نسرين طرابلسي ؛ بروفة " البولشوي " الموشومة بالبراعة
المجموعة القصصيّة : بروفة رقص أخيرة
للقاصّة السوريّة : نسرين طرابلسي
قراءة : سعد الياسري
تقديم :
ليس ثمّة ما هو أكثر إبهاجًا من القول – بعد الانتهاء من كتابٍ ما – بثقةٍ : ياله من كتاب جيّد ! وهذا ما همستُ به لنفسي بعد أن كنت قد هيّأتُ مجلسي في الصّفّ الأوّل لمسرح القاصّة (نسرين طرابلسي) كي أتابعَ و بعناية بالغة (بروفتها) الضّالعة بممارسات خطرة من قبيل (الاحتراف | التشويق) ، والموشومة بمِيسم راقصي (البولشوي) البارعين .
نعم ؛ هذا ما كان مع المجموعة القصصيّة (بروفة رقص أخيرة) الواقعة في 200 صفحة من القطع المتوسّط ، و الصّادرة في عام 2008 عن (دار المدى) في دمشق | سوريّة .
عن نباهة القاصّ .. أو مأزق القارئ :
بعيدًا عن كلاسيكيّات درجنا عليها ؛ تعيدنا إلى الجذور كلّما تحدّثنا عن القصّة القصيرة ، و تؤرجحنا بين (معطف غوغول) و (قطّ إدغار آلان بو) . و بعيدًا عن الرّغبة في الحصول على إجابة (مطلقة) سأتساءل : لماذا يروقنا عمل قصصيّ ما ؟ و سأجيب : بسبب العناصر السحريّة ، و أهمّها التشويق محصّنًا باللّغة والفكرة و الانحياز إلى الفنّيّ و العالي و التبشير بهدف ما . و لماذا يخفق عمل قصصيّ ما ؟ و أقول : بسبب المصائد و الكمائن ، و أخطرها الإغراء الذي تمارسه فكرة كتابة (قصّة قصيرة) . إنّ حمّى الإغراء هذه لمْ ينجُ منها كثيرون ، حيث أتلفتْهم (التجربة) حين لم يقتنعوا بأنّ (الموهبة) متن لا هامش في هكذا مسائلَ جادّة .
و (نسرين طرابلسي) تدرك تمامًا كلّ هذا ، فلا تُخِلّ – إلاّ ما ندر – بشيءٍ منه . و بوسعي أن أدلّل على صحّة رؤيتي عبر ثلاثة نصوص تعبّر عن علوّ القيمة و الإشراق الفذّ و التشويق الماهر . و ثلاثة غيرها تعبّر عن العادي .. والذي من الصّعب تجاهله و اعتباره طبيعيًّا .
في ثلاثيّة العالي نجد : (المهرة يا سيادة القائد) و (قضيّة خاسرة) و (بروفة رقص أخيرة) . ثلاث قصص هنّ – بحسب ما أرى – فحوى الاحتراف . ليس من منفذ إلى اقتناص ما هو غير جميل و نفيس الصّنعة بهنّ . ثمّة لغة عالية ، و بناء محكم ، و شروط محترمة ، و توظيف محسوب للفكري و الدّيني و النّفسي و الفلسفي و الاجتماعي و التّراثي و الثّقافي و بالطّبع السّياسي بتلميح معقول .
أمّا في ثلاثيّة العادي فنجد : (لقاء افتراضي على أرض عربيّة ) و (سكّان الطّابق العاشر) و (المقاس سبعة و ثلاثون) . ثلاثة أعمال من الصّعب مقارنتها بالثلاثة الأولى . ثمّة حاجز مرعب بين النصّ و القارئ . كأنّ الاختلاق في جرّ الأحداث إلى نهايتها المرتّبة فاق الانسياب الحرّ و المأمول . كأنّ الرّوح الوامضة التي أشعلتِ الصفحاتِ في (البروفة) استكانتْ وهدأتْ في (اللّقاء) .
على أنّ هذا ليس كلّ شيء ؛ فمجموعة (نسرين طرابلسي) ثريّة و مترامية الأحداث و الأفكار . نعم ؛ هي وفيّة لشروط القصّة القصيرة ، و بالغة الرّهافة في اعتبارات السّرد و البناء الحكائي ، لكنّها تحاول – ككثيرين غيرها – الانتصار على ما أحبّ تسميته (مأزق القارئ) . فهذه المحاولات تتمحور حول فكرة مفادها أنّنا يمكن أن نطوّق القارئ ونجبره على تذوّق (الجيّد) من أعمالنا حين نُجلسه على مائدة (المنوّع) ، فلا يملّ من واقعيّة هنا و لا يضجر من فنتازيا هناك ، لا يغيب في سراب روحيّ يسود هنا و لا ينفر من برودة النّصل الحادّ هناك . هذا المأزق أجبر (نسرين طرابلسي) على تقديم عمل يمكنني أن أصف بعض جوانبه بـ (متحوّل القيمة) . و هو ما أثّر بشكل أو بآخرَ على براعة و انسياب ما وصفناه أعلاه بـ (العالي) ؛ حين تمّ الزجّ بما وصفناه بـ (العادي) ، وصولاً إلى (البارد) الغريب عن أجواء المجموعة .
بالمحصّلة ؛ أقف باعجابٍ أمام نباهة و وعي الأسلوب السّردي عند (نسرين طرابلسي) ، و أثمّن كتابتها التي أراها تؤسّس – بثقةٍ و فاعليّةٍ – لأجوائها الخاصّة .
مأخذ :
على عكس (ريكور) الذي يرى – أبستمولوجيًّا- في كتابه اللّطيف (من النّصّ إلى الفعل ص 139) أنّه : (لا وجود لمنهجيْ الشّرح و الفهم ؛ بل الشّرح فقط ، فيما تتشكّل لحظة الفهم معه) ، أؤمن بعبارة : (لا نقد أو شرح إلاّ بعد فهم) . و لتوضيح مأخذي هذا ؛ سأتساءل : كيف يمكنني و بأيّ معيار نقديّ منصف ، أن أقارن جلّ نصوص المجموعة الموغلة في الاكتمالات و الجودة مع نصّ بارد مثل (قصّة مثيرة للجكر) ؟ أو مع آخرَ لم أفهم منه شيئًا مثل (مَهمّة فاشلة لملاك) ؟ و هو النصّ الذي ذيّلته القاصّة بعبارة : (ربّما لم يكتملْ بعدُ) و أقول بتجرّدٍ : نعم ؛ لم يكتملْ .
عن الشّخصيّات .. عن الرّاقصين المَهرة :
تروقني قوافل الكرنفاليّين المحكومة بالتّرحال . قوافل تحتضن السّماسرة الجوّالين ، و لاعبي السّيرك ، و المطربين الشّعبيّين ؛ حيث يقومون بصناعة عالم شهيّ الطقوس ، واضح القوانين ، صاخب العبور في كلّ قرية أو مدينة يمرّون بها . و (نسرين طرابلسي) من مشجّعي هذه الطّقوس الخاصّة و المنظّمة بدقّة . فهي تدير المهرجان ؛ و تعلم تمامًا أين تضع قدميها لتوقف قدميْ شخصيّتها الكرنفاليّة بجوارهما . هي تجيد الاستفادة من موهّبتها (الصّلصاليّة) المرنة في خلق الطّريّ و اليانع من هذه الشّخصيّات عالية التّأثير في المتلقّي .
فنجدها تقول بفنٍّ صافٍ : (حُرّيّة) و لتكن (معابة) ؛ إنّما دون هتاف عنتريّ أو شوارب من أجل الشّعارات [انظر : المهرة يا سيادة القائد] ، و ترينا بلا مكياج أنّ الحياة دوّامة لا تنتهي من الكذب اللّذيذ و المكلف ربّما [انظر : فتوحات أوّل كذبة] ، و لا تنسى أن تذكّرنا بعبء الأسطورة و الحاجة دومًا إلى عدوٍّ كما إلى بطل [ انظر : مخلوق] ، فيما تلج إلى السّحيق من غرائزنا و انتهازيّة أرواحنا ؛ تحت شعار : الحيّ أبقى من الميّت [ انظر : علامة فارهة] ، إنّها تنتقم لكلّ أنثى ضاع حقّها و لم ترتعشْ جرّاء اللّهب و النّشوة [انظر : قضيّة خاسرة] ، و تعرف متى تقول : لا ؛ لديّ ما أنجزه ، لديّ ما أودّ فعله بشكلٍ آخر [انظر : الأرض الواطية] ، و تحلم بمجتمعٍ أقلّ مرضًا .. بشرطيٍّ رشوته كتاب أو قصيدة [انظر : المستثنى بالقراءة] ، و تسكب الوجع المراهق في أحداقنا ؛ ها هنا صبيّة تريد أن تفاخر برمّانها .. ها هنا صبيّة تريد أن تتثنّى مشدودة الظّهر [انظر : رسم بياني] ، و تطالعنا عبر عدسة الأبيض & الأسود ، بكلاسيكيّة صافيّة .. كلاسكيّة نحتاجها للموازنة [انظر : في المحطّة مرّتين] ، و تقطع صمت (العَسس) و مكر نواياهم بالقول : هيييه ؛ إنّه مجرّد جرس له رنّة عندليب ! [انظر : بصيص خطر] ، ولا يفوتها أن تقتل اللّذيذ كي تحيا اللّذّة ؛ فالحنان أيضًا يمكن أن يكون ساديًّا . إنّها تزاوج بين الألم و الطّاعة ، بين فناء الجسد و انتعاش الرّوح . إنّها تقول في العناق ما تقوله المشنقة لرقبة ، إنّها تسفك اللّيّن و تذبح الصّلد [انظر : بروفة رقص أخيرة] ، و تغوص في تفاصيلَ المكاتب و قلق العلاقات الوظيفيّة ؛ لتخرج منها بذاكرة ثقبها الوقت ، و بأصدقاء يذكّرون بعضهم بموتاهم عبر مناسبات من قبيل : أكلة كنافة [انظر : ورقة نعي للذّاكرة] ، في حين تكتب بالحرفيّة العالية السّيرة الذّاتيّة لسلّة مهملات كريمة المحتد ، سال بها العمر .. و نأى بها الوقت بعيدًا بعيدًا [انظر : رحلة سلّة مهملات] ... إلخ .
هكذا تُشهدنا (نسرين طرابلسي) على جرائر أبطالها الجوّالين في مساحاتنا المُقتحَمة ، بل و تستدرجنا لاحتضانهم أو إدانتهم . إنّها تستفزّنا .. نعم تستفزّنا .
ملاحظات حول العمل :
أوّلاً . ممّا يلفت البصر و يبهجه في آن ؛ هذا التّزاوج بين لوحة الغلاف و عنوان المجموعة . الأمر الذي يمنحنا بُعدًا تشجيعيًّا للدخول إلى عالم النصّ (النّسرينيّ) بالرّغبة الطّروب .
ثانيًا . ثمّة قصّة قصيرة جدًّا تسبق كلّ قصّة . وأجواؤها عادةً تمهّد للقصّة التي تليها . وهو أسلوب فيه من التنويع و الابتكار الكثير ، رغم التّفاوت الواضح بين مستوى وفنّيّة هذه النّصوص . إلاّ أنّ بعضها على درجة عالية من الاحترافيّة كما في نصّيْ [أسلوب جديد | ترويض] على سبيل المثال . في النّهاية هو أمر يعلن عن رفعة العمل و جدّيّته .
ثالثًا . أحببتُ لغة (نسرين طرابلسي) . نعم ؛ لغتها رشيقة فيها من صفاء الشّعر وصحوه ، و بها من جزالة السّرد و فيضه . تدلّلُ الكلماتِ دون إفراطٍ ؛ و كأنّها تعي وصيّة (سارتر) في كتابه القيّم (ما الأدب ؟ ص 39) حين يقول : (النّاثر إذا ما أفرطَ في تدليل الكلمات تحطّمت الصورة ، و وقعت في الفراغ) . لذا فهي تدلّل (العربيّة) بالقدر الذي تحترم به (القارئ) ليخرج بعدها راضيًا من هذا الباب .. قانعًا بأنّه قرأ جمالاً . والجمال هنا قيمة لا صفة .
رابعًا . نقعُ أحيانًا في ارتباك التّصوير و قلق التّركيب ؛ فتخرج العبارة عمّا أردنا إلى ما لا نريد . وهذا أمر واردٌ جدًّا في الأعمال السّرديّة .. حيث يكون التّشبيه – أحيانًا - في غير محلّه علّةً لا خَلقًا و إبداعًا . و من هنا رصدتُ أمورًا على عجالة ؛ و هي لا تؤثّر في رأينا بالعمل ، بقدر ما آمل أن تستفيدَ منها القاصّة :
في [ص 10] : نسمع (هدير) حوافرها .
أعتقد بأنّ الأصوب لو قيل (وقْع) .
في [ص 21] : نحن حماة الوطن على الحدود ، (شباب) المستقبل .
في الواقع ؛ و من خلال سياق النصّ هم شباب أصلاً ، و ليسوا صبيانًا .
في [ص 40] : مقصٌّ أعرف مكانه دون معونة (العتمة) .
أرى بعض الالتباس هنا ؛ فهل المراد (النّور) ؟
في [ص 95] : وقفتْ ترتعد كرايةٍ على (بيرق) مكسور .
أجزم بأنّ المراد هنا (سارية) أو (قائمة) . إذ أنّ (العَلَم | الرّاية | البيرق | اللّواء) كلّها بمعنى واحد تقريبًا .
في [ص 113] : أنّ عينيها غائرتانِ في (عظام وجنتيها) .
لستُ ملهمًا في التّشريح و لا خبيرًا في العظام ؛ إنّما أظنّ بأنّ الصّواب (عظام المحجِريْن) . لأنّ (الوجنتين) تقعانِ أعلى الخدّ و لا تصلانِ إلى منطقة العينين .
خامسًا . جاءت بعض القصص على النّمط التلفازيّ ، و كأنّها جاهزة للتمثيل المرئيّ أكثر من كونها صامدة على الورق ، كما في قصص : (أضحية بلا عيد) و (الكومسيونجي) و (كومبارس) .
أخيرًا . ثمّة ما أقلقني في بناء قصّتيْ : (بقعةٌ فاضلة) و (أنثى النّقيض) . حيث خرجتُ منهما متأرجحًا بين الرّضا و عدمه .. و لا أعرف السّبب .
خاتمة :
نقرأ في قصّة [بروفة رقص أخيرة ص 114] : (إنّ الرّقصَ الجيّد تعبيرٌ عن الآلام) . وأقول مُنطلقًا من ذات الجرس و الفكرة : (إنّ الكتابة الجيّدة تعبيرٌ عن معاناة) . و لقد قامت القاصّة في هذه المجموعة بالتعبير عن هموم عالية ، و ناقشت أفكارًا غائرة في عميقنا . لقد كتبتْ بأريحيّة الذي لا يعطي إلاّ ما يملك فعلاً . و كما نرى فـ (نسرين طرابلسي) لا تملك سوى أحلامها و أحزانها و خيباتها و أبطالها و مباهجها وانتصاراتها .. و شاركتنا معها بكلّ هذا و بحفاوة . إنّ (بروفة رقص أخيرة) عمل يستحقّ الاقتناء .. و التقدير .
نُشرت في صحيفة القبس الكويتيّة
عدد 12 | كانون الأوّل | 2009 .
سعد الياسري
السّويد
الموقع الشّخصيّ
التعليقات (0)