإرادة، و الصبر، و المقاومة، بالتالي البناء على هذه المفاهيم من أجل إستمرار الحياة، حتى يحين موعد البناء.
لم أنسى أبداً لحظات الفرح القليلة في حياتك، فهموم الأمة لم تترك للفرح مكاناً، و لكنك كنت تهزأ بالصعاب، حتى ذلك الوحش الذي غزا صدرك، كنت تخاطبه مستهزئأً، تجعلنا نضحك عليه، كما تستهزأ عامودا و حمص و كل سوريا بوحشها و تجعلنا رغم الألم نسخر منه و نضحك، قبل أن نصحو على أجساد جديدة يلتهمها، و أرواح جديدة يزهقها.
أحاول و أنا الذي أعيش في أوربا منذ عقدٍ و نيف أن أكتشف بعض الرقي الذي كنت تتعامل به و أنت في القامشلي مع عائلتك، أصدقائك، و كل من إلتقى بك، و لكن عبثاً. إن كل ما أعايشه هنا هو بعضٌ من حديثك، و كأنك كنت ترى المستقبل و كيف يجب أن تكون الحياة.
و أذكر عندما رزقت بحفيدة كم كانت فرحتك عظيمة، كنت تقول أن الله قد عوضك عن الأبنة التي حرمك منها، و سارعت إلى تسميتها، أسماً كان جزءاً من كردستان، عشباً ينمو على جبالها، و كان كل حديثك عنها، ماذا تفعل يوماً بعد آخر، و كنا نغبطها ـ و ربما كان يفعل أبناءك أيضاً ـ على محبتك.
كنت أخطط لزيارتك عندما أعود، أتخيل الخطوات التي ستقودني إليك، أحاول أن لا أتعثر، أنحني لأضع باقة من الورود إلى جانبك، و لكن الطريق إليك أستاذي ملأه الطاغية بالجثث، أصبح طويلاً جداً، كما لم تعد البلاد تنبت الأزهار، و ما كان منها لم يعد يكفي الشهداء.
تقبل في الذكرى الثالثة لرحيلك، تحياتي، و إسمح لي بشرف الإنحناء أمام ذكراك.
التعليقات (0)