نسائم الإستقلال هل ستُصَحي الشعب أم سيظل فؤاده غير صاحي ؟!
بقلم / الزبير محمد علي - صحيفة صوت الأمة الخميس 7/1/2009
Zubeir-1987@maktoob.com
في دنيا الناس تأتي أيام لها نكهة خاصة في ذاكرة الشعوب . الأمم الراقية تقف مع الذات دوماً في مناسباتها المختلفة لتقييم المسيرة الحضارية لأنها تدرك أن الوقت إذا ولي صار كالهواء لا يمكن قبضه.
إن في تعاليم الإسلام إشارات تؤكد هذا المعني وتُعضد عليه قال نبي الرحمة صلي الله عليه وسلم : ( إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها ). وهناك هدايا أعطتها لنا السنة النبوية لإستثمار المناسبات المختلفة في الإصلاح بتباين أشكاله- مثلاً- زيارة القبوربعد نهي النبي (ص)عنها ، إلا أنه عاد بحديثٍ آخر أباح فيه زيارتها لِما فيها من إعتبار وتذكر بحال الظالمين وما آلوا إليه !.
فهل يا تُري ستكون بداية السنة الجديدة بوابةً للإصلاح وطيٍ لصفحات الإنقاذ المظلمة ؟ وهل لذكري إستقلال السودان مساحة في دواخل السودانيين لإستلهام المعاني الخالدة التي رسخها الأجداد؟.
إن الإنقاذ خلال سنواتها العجاف في الحكم أكدت بلا أدني مجالاً للشك أنها فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة دفة الحكم في السودان علي كافة الأصعدة المختلفة.
وددنا أن تترك لنا الإنقاذ ملفاً واحداً للنجاح نشكره عليها ، فلم نجد سوي الخراب والعذاب ، وربما تكون هذه النكسة سببها دعوة البعض منا في عهد الديمقراطية الثالثة بفاتحة ( يالله العذاب ولا الأحزاب )! فأراد الله أن يبر دعوتهم ليُريهم في هذه الدنيا ألواناً شتي من الألم الذي أرادوه ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
لقد أجتمعت في الإنقاذ كافة الصفات البغيضة ، ولا أدري إن كان في التاريخ الإنساني تجارب شبيهة بهذه التجربة أم لا .
ولكن الذي أدريه هو أن الإنقاذ إستطاعت بذكاء لا تُحسد عليه أن تستلهم معاني كل الأنظمة التي أستبدت بالبشرية حيناً من الدهر ، كما أقتبست معاني الإعراض عن الحق وبعض أشكال الإستبداد الفردي في تاريخ الإنسانية وإليك بيان ذلك في ست نماذج منذ تاريخ البشرية الأول وحتي الآن :
• النموذج الأول : قتل قابيل لهابيل يُشابهها في الإنقاذ ( إبعاد جماعة المنشية الذين أوصلوهم إلي الحكم ! ).
• الثاني : إعراض قوم نوح عن دعوته يماثلها في الإنقاذ ( دفن نصائح الحادبين علي تراب الوطن في القبوروفتح الباب للوساطات الأجنبية).
• النموذج الثالث : طغيان فرعون الذي قال " ما أُريكم إلا ما أري وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " هذه المقولة الفرعونية أضحت سلوكاً ثابتاً للإنقاذُ منها علي سبيل النموذج (إسقاط مقترحات القوي السياسية في لقاء كنانة وتمريررؤية وأجندة النظام ).
• الرابع : إستعلاء قارون وغطرسته عندما آتاه الله الثروة (وءاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) فلما رأي هذه النعمة قال (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي( .
الإنقاذ ما فتئت تستعلِ علي الشعب السوداني ودوننا تصريحات نافع المتكررة في وسائل الإعلام حول قوة النظام وجاهزيته لدفن المعارضة في المقابر وغيرها من التصريحات غير المسئولة للجنرال الأمني !.
والمدهش أن إستعلاء قارون كانت نهايته (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ (ياربي الجماعة ديل ميعادهم متين!.
• النموذج الخامس : هيمنة الصهيونية العالمية علي الملفات الثلاث ( المال – السلطة – الإعلام ) ، وهذه الهيمنة تاتي في إطار السيطرة علي العالم .
نظام الإنقاذ طبق هذه الهيمنة بحذافيرها ، فالتلفزيون والإذاعة أضحت عبارة عن أمانة علاقات عامة تابعة لحزب المؤتمرالوطني ، والسلطة بما فيها الخدمة المدنية تمت كوزنتها!، أما المال فلا نريد التوسع كثيراً فقط تكفينا غابات الأسمنت التابعة لمسئولي الإنقاذ وإستخدام المال العام في عمليات شراء الذمم .
وجدير بنا في هذه المساحة أن نذكَر أن هناك تشابه بين النظريتيين الإسرائيلية والإنقاذية في مسألة حرمان المعارضين للنظام من الحقوق الأساسية ، فإسرائيل تتعاون مع السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس وتفتح الطريق واسعاً أمام المساعدات الدولية للضفة الغربية ؛ بينما تحرم قطاع غزة من كل هذه الأشياء لا لشي إلا لتصويت المواطنين لحركة حماس .وكأن إسرائيل تُريد أن تقول لسكان غزة بأن المساعدات تاتِ بتغيير القناعات ، وعليه فابحثوا لكم عن خيارٍ آخرغيرحركة حماس في الإنتخابات .
وهذا ما تفعله الإنقاذ حيث تحرم مناطق السند الجماهيري للمعارضة من الخدمات الأساسية إلا إذا بايعوا ، كما أنها زادت علي ذلك بمحاربة كل من يعارضها ولم يركب قطارها محاربةً إقتصادية ، ولا توجد حجة أدل علي ذلك من محاربة الرأسمالية الوطنية في الأسواق التجارية .
وأضيف من الشعر بيتاً أنه عند بحثي عن عدد شهداء غزة فوجدتهم لا يتجاوزوا 2000 شهيد ، يا تري كم كان عدد القتلي في دارفور! ،" غايتو بحسب كلام البشيرتسعة ألاف ". إنتو يا جماعة كتيرة التسعة ولا الألفين !.
• النموذج السادس : إستبداد الثلاثي ( موسليني ، هتلر ، ستالين ) قصدت دمج الثلاثة مع بعض- رغم إختلاف الإيديولوجيات- لتشابه السلوك الإجرامي لهذه الأنظمة.
عندما بدأت قرءاة سيرة موسليني أول ما أثار إستغرابي إنشائه لمليشيات لا تتبع للجيش ولا تتبع للشرطة ، عندها تسألت تسأولاً ممزوجاً بإستغراب ( ياربي ديل جنجويد ولا دفاع شعبي ولا شنو)! .
لقد كان المستبدين طوال التاريخ الإنساني لا يعطون أهميةً للشعوب إلا في إطار التأييد الحزبي ، ثم مالبث هؤلاء يهينون النُصحاء من أبناء الوطن تحت شعار ( الفاشية علي حق ومن عاداها إلي التراب ).
إننا نتأسف حزناً وأسي أن نعقد مقارنة بين الأنظمة المستبدة تاريخياً وبين نظام سوداني ، ولكن الإنقاذ جعلت ذلك مباحاً يوم أن إستلهمت كافة موبقات الإستبداد التاريخي .
لقد أتي نظام الإنقاذ ببدعة أوسع من النماذج الست التي مارسها الطغاة ، تلك البدعة هي أن سلوك النظام أساساً يتنافي مع الأخلاق في الوقت الذي يُعلن فيه عرابي الإنقاذ بأن هذا السلوك هو من صميم الدين وتلك البدعة لم يسبقهم عليها فرعون! .
وقد قيل علي سبيل المزاح أن إبليس إحتار في سلوك المؤتمر الوطني ( فهو يأمرهم بفعل المنكرات ثم بعدما يفعلوها لايشكروه علي أفكاره ، بل يقولوا وبلا أدني خجل هذا من فضل ربي !).
إن الناظر لتاريخ الإستبداد السلطوي يدرك أن السلطة لا تدوم مهما كانت قوية ، بينما يعلم أيضاً أن قوتها تعتمد علي شرعيتها ومدي إلتفاف الجماهير حولها .
فكيان مثل أنصار الله في السودان له إمتداد تاريخي لأكثر من قرن ومع ذلك فهو محتفظ بقوته الشعبية لا بقوة السلاح ولا بوسائل الترهيب والترغيب ؛ وإنما بصدق النوايا وطهر السريرة وقوة العزيمة رغم الجفاف المادي الذي أحدثته الإنقاذ وسط أعضاء هذا الكيان.
ولهذا علي الإنقاذ أن تعتبربهذا النموذج ؛ وأن تدرك أن نظامها لا تحميه الدبابات ، ولا أجهزة الأمن ، بل تحميه علاقة النظام بالشعب ومدي إحترامه وتقديره للمواطنين .
ولكن هل في الإنقاذ عقل يستوعب هذا الفهم ؟
إن المقيَم لمسيرة الإنقاذ في السنوات السابقة يلحظ هيمنة التيارالأمني داخل النظام علي تسيير ورسم السياسات العامة في البلاد ؛ وهذا لعمري لم يزد البلاد إلا دماراً ولم يضف للوطن إلا زيادة الإنطلاق بسرعة الصاروخ نحو الهاوية .
فالمشهد السياسي الآن أضحي أكثر ضبابيةً من السابق ؛ ذلك أن النظام يعاني داخلياً تجاذباً بين التيار الأمني والتيار السياسي ؛ حيث يري الأخير أن الحركة الإسلامية إُختطفت من غير آبنائها وحادثة طلاب الجامعة الأهلية لم تغب عن الأذهان .
وعلاوةً علي ذلك فان النظام يعاني شرخاً داخلياً في الحكومة التي أُنيط بها جعل الوحدة بين الشمال والجنوب وحدةً جاذبة ، ذلك أن الحركة الشعبية الشريك الأساسي في الحكم أصبحت الآن وبعد مرور أكثر من أربع سنوات علي إتفاقية السلام الأبعد عن شريكها المؤتمر الوطني ، كما أن حركة مناوي صارت أكثر إستيائاً من السابق في شراكتها مع النظام بعد حكاية مساعد الحلة! ، أما جبهة الشرق والتجمع الوطني فإنهما يعيشان حالة من التوهان السياسي ما بين الإنحساب من البرلمان تارة ، والحنبكة من الشريكين تارةً أُخري.
هذا بالنسبة للوضع الداخلي للحكومة ، أما إذا تجاوزناه إلي إطار القوي السياسية المعارضة فإن المشهد قد يكون أسوأ.
فتحالف جوبا إشترط مقومات لقيام الإنتخابات في أبريل (نيسان) القادم ، وبحسب القرءاة الواعية لسلوك النظام ، فإن الإنقاذ بينها وبين تلك المقومات بُعد المشرقين .
إن إجازة قانون الأمن أكبر دليل علي أن النظام يُريد الإنتخابات ولكن إنتخابات التسعات الخمس التي إشتهرت بها الأنظمة العربية !.
لا شك أن الوضع ملتهب علي كافة الأصعدة ويُنذر بشر مستطير ، وإذا لم يتم تداركه بحكمة وعقل ؛ فإنه سيؤدي بالدولة السودانية إلي دركٍ أسفل لا يعلم مداه إلا الله .
لذلك فإن المخرج من كافة هذه المشكلات ياتِ بتقنين النظام الدستوري في البلاد ، كما أن أي تعطيل للإنتخابات سُيهيئ الساحة السياسية لمزيد من الإحتقانات ، ولكن هل الإنتخابات مجدية في الظروف الحالية ؟
إن قرءاة سلوك الإنقاذ التاريخي وربطه بالمعطيات الدولية التي يعتبرها النظام من المهددات التي تواجهه (أوكامبو – أمبيكي ) سوف تجعل المؤتمر الوطني يسعي بالوسائل المشروعة وغير المشروعة لكسب الإنتخابات ؛ ذلك أن تفكيره هو أن الإنتخابات يمكن أن تجنبه حبل المشنقة أو توقعه فيه ؛ ولهذا فإن الإنتخابات ستفقد قيمتها في وجود مثل هذا التفكير غير المستبعد حدوثه من حزب المؤتمر الوطني ، فما المخرج ؟
لقد أوضحت التجارب أن الانظمة الشمولية لا تلد ديمقراطية كاملة الدسم إلا نادراً ، مثلما هو حال المغتصب لا يمكن أن يلد إبناً شرعياً ؛ ولذلك فإن الرهان علي مصداقية النظام ستكون بمثابة حرث للماء أو قبض للهواء الجوي .
إن مخرج هذه البلاد في ضوء المعطيات الحالية يكمن في تفعيل قطاعات الشعب وتهيئتها للتغيير المدني ؛ ذلك أن الإنقاذ لا تستجيب لعملية تحول ديمقراطي كامل الدسم إلا بالضغط الشعبي ؛ وهنا يطفح سؤال إلي السطح ؛ هل يستطيع الشعب السوداني الضغط علي الحكومة لفرض برنامج التحول الديمقراطي الكامل ؟
إن برنامج التحول الديمقراطي في السودان تاريخياً فرضه الشعب عبر الإنتفاضات المختلفة.
صحيح أن الوضع تغير بصورة كبيرة مما هو عليه في السابق ، ونعم أن الإنقاذ إستطاعت أن تُكثر مجاديف المواطنين إلا أهل الولاء مما يُصعَب إمكانية التضامن الشعبي الواسع.
ولكن مع ذلك فإن أخطاء الإنقاذ الفادحة قد توحد الشعب ضدها ، لا سيما أن بعض قيادات الإنقاذ أظهرت لهجة معارضة للنظام . ولا يوجد برهان علي ذلك أكثر من تصريح مهدي بابو نمر في ندوة بحري التي أُقيمت في الإسبوع الفائت عندما أعلن ندمه علي وقوفه مع الإنقاذ – لأنه وبحسب تصريحه – فإن المؤتمر الوطني قد باع المسيرية وأضاف قائلاً أن ما تم في لاهاي (هو شغل ورق ساكت!).
بالرغم من أن مثل هذه التصريحات قد تُشكل خطراً علي السلام الإجتماعي ، إلا أنها في الوقت ذاته تبين أن المؤتمر الوطني قد فقد كافة مناصريه إلا قليلاً من المصلجية! .
لذلك فإن إستثمارمثل هذه المواقف المعارضة للنظام مع مواقف أُخري مثال تضامن أهل كجباروالشريك ، ومتضرري حل مؤسسة النيل الأزرق الزراعية ، ومزراعي الجزيرة ، إذا إستُثمر كل هذا فإن النظام لا محالة سيرضخ لتنفيذ الأجندة الوطنية.
لقد أقر حزب الأمة في إجتماع مكتبه السياسي يوم أمس الأول قراراً بدخول الإنتخابات بشرط توفر ضمانات النزاهة والحياد . إننا نقول أن مثل هذا القرار عقلاني ومنطقي ولكن لابد من تحرك سريع لضمان توفيرهذه الشروط قبل دخول الإنتخابات لأن هذه الشروط لا تاتِ من الفضاء.
إن الضامن الوحيد لبرنامج التحول الديمقراطي هو ضغط الشعب السوداني ونتائج مسيرتي الإثنين ليست بعيدة عن الأذهان .
علي الأحزاب السياسية أن تُنمي أكثر من مساحات تواصلها مع قطاعات الشعب المختلفة ، لأن التحرك الحالي ما زال ضعيفاً لكونه لامس القشور ولم يلامس البذور التي بلا شك هي أساس الحصاد .
التعليقات (0)