مواضيع اليوم

نسق الأسباب والاستدلالات

فارس ماجدي

2010-05-01 10:41:25

0

 

هل يمكن أن يتحول القرآن الى كتاب تاريخي ..؟

إن موضوع هذه الدراسة بما ينطوي عليه من جرأة غير عادية للقفز فوق ما تراكم من أنقاض كبيرة وكثيرة ،غذاها تاريخ التبجيل عبر مختلف مراحل الزمن المقدس، واللغة المتعالية والمحرمات المتفجرة والمتبعثرة في شتى الأتجاهات والدروب، والتي راحت تضغط على العقل الإسلامي حتى منعته من الحركة ووضعته داخل سياج دوغمائي رهيب، فظل رهين ذلك السياج حتى هذه اللحظة، حبيس رؤى وتصورات شكلته وتعيد تشكيله باستمرار ، أن مسألة تفكيك المناخ العقلي و الفكري برمته للمجتمعات الإسلامية إنما يمر عبر قراءة جديدة ، قراءة تحفر في العمق لتكشف عن تلك المعاني والأفكار القارة والمؤسسة للذات والتاريخ والنسق العام للثقافة العربية الإسلامية، لعل القراءة عن تاريخية القرآن التي نحاولها هنا تأتي في هذا السياق ، ولكنه سياق استدلالي معرفي ، بمعنى أن النتائج التي يمكن التوصل إليها تعلو على تاريخ الحقيقة، و هي بهذا تصدم الوعي بشكل خطر.
إن مكانة العقل مشوشة تماما الآن. ولكن وحدهم الفلاسفة لا يزالون مستمرين في النضال من أجل الحفاظ على أولوية التفكير النقدي المتمركز حول نظام العقول المفترض وجودها ، صراحة أو ضمنا، في كل تركيبة معرفية أو خطاب معرفي ، ونلاحظ أن كل باحث ينغلق الآن داخل جدران اختصاصه الضيق ويدافع عنه وكأنه عرينه الخاص، ثم يقوم بإجراء البحوث ويراكم المعلومات الكثيرة ولكنه دون أن يتوقف للحظة واحدة لكي يتساءل عن جدوى هذه المعلومات أو مغزاها العميق أو الفعل الذي تركته في المجتمع، إنه لا يطرح التساؤل على أسس البحث ذاته ، أقصد الأسس العميقة التي تدفعه للبحث، وإنما يكتفي بآثار المعنى والتصورات، متوهما أنها تشكل المعنى والحقيقة المبرهن عليهما من قبل المنهجية العلمية المعترف بها على المستوى العام.
نحن نعيش الآن على فكرة أن العقل قد تحرر نهائيا من الإكراهات القسرية للتحجر الدوغمائي، لكي يخدم المعرفة لذاتها وبذاتها، وبدى ذلك منذ اللحظة التي تم فيها الفصل بين الدين والدولة ، هذه اللحظة التي توصلت فيها الدولة الى السيادة والحرية ، ولكنها لا تناضل الآن من أجل الفصل بين العقل المعرفي وعقل الدولة ، هذا على المستوى الذي أنخرط فيه العقل الغربي كسياق عام يقود حركة الحياة ، ولكننا نلاحظ بالنسبة للموضوع الذي يهمنا ، أن العقل في السياق الإسلامي تتراكم عليه الإكراهات وتتضاعف، وقد خلق هو بذاته هذه الإكراهات لنفسه عندما كان يناضل من أجل الاستقلال المعرفي.
في الواقع يهمنا هنا السياق الذي قرئ فيه القرآن أي السياق الإسلامي، إن مهمة الباحث تكمن في أشكلة كل الأنظمة المعرفية والفكرية التي تنتج المعنى، وكل الصيغ التي اختفت ولا تزال حية والتي تنتج بدون تميز المعنى وآثار المعنى ، ينبغي أن ننظر الى القرآن نظرة متجاوزة كيف؟
إن هذه الكلمة القرآن مشحونة الى أقصى حد بالعمل اللاهوتي والممارسة الطقسية الشعائرية الإسلامية المستمرة منذ مئات السنين ، الى درجة أنه يصعب استخدامها كما هي ، فهي تحتاج الى تفكيك مسبق من أجل الكشف عن مستويات المعنى والدلالة كانت قد طمست وكبتت ونسيت من قبل التراث التقوي الورع، كما من قبل المنهجية النصانية أو المغرقة في التزامها بحرفية النص. وهذه الحالة لا تزال مستمرة منذ زمن طويل ، أي منذ تم الأنتقال من المرحلة الشفهية الى المرحلة الكتابية ونشر مخطوطة المصحف المنسوخ باليد ثم المطبوع ، لنسم هذا القرآن هنا بالخطاب النبوي أي ذلك الخطاب الذي يقيم فضاء من من التواصل بين ثلاثة اشخاص قواعدية ، أي ضمير المتكلم الذي ألف الخطاب المحفوظ في الكتاب السماوي ، ثم الناقل بكل إخلاص وأمانة لهذا الخطاب والذي يتلفظ به لأول مرة أي ضمير المخاطب الأول ــ النبي، ثم ضمير المخاطب الثاني الناس ، والمقصود بالناس الجماعة الأولى التي كانت تحيط بالنبي والتي سمعت القرآن لأول مرة، لقد كانوا يقمون برد فعل عفوي على هذا الخطاب عن طريق الموافقة والتصديق أو الفهم أو الرفض أو الدحض ، أو طلب الإيضاح والإستيضاح، سوف نعود لهذا التحليل النفسي الاجتماعي اللغوي لاحقا لهذا الخطاب النبوي، ولكن دعونا الآن نستمر في خط السير السابق لنحلل ذلك من خلال المحاور التالية: ـ القراءة التاريخي ـ إن موضوع البحث الذي نحن بصدده هو عبارة عن مجموعة من العبارات الشفاهية في البداية ، ولكنها دونت كتابة ضمن ظروف تاريخية لم توضح حتى الآن أو لم يكشف عنها النقاب، ثم رفعت هذه المدونة الى مستوى الكتاب المقدس بواسطة العمل الجبار والمتواصل لأجيال من الفاعلين التارخيين، واعتبر هذا الكتاب بمثابة الحافظ للكلام المتعالي لله، والذي يشكل المرجعية المطلقة والإجبارية التي ينبغي أن تتقيد بها كل أعمال المؤمنين وتصرفاتهم وأفكارهم، يوجد في هذا التحديد المختصر لموضوع هذه الدراسة ـ أي القرآن ـ تكثيف لمجموعة من المفاهيم الفعالة والمشاكل التي لا تزال تنتظر توضيحات موضوعية بما فيه الكفاية، وأقصد بها توضيحات قائمة على المحاجات العقلية، وشاملة بما فيها الكفاية لكي تفرض نفسها لاحقا ليس فقط على جماعة الباحثين المفكرين، وإنما أيضا على تلك الفئة من المؤمنين التي تضع نفسها في خانة المؤمنين الملتزمين بالطقوس والشعائر ، إن هذه النقطة حاسمة كي نخرج أخيرا من ذلك العقل العلمي المتعجرف الذي لا يفسح أي مجال لكلام المؤمنين، هذا العقل الذي يفسر ويجزئ موضوعه ويصنف ويحاكم دون أن يكشف فعلا عن الآليات الخفية للإيمان أو عن رزوحه المهيمن وآثاره ودلالاته ، أقصد الإيمان الكائن لدى كل ذات بشرية والمفروض أنه ينبغي على الباحث المفكر أن يدمج في حقل دراسته التحليلية كل ما يقال ويعاش ويركب وينبثق داخل السياج الدوغمائي، إن الباحث العلمي إذ يرفض اليوم الدخول في المختبرات الفوارة بالحياة والاحداث العظمى يعني أنه يحرم نفسه أو يحرم العلوم الاجتماعية من معطيات أساسية وضرورية من أجل تجديد مواقعها النظرية واستراتيجيات تدخلها العلمي ، وأقصد بالمختبرات الفوارة بالحيلة تلك المجتمعات التي جبلتها الثورات الدينية أو حرثتها في العمق.
كانت المدرسة الإسلامية تضغط دائما بالمحرمات على الدرسات القرآنية وتمنع الاقتراب منها أكثر مما يجب ، وهذا أمر طبيعي لأن القرآن يمثل قدس الاقداس، وبالتالي تطبيق الدراسة العلمية يعتبر تدنيسا وكفرا وذلك لأن الدراسة العلمية سوف تكشف عن تاريخيته في نهاية المطاف وسوف تربطه بظروف عصره الذي ظهر فيه وهذا ما يحاول المسلمون طمسه خشية من المشاكل التي سيجرها الى المنظومة الكاملة (وهذا ما حصل تماما في الجهة المسيحية الأوروبية عندما درسوا الأنجيل دراسة علمية نقدية تاريخية ، والكشف عن تاريخية شخصية ياسوع وقد هاج الوعي المسيحي برمته )، وقد سهل على المستشرقين في المرحلة في المرحلة السابقة أن ينتهكوا هذه المحرمات أكثر مما يسهل علينا اليوم لأن العقل العلمي في ذلك الوقت كان في أوج انتصاره ، وهكذا نجد أن المعركة التي جرت من أجل تقديم طبعة نقدية محققة عن النص القرآني لم يعد الباحثون يواصلونها بنفس الجراءة كما كان عليه الحال في زمن نولدكة وبلاشير ، وذلك خوفا من الأصولية الإسلامية المتشددة وهذه الطبعة النقدية تتضمن بشكل خاص تصنيف زمني للسور والآيات من أجل العثور على الوحدات اللغوية الأولى للنص الشفهي ،( لقد كشف نولدكة أن القرآن مرتب بعكس تاريخ النزول ثم حاول أن يتوصل جاهدا الى التسلسل التاريخي الحقيقي للآيات والسور وهذا عمل في غاية الصعوبة ولا هنا أن آيات بعض السور محشورة في سور أخرى فحاول إعادتها الى سياقها الأصلي) ولكن من أجل تحقيق القرآن لم تفقد اليوم أهميتها العلمية على الإطلاق وذلك لأنها هي التي تتحكم بمدى قدرتنا على التوصل الى قراءة تاريخية أكثر مصداقية لهذا النص ،( بمعنى أنه ما دمنا لم نتوصل بعد الى نسخة محققة للقرآن فإن قراءتنا التاريخية له ستظل ناقصة) أقصد قراءة أقل اعتمادا على الظنون والفرضيات والبحث عن الاحتمالات ، يبدو لي هنا أنه من الأفضل أن نستخلص العبر من الحالة اللامرجوع عنها والتي نتجت عن التدمير المنتظم لكل الوثائق الثمينة الخاصة بالقرآن ، اللهم إلا إذا عثرنا على مخطوطات جديدة توضح لنا تاريخ النص وكيفية تشكله بشكل أفضل. ولكن هذه احتمالية مستبعدة جدا الآن وإن لم تكن مستحيلة ، وقد تكون هذه الحالة نتجت أيضا عن قلة اهتمام المعاصرين ( بمعنى أن المعاصرين لزمن للقرآن لم تكن المعرفة التاريخية هي شغلهم الشاغل كما هو حاصل الأن. كانت المعرفة الأسطورية أو الخيالية القائمة على حب التضخيم والمبالغة هي المسيطرة على وعي الناس ) بكل ما أصبح أساسا بالنسبة للمعرفة التاريخية الحديثة ، ولكن هذه المعرفة لم توسع من أرضيتها ولا أسئلتها إذا ما حكمنا على الأمور من وجهة نظر الدراسات الحديثة. إننا نعلم أن مادة البحث أي القرآن تتطلب تطبيق كل المناهج عليها من أجل تفكيكها إنها تتطلب ليس فقط المنهجية التاريخية ، إنها تتطلب التدخل على كل مستويات إنتاج المعنى وآثار المعنى من أجل توضيح ملابسات هذا النص المؤسس، وعندما أقول آثار المعنى فإننا نقصد بها تلك الناتجة عن النص المدروس كما تلك الناتجة عن كتابة الباحث نفسه، كما تلك المنتشرة داخل الأمة المفسرة، ـ نأخذ المشكلة من جديد ـ نحن هنا أمام نص هو النص القرآني الذي تكمن مهمته الأولى المسجلة في طريقة صياغته اللغوية في أن يقول المعنى الصحيح والحقيق عن الوجود البشري. وتكمن مهمته أيضا في النص على القوانين الموضوعية، والمثالية والمقدسة والتي لا يمكن تجاوزها. ويطلب من المؤمن التقيد الصارم بها من أجل الحفاظ على وجوده داخل المعنى الصحيح والحقيقي هذا فيما يخص النص التأسيسي الأول ، ولكن تفرعت عنه نصوص ثانوية تتجلى وظيفتها في صياغتها اللغوية أيضا، كأن يقول المفسرون والخطاب الشائع: يقول الله ، أو قال تعالى، أو جاء في الحديث، ... ويقصد بالنصوص الثانوية كل النصوص الأخرى ما عدا القرآن والحديث،كالتفسير والفقه والتصوف وعلم الكلام والتصوف ..الخ وهي نصوص تعلق على النص المؤسس أي القرآن وتشرحه، وبما أنها تفعل ذلك فهنا تكمن المشكلة الكبرى إذ تظن أن كلامها يتمتع باستمرارية تواصلية معه وبالتالي فله قدسسيته أيضا ، فهم يستمدون قدسيتهم من قدسية القرآن طيلة الوقت، وهكذا يتم خلع القدسية على الوجود كله، وتكمن وظيفة هذه النصوص الثانوية في تأبيد وهم التواصلية المعاشة والمكثفة في التراث الحي الخاص بالأمة المؤمنة ، إن تأبيد هذا الوهم يتم ضمن المدة الطويلة للتاريخ ، وهكذا نجد أن النص القرآني هو عبارة عن بنية محركة للوجود ومترجمة الى تجسيدات وجودية عديدة ومتغيرة، (أقصد أن القرآن يحرك الوجود في كل جيل لأن كل جيل يقرؤه ويفسره ويستمد منه المعنى ويعيش عليه. وبالتالي فلا يمكن اعتبار القرآن كتابا ذا قيمة تاريخية فقط ، فما دام يؤثر على عقول الناس وسلوكهم عن طريق أداء الطقوس والشعائر وعن طريق تلاوته فسوف يظل حيا محركا للوجود إلا إذا انتصرت العلمانية في الفضاء والفكر العربي فسوف يتحول إذ ذاك إلى كتاب تاريخي).
لنلقي نظرة الأن على إنجاز جاكلين شابي قي هذا المجال على أني سوف أعمق تحليلها كثيرا للوصول الى نتائج غاية في الأهمية والخطورة،إن شابي تقدم في كتابها عن الدراسات القرآنية المثل العملي المحسوس على إمكانية تحقيق طفرة نوعية، أبستمية وابستميولوجية، إنها ترسم حدودا لا يمكن اختراقها بين القانون المعياري لمهنة المؤرخ من جهة وبين مجال الفكر الإيماني والمعرفة الإيمانية من جهة أخرى، ولكن على الرغم من ذلك فلها ميزة القيام بدمج هذا المجال الموضوع منهجيا على حدة داخل أرضية التحري والبحث التاريخي ، وينتج عن ذلك تقدم حقيقي ليس فقط في الكتابة التاريخية ذاتها، وإنما بشكل خاص في الكشف عن المجريات اللغوية والتاريخية لمنشأ هذا الإيمان الذي سوف يصبح المصدر الذي لا ينفد، والمحرك القوي دائما لكل العمل الجماعي للإسقاط العقلي على هذه اللحظة التدشينية، (ي أن شابي دمجت القرآن داخل الدراسة التاريخية وطبقة هذا المنهج العلمي بكل صرامة وبذلك كشفت عن كيفية انبثاق الإيمان الإسلامي من السياقات اللغوية والتاريخية المرافقة، وهكذا درسة مفردات القرآن بدقة متناهية وربطتها بظروف عصرها للتوصل الى ذلك) كما وسيصبح المصدر الذي لا ينفد للتضخيم الاسطوري والإيديولوجي والمعنوي والدلالي والابداع الفكري والمؤسساتي والفني، وكلها قضايا لا تزال مفتوحة تتواصل وتتعقد وتتشعب تحت أعيننا حتى اليوم ، إن المؤرخ الحديث أصبح يستولي عليه اليوم مفاهيم مثل الاسطورة والمخيال الاجتماعي ، وهو يقوم بالتحليلات النقدية والجدليات التحويلية لتحدث تغيرات مختلفة تنعكس في الآيات المكية المعادة بكل ذكاء وعناية الى سياقها الطبيعي ، وهذا يعني في ذات الوقت أنها محررة من المعاني الزائدة أو الإضافية التي تسقطها عليها القراءات (التقوية) اللاحقة وهكذا نتتبع لحظة بلحظة التشكيل الاستهلالي أو التدشيني العفوي لعقلانية فوق قبلية أي تتجاوز القبائل، كما ونتابع ولادة جهاز مفهومي وليد وترسيخه في في الاستخدام اللغوي لفئة اجتماعية محددة، وكذلك في عقائدها وحكاياتها التأسيسية والبطولية، وهذه الفئة الاجتماعية المحصورة والمحدودة العدد في البداية يدل عليها بأسماء مثل أناس، عشيرة، قوم، وهي مستهدفة من خلال القرآن بصفتها الفئة التي يوجه إليها الخطاب ، والتي ستصبح شيئا فشيئا الخصم الجدلي والعامل غير الإرادي الذي أدى الى التحول التاريخي ، ومن المعروف أن هذا التحول قد حورب ورفض في مكة قبل أن يفرض نفسه في المدينة مع النبي المسلح بشكل مزدوجبمعنى أنه اضاف السلاح العسكري الى السلاح الأوليي الذي كان يمتلكه منذ البداية : أي سلاح الكلام الكاشف أو كلام الوحي ، فيما بعد راحت القراءة الإيمانية التي حققها أوكشف عنها الباحث الحديث من خلال الحفر المعرفي تحول هذه الأحداث بالذات الى أبطال حكاية تأسيسية واسعة ودائمة ( المقصود بالابطال هنا الشخصيات المتصارعة داخل الحكاية أو ملحمةالتأسيس، وهم أولا المعارضون في مكة ثم المؤيدون في المدينة، وهذا ما تعبر عنه اللغة الإيمانية بمصطلحاتها المعروفة ـ كافرون أو منافقون/ ضد المهاجرون والأنصار،إن ملحمة التأسيس البطولية تحتاج هي الأخرى الى نفس الحفر الأركيولوجي من أجل التمييز بين الحقيقة التاريخية والاجتماعية من جهة وبين التهويلات والتضخيمات الأسطورية اللاحقة من جهة أخرى . وهي تضخيمات يقوم بها المخيال الديني بالطبع.
هكذا نجدأن جاكلين شابي تتجاور الصرامة العلمية للمنهجية التاريخية ـ النقدية التي كانت قد فرضت أحكامها منذ مدة طويلة ، وفرضت تقسيماتها الزمنية وتحديداتها للواقع أو للموضوع المدروس ، كما وفرضت نزعتها المعروفة في البحث المهوس عن أصول الكلمات ، كما وفرضت هذه المنهجية المعروفة هوسها في البحث عن أصول الأفكار أو تسلسل نسبها عبر العصور وحتى اليوم وهي إذ تفعل ذلك تنسى السياق الحي للمجتمعات التي انشرت فيها هذه الأفكار ، وهو سياق الحاضر الذي يضج بتفاعلات الحياة والإبداع، أقول ذلك وأنا أفكر في اختزال القرآن الى مجرد المصادر التوراتية والعبرانية فهي لا تدرس أفكاره لذاتها وبذاتها أي من خلال تفاعلها مع بيئة شبة الجزيرة العربية في تلك الفترة ومع الأحداث الجارية في المجتمع ، فهي تعيد كل فكرة أوكل قصة الى أصلها في التوراة أو الأنجيل أن هذه الدراسة مهمة ولكنها ليست كافية لأنها لا تضيء لنا الجوانب الأخرى والأكثر أهمية، لا ريب في أن الباحثة قد حافظت على هم الدراسة او خطها البحثي ولكنها أغنتها وأخصبتها عن طريق المكتسبات المنهجية والمصطلحية التي قدمتها الألسنيات الحديثة. ومن أهم هذه المكتسبات ذلك التمييز الذي تقيمه الألسنيات بين النص الشفهي والنص ذاته بعد أن يصبح مكتوبا، فهناك أشياء تضيع أو تتحور أو تتحول أثنا عملية الأنتقال تلك ، ومن هذه المكتسبات أيضا التخلي عن الهوس في البحث عن أصول الكلمات والأفكار والقصص وإحلال الحقول المعنوية وشبكات ضلال المعنى أو المعاني الحافة التي تحيط بالنص ، وكل ذلك يتم بفضل التحليلات المجهرية الدقيقة والصبورة، وهي تحليلات تمزج بين الحفر المعرفي عن معاني الكلمات والتحري العرقي اللغوي ، وربط الكلمات القرآنية أو إعادة ربطها بالسياق البيئي والأجتماعي والثقافي والسياسي لتلك الفترة ويتم ذلك عن طريق استخدام المصادر التاريخية المتاحة. وهي مصادر معروف تماما مدى هشاشتها ونقصها ، ثم على شكل أخص نعرف مدى العمليات التحويرية التي تعرضت لها،ونقصد بها عمليات التنكير والتقنيع والحذف والزيادة والأنتخاب ثم التحوير، ثم التصعيد والتسامي، ثم جعل الأشياء متعالية وجوهرية ومقدسة ومؤسطرة ثم أدلجتها اليوم بشكل فظ خشن، هذه هي القراءة القديمة التي يجب أن تحل محلها القراءة الجديدة التي تتبع منهجية تأخذ بعين الأعتبار الجدليات الأجتماعية وتأثيراتها على العلاقة بين اللغة والفكر . لأن القراءة القديمة تجمد هذه الجدليات وتتجاهلها عن طريق تحويل الأفكار المتحركة والتصورات العابرة والعرضية وآثار الحقيقة وعلاقات القوى المؤقته والتحديدات الوظائفية أو الأعتباطية الى جواهر خالدة وماهيات مقدسة لا تمس وحقائق متعالية تتعالى على كل تدخل بشري . اذا كنت قد توسعت قليلا في الحديث عن هذه الباحثة فلآنها تقدم مثالا مقنعا وواضحا على الأولوية المنهجية للقراءة التاريخية ثم على محدوديتها أيضا أوحدودها فهي قد أثبتت فعاليتها ونجاحها أثناء تطبيقها على النص الديني ،إن المؤرخة استطاعت أن تثبت تاريخية القرآن عن طريق التمحيص التاريخي الدقيق، وقلبت بالتالي من مكانته المعرفية وقدسيته، فبعد أن كانت قدسيته متعالية أصبحت أرضية واقعية ، وهذا شيء خطير جدا وصادم بالنسبة لحساسية كل مسلم، حتى ولم لم يكن مؤمنا هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فنحن نعرف أن القرآن أتخذ على مر العصور مكانة متعالية جدا وكان يقدم المعنى الأخير والحقيقة المطلقة فكيف نوفق بين المكانتين المعرفيتين للقرآن؟.

القراءة الألسنية والسميائية والأدبية
لم تعط هذه القراءات أبحاثا ريادية تأسيسية تجديدية كما فعلت القراءة التاريخية، من المعلوم أن علم السيميائات أو الدلالات قد شهد فورة عارمة في الفترة الأخيرة من القرن العشرين ولكنه لم يجد ثمة أرضية له في التطبيق على القرآن وذلك للخشية والخوف من ردة الفعل المشحونة بكل الأحتمالات الممكنة لأي باحث يقدم على ذلك، أما فيما يخص القراءة الأدبية، من المعروف أن نظرية المجاز وكل تلك الأدبيات التبجيلية الغزيرة التي كتبت حولها لا تزال تضغط على كل المفكرين المسلمين حتى اليوم، ولكنهم ينسون أو يتناسون أن التيار المعادي للمجاز، كنظرية خلق القرآن قد استطاع أن ينتصر في النهاية، بدء من القرن الرابع عشر، ( مسألة المجاز خطيرة جدا ولها انعكسات لاهوتية مهمة جدا ، فإذا قلنا بأن القرآن يحتوي على المجاز فإن ذلك يعني تعطيل بعض الأحكام أو تأويلها لأنها واردة على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقية ، وإذا قلنا أن كل ما فيه حقيقي وينبغي أن يؤخذ على حرفيته فإن ذلك يعني تطبيقه تطبيقا حرفيا ، في الواقع ، اللغة المجازية تخترق القرآن من أوله الى آخره ولكن المفكرون المسلمون لا يعترفون بذلك على الأطلاق ويقولون بأن كل ما هو وارد فيه ينبغي أن ينفذ على حرفيته، وهذا ما أوقع الدراسات اللاحقة في مشاكل كثيرة وكبيرة، ). وهذا الشيء يفسر لتا سبب انتصار القرءات الحرفية للقرآن وانتشارها في كل مكان الآن، إن الدراسات المختصة بالبلاغة العربية والنقد الأدبي العربي لا تهتم كثيرا بدراسة الأنعكسات الأيجابية والسلبية لذلك الضغط المستمر الذي تمارسه المسلمات اللاهوتية على كل مقاربة ألسنية او دلالية للنص المقدس، ( بما أن نظرية القرآن غير المخلوق قد انتصرت وترسخت بعد هزيمة المعتزلة والفكر العقلاني في الساحة الإسلامية فإنه لم ممكنا أن نرى القرآن في ماديته اللغوية البحتة كأي نص مشكل من حروق وكلمات وتراكيب لغوية وتقديم وتأخير وألفاظ حرفية وألفاظ مجازية إلخ .. لا أصبح القرآن نصا لا كالنصوص على الرغم من أنه مكتوب بلغة بشرية، بهذا المعنى فإن نظرية الإعجاز هي عقيدة لاهوتية أو مسلمة لاهوتية مفروضة فرضا على الوعي وليست نظرية في النقد الأدبي. منذ الجرجاني مرورا بكل الذين أتبعوه الى اللحظة الراهنة). من بين الأشياء الأيجابية يمكن أن نذكر إمكانية التمتع بشكل متزامن وعلى المستوى العميق للوعي الذي لا ينفصم بثلاثة أشياء دفعة واحدة : الأنفعال الروحيي والجمال الأخلاقي ومتعة النص المقروء أو المتلو، إن إحدى الخصائص الأساسية التي تميز الخطاب النبوي هي أنه يمزج دائما وبشكل حميمي بين هذه القيم الثلاث : قيمة الحق والخير والجمال، وذلك لكي يجعل الذات البشرية تعتنق الطوباوية المنقذة بسهولة أكثر وهذا ما كان يفعله الأدب الإغريقي القديم قبل ظهور العقلانية المركزية الأرسطوطاليسية وانتصارها ، يضاف الى ذلك أن النصوص الدينية التأسيسية لا تفقد أبدا مكانتها الأولية عندما كانت عبارات شفهية لم تجمد عن طريق الكتاببة فيما بعد ، فهي مستبطنة من قبل كل مؤمن من خلال التراتيل الشعائرية والسلوك الطقسي، والأستشهاد بها في الأحاديث الجارية، وإذا فحتى مفهوم النقد الأدبي ذاته ينبغي علينا أن نعيد بلورته أو اشتغاله من جديد، لكي لا ننقل المنهجيات والإشكاليات المطبقة على الأدبيات الحديثة كما هي ونطبقها بشكل تعسفي على الخطاب الديني ، ولكن فيما وراء الخطاب النبوي أو فيما عداه ما هي المكانة التي يمكن أن نحددها مثلا لذلك الإنتاج الضخم الذي خلفته الكتبات الدينية المتفجرة والمتبعثرة التي تمشي بكل الدروب وفي كل الإتجاهات، .

القراءة الإيمانية
إن القرأءة هذه تظل تتمحور حول التراث الإسلامي الكلاسيكي داخل سياجيها الدوغمائي المغلق واقصد بهذا المصطلح مجمل العقائد الدينية والتصورات والمسلمات والموضوعات التي تتيح لنظام من العقائد واللاعقائد أن يشتغل بمنأى عن كل تدخل نقدي سواء من الداخل أو من الخارج فالمؤمنون المسجونون داخل السياج الدوغمائي يتبعون استراتيجية الرفض، وهي تستخدم ترسانة كاملة من الإكراهات والمجريات الاستدلالية والشكلانية التي تتح المحافظة على على الإيمان أو تجييشة وتعبئته.إن الإنسان المنغلق داخل هذا السجن العقائدي يشعر بمتعة عظيمة لأنه يعيش حالة أمان وإطمئنان داخله، ويكتفيي أن تتحدث مع أي مؤمن لكي تفهم آلية اشتغال الأيمان لديه أي السياج المغلق فهو يردد نفس العقائد ونفس الحكايات والأساطير والقصص التبجيلية أو المعجزات الخارقة للعادة ، ويشعر بمتعة عظيمة أو عصبية كبيرة وهو يؤمن بكل ذلك وأحيانا يكون مستعد للتضحية بنفسه من أجل عقيدته تلكالمغلقة على ذاتها.
إن القراءات الإيمانية إن القراءة الإيمانية للنصوص التأسيسة هي في ذات الوقت إمكان أو محطات لانبثاق المعنى أو اندلاعه هي كذلك امكان لانبثاق آثار المعنى والتصورات والتركيبات الاسطورية أو الأيديولوجية، وذلك طبقا لنوعية الفئات الاجتماعية وأنماط الثقافة المستخدمة ومستوياتها. وهذا الأمر ينطبق على القراءات الإسلامية القديمة التي قدسها الزمن المتطاول قليلا أوكثيرا ،كما ينطبق على القراءات المعاصرة ، هناك إذا نوعان من النصوص ، النصوص التأسيسية الأولى المتمثلة بالقرآن والتي أضيف لها الحديث لاحقا، وهناك النصوص التفسيرية التي تعلق على الأوبى وتشرحها، وهناك علاقات وظائفية شغالة كائنه بين النص الرسمي الناجز والمغلق( القرآن والحديث) وبين النصوص التي انبنت عليها وفسرتها، وهذه العلاقات لا تختلف في شيء سواء أكان الأمر يتعلق بالنصوص الدينية السائدة في المجتمعات الدينية أو السياسية اي التي شهدت ثورات سياسية، فالعلاقات هنا وهناك تشتغل بنفس الطريقة، ولكن النصوص المؤسسة للمجتمعات الحديثة تتمتع بوضوح تاريخي وأدوات تحليلية تستبعد أي لجوء للسر أو المجهول أو ما هو خارق للطبيعة المتعالي المقدس المثير. ومن المعلوم أن عمليات التقديس وخلع الطابع المجازي أو الخيالي الجميل على الأشياء، وعمليات التسامي والتحوير والأسطرة والمخاتلة تعتمد عليها ، وفي كلتا الحالتين ينبغي على الباحث أن يحدد نمط العقل الشغال هنا أو هناك ( فهناك العقل القواعدي النحوي وهناك العقل اللاهوتيي والعقل التشريعي، والعقل التاريخي والعقل الفلسفي ..الخ، هناك أنماط عديدة من العقل. وينبغي عليه أن يحدد أيضا نمط العقلانيات والمخيال المنتج والمتولد، وكذلك طرائق تدخل الخيال الخلاق كما هو عليه الحال لدى المفكرين المبدعين
إن الدراسات الإسلامية تعاني من فقر معرفي كبير،فلا يزال المسلمون يفرضون على أنفسهم الكثير من أنواع البتر والردع والمحرمات ، الى حد أنهم يصابون بالشلل المعرفي أو الفكري ، وهذا ما يزيد من تبعيتهم ومن تأخر الدراسات التي قدموها عن القرآن في آن معا، فدراساتهم تلك منذ القرن التاسع عشر ليس لها أهمية كشفية أو معرفية بقدر ما لها أهمية وثائقية ، بمعنى أنه لايمكن أن نستفيد منها لفهم القرآن وإضاءته من الداخل إضاءة علمية، وإنما من أجل فهم عقليتهم أو كتابة تاريخ لعلم النفس الديني لديهم، كما ويمكن استخدامها للتعرف على التوسعات الخيالية والشطحات الهائلة للخطاب الديني في شتى أنحاء العالم الإسلامي وخاصة في المجال السياسي، ولا يمكن استخدامها من أجل إغناء معرفتنا بالظاهر القرآنية والظاهر الإسلامية ثم عبر كليها.


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !