مواضيع اليوم

نساء عزازيل؛ الأكثر غواية والأشد فتنة.

هبة بوخمسين

2009-06-08 12:54:20

0

نساء عزازيل؛ الأكثر غواية والأشد فتنة.

 

الفوز كان جديراً برواية كـ "عزازيل" لمؤلفها الدكتور يوسف زيدان. وحصادها الجائزة العالمية كأفضل رواية عربية للعام 2009 جعلها وكاتبها تحت الضوء تقديراً لبحثه/تجديده في الطرح ، وللغته وسحر السرد الذي يجتذبك حتى تنتهي من الرق الأخير فيها وتبدأ شرود الذهن نحو الأسئلة التي توقظها فيك.

لا شك أن أموراً كبناء النص/ التجريب/ اللغة وغيرها قد بُحثت في كثير من القراءات التي تناولت جماليات هذه الرواية ، والتهمت الوارد فيها من أهمية تأريخية لأحداث تم توظيفها بشكل نابغ فيما يخص اللاهوت المسيحي القبطي والكنيسة في أواخر القرن الرابع وحتى العام 431 للميلاد (فترة تدوين الراهب). وهنا سأرفع إعجابي وتقديري لجهود الكاتب في البحث والإلمام بمعلومات أغنت الرواية ، إلى جانب قدرته المميزة في السرد وتصاعد الأحداث ، وكذلك غوره في النفس واستقرائه لشكوكها وأوهامها.

لكنني هنا بصدد قراءة نساء هذه الرواية ، نساؤها المحركات لحياة بطلها المعترف على الرقوق بكل ما جرى في حياة الرهبنة التي عاشها ، واللاتي سيأسرن بمصائرهن ذاكرة أي قارئ ، وسيعلقن بذهنه حتى ليصدق أن بعضهن قد مررن به ذِكرا أو تجربة في حياة ما! كما حصل معي تجاه "هيباتيا" المفكرة العالمة ، مثلاً ، وهو نصر آخر للكاتب باعتقادي.

المرأة/الأرض:

المرأة خصبة كأرض طيبة. نبع حيّ/ سماء ماطرة/ خير قادم/محبة وعطف آسران/ حنين ورحمة. ومقابل رقتها وعطائها الذي لا تنتظر نظيره سوى العطف والحب ، نجد رجلاً يرزح تحت وابل من أوهام الخطيئة ، ويصارع طبيعته واحتياجاته التي فطر عليها في سبيل التكفير عن ذنب هو نفسه يجهله! ويحارب هوى النفس - كما يظنه - زاهدا بحياة حقيقية يراها تتسرب من بين عينيه لأجل حياة لاحقة ، ينخر قلبه الشك حولها آناء الليل وأطراف النهار ، أو حين لا يكون منشغلاً بصلاة الساعة الثالثة أو السادسة أو التاسعة ، أو التراتيل!

ولكن لكل ذلك حكاية مؤدية للنتيجة ، فالتعاليم/الأوهام السماوية لعبت دورها في تصوير الخلاص الذي لا ينفرج إلا من نفق الألم. فنجد راهبنا يرفض المحبة بشكلها الثنائي المازج بين المرأة والرجل ، بل أنه يرفض المرأة بوصفها دنسًا بعد أن يرسم منها شيطاناً ، ويبرر ضعفه أمام طبيعته - التي يقاومها بغبائه المنغمس في حربه ضد نفسه قبل أي شيء - بأنه غواية نساء عزازيل وفتنتهن! فكلما داهمه ضوء يناجيه لأن "يحيا" بشكل حقيقي ويشكر فعلياً النعم ، نراه يتقوقع في حرب داخلية ، أو يتصومع بعيداً عن كل ذلك موهمًا نفسه بانتصار صيامه على مغريات الدنيا ، وبارتقاء الزهد على متاع الحياة الفانية!

كل تلك الحروب الداخلية والنفسية نراها منعكسة في تصرفات الكثير من الرهبان ، ونستشف ذلك من المواقف والردود والأفعال. فعلى سبيل المثال؛ لن يقدر قلب اختبر حباً صافيا ونشأ على احترام المرأة على أن يكون مفرط القسوة ، كما شهدنا في الأحداث من أفعال أقدم عليها القساوسة والرهبان من تنكيل وقتل ووحشية لكل من يخالفهم. ولن يستطيع من نمت في دواخله الرحمة على إيلام أي كان ، ولن يكون سوياً من يعيش حالة التقشف والحرمان ويعاين صراعاً أزلياً مع فطرته وطبيعته التي لا مناص منها طالما أنه يتنفس في هذا الوجود. حتى الساكن والرزين منهم ، فما وصل لذلك إلا بعد أن وصل للعمر العتيّ الذي تتعطل بها كل تلك الرغبات والشهوات والغرائز ، حتى أن غريزة الجوع/الأكل تخبو لديهم ، فكيف للمراهقين "الشمّاسين" وللشباب والرجال في منتصف العمر التعوّد بأي شكل من الأشكال على عدم الشعور!

المرأة التجربة

أولى تجاربه كانت "أمه".
والتي تثبت لنا فعلياً أن الإنسان يفقد طبيعته "الإنسانية" حين يغلبها تطرّف في الفكر وأصولية مقيتة ، ويعلو عليها هدف غير النبل المفطورة عليه قلوبنا. فهي لأجل "الدين" حرّضت الرجال على اغتيال زوجها/والده ، وكافأت نفسها/قاتله بالزواج! كل ذلك جرى أمام ناظره وهو الأمر المحفور في ذاكرته – التي لم تشف – أبداً ، والتي أججت شكوكا في قلبه تجاه المرأة "التي أخرجت آدم من جنته بعد أن وسوست له - مع عزازيل - الأكل من شجرة الحياة".

أوكتافيا.


تلك الوثنية ، المرأة/الطفلة الفاتنة في حضن الراهب المسيحي. التي التقطته من البحر مؤمنة بالنبوءة التي بشرتها به.
هذا الراهب ، الذي يبدو أنه حين تنكر بزي مصري ، تناسى الصليب الذي يخفيه في "كومة أكاذيبه"/ "المخلاة " ، وحرث في تلك الأرض الكريمة بالحب لأيام حتى شبع من ثمارها ، ولم يبادلها أية مشاعر إذ لم يكن سوى منجرفاً وراء نزقها وولعها به ، ووراء سخونة التجربة الجديدة على عذريته!
تلك التي أخبرته عن نزف قلبها بفقدان أحبتها "الوثنيين" على أيدي الرهبان فلم يصدقها.
- ما هذا الذي تقولين؟ .. الرهبان لا يقتلون!
- رهبان الإسكندرية يفعلون .. باسم ربهم العجيب ، وببركات الأسقف ثيوفيلوس المهووس ، وخليفته كيرلس الأشد هوساً. ص 122 .
تلك المحاورة المتصاعدة التي حاولت "أوكتافيا" لملمتها ليعود اشتعال الحب بعيداً عن ذلك التصادم. لكنه ذودا عن الدين وغليان دمه الذي فار لأجل قساوسته ، فقد انتهي به المطاف معترفاً بأنه "راهب مسيحي" .. لتطرده وأكاذيبه واستغلاله ووضاعته من حياتها إلى غير رجعة. حتى يلتقيها في مرة أخيرة لن تمحى من ذاكرته العليلة ، حين تُقتل "أوكتافيا" أمام عينيه بأيدي الرهبان وهي تحاول حماية "هيباتيا" التي سيجيء ذكرها تالياً.

هيباتيا.


هي التي وصل لأعلى مدى من الإعجاب والإجلال لها ، للدرجة التي ساورته نفسه لأن يهجر الرهبنة ويترك كل شيء خلفه ليظل يخدمها ، فيكون قريباً ويتعلم من علومها ونبوغها ما يفتح ذهنه لأسرار الحياة ، تلك التي ما وجدها في الأناجيل والتراتيل والصلوات!
"هيباتيا" الحلم العالي بالنسبة إليه ، كانت تهديداً للنخور المخلخلة لبناء الكنيسة ، فاتُّهمت بالهرطقة والهلاوس وتحريض العوام على "المعرفة". كان العلم حينها تهديداً فعلياً ، إذ أنه يدفع الناس لفطرتهم المتاسئلة الباحثة ، والذي يحثهم على الإمساك بخيوط خلاصهم التي تتناسب والنتائج التي يتوصل إليها كل منهم ، بما يتعارض مع توجهات الكنيسة المخدرة للعقول ، والساعية لتجنيد البشر لخدمتها.
مجدداً ، نجد الراهب (مجهول الاسم حتى هذه الحادثة) متخاذلا في مواقفه ، جباناً ومتضعضعاً ، متصارعاً مع يمليه عليه ضميره ، وما يهابه/يرهبه من النتائج التي ستقع عليه من الكنيسة. ذلك حين اجتمع الأساقفة والكهان والرهبان في القداس صبيحة أحد الآحاد ، وقام خلاله القس " كيرُلُّس" – المزيّن رداؤه بخيوط الذهب – بتهييجهم والعوام للنيل من المهرطقة. لتنتهي حياة "هيباتيا" بشكل تراجيدي ومفجع أمام عينيه ، وهي التي مدّت يدها تستغيث به فلم ينجدها.
" .. سكتت صرخات هيباتيا ، بعدما بلغ نحيبها عنان السماء من فرط الألم ، عنان السماء ، حيث كان الله والملائكة والشيطان يشاهدون ما يجري ولا يفعلون شيئاً." ص 159
لن يقدر أي مارٍّ على تفاصيل ذلك غير البكاء أسفاً على إنساننا.

مارتا.

الشابة القادمة من حلب. فاتنة الجمال ، وعذبة الغناء ، التي تصل وخالتها طالبتان المأوى في الكنيسة التي انتهى الراهب للإقامة بها ، والذي أطلق على نفسه بعدها اسم "هيبا" تكريما لذكرى هيباتيا! تأسره بجمالها منذ اللقاء الأول ، وتقع في حبه وتفيض عشقا وجنونا ومغامرة. تلك العشرينية التي ظهرت فجأة في حياة الأربعيني القاحلة ، تعيد إليه حيويته وإقباله على الحياة وكتابة الأشعار والتراتيل ، وتتفنن في لفت انتباهه بإبراز ما أمكن من مفاتنها حتى يقع بينهما المحظور ويعترفان تحت السقف المقدس بحبهما. لكنه مجدداً يتخاذل ، تدعوه للزواج والهرب حيث مسقط رأسه ليعيشا هانئين ، لكنه يتردد. ترجوه أن لا يُضيع فرصة السعادة التي تليق بهما ، فتجرفه حمّى لها عدة أسباب في السرد ومن ضمنها احتمال خسارة "مارتا" ، فيصحو بعد عشرين يوماً ليجدها قد رحلت. إذ هكذا هي الحياة وفرصها ، لا تنتظر الجاهل بقيمتها ، ولا المتجاهل لإشارات دعوتها.
خسارة "مارتا" مع كثير صراعات بين الكنائس والقساوسة ، والتصعيد بينهم غير النظيف والبعيد عن أية رحمة سماوية كما يدعون ، يشتركون جميعهم مع تاريخ هذا الراهب الحافل لإحداث هزّة عنيفة بداخله ، تحركه للتخلي عن كل الوهم الذي عاشه ، ويدخل حياة حقيقية بعد أن تجاوز عمره الأربعين عاماً (نهاية تدوينه).

عزازيل


رواية مليئة بالتأمل ، زاخرة بالشك المحرك للذهن والمحرض على التساؤل والبحث. بها الكثير الكثير مما يحمله بلايين البشر على هذه الأرض عبر العصور من أحمال أنهكتهم ، وتساؤلات أرعبتهم فهمّشوها – إذ لا يمكن إلغاؤها – حتى لا ترهقهم. تستعرض تلك المعتقدات التي توارثوها تلقيناً وترهيباً ، وتطرح ما بين السطور أسئلة أزلية حول الأوهام المتوارثة.
هي فخ متعة حقيقي ، لمن يحلق بذهنية متقدة ومتفتحة ، ومن تخلّص من القيود والخوف.

 

نشرت في جريدة القبس الكويتية عدد 7 يونيو 2009




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !