شغلت موضوعة السلام بال المفكرين والفلاسفة منذ زمن بعيد , متأثرين بنداءات الرسالات السماوية لتحقيق السلام . باستثاء اليهودية التي مجدت الحرب واباحت القتل , ولم تضع قيودا على الحرب , في حين جاءت المسيحية لترسخ فكرة السلام والتسامح , ومن تعاليمها الثابتة , النهي عن القتل والتحذير من القيام به . وجاء الاسلام ليطرح السلام ابتداء من الافراد حيث دعاهم الى افشاء السلام فيما بينهم " السلام عليكم " , وقد سميت الامة الاسلامية وديارها بدار السلام , رغم ما يعتقدة الملاحدة , ومن ينكرون على الاسلام هذه الحقيقة , وومن يفسرون بعض أيات القرأن خارج سياقها التاريخي واسباب نزولها , واباح الاسلام للاخرين من الاديان الاخرى العيش بسلام في ربوع الدولة , لان الاسلام عقيدة ايمانية يرفض الاكراه لقوله تعالى ( لا اكراه في الدين ) , اما فريضة الجهاد فهي للدفاع عن النفس وعن الدين وعن الديار والمقدسات الدينية , وهذا ما حصل في القدس طيلة القرون التي حكمتها الاقوام المختلفة , فقد كان الحكم الاسلامي غاية في التسامح والرأفة بالاقوام التي سبق ان اعتدت على العرب وعلى المقدسات الاسلامية , سواء في الحملات الصليبية , او الرومية من قبل , وشتان بين معاملة الروم للعرب ومقدساتهم , وبين معاملة عمر بن الخطاب لهم ولمقدساتهم , وشتان بين معاملة الصليبين للعرب ومقدساتهم , وبين معاملة صلاح الدين الايوبي لهم .
كما شغلت موضوعة السلام الاديان , فقد شغلت المفكرين ايضا , فقد دعا الفيلسوف ابو بكر الفارابي الى فكرة " اهل المدينة الفاضلة " في منتصف القرن العاشر الميلادي , بهدف ان يعيش الناس في امان وسلام . كما دعا عبد الرحمن الكواكبي الى وحدة المسلمين في مؤتمر عام يعقد في مكة المكرمة ( ام القرى ) لاشاعة الامن والسلام .
وشغلت فكرة السلام الاوروبيين الذين مزقتهم الحروب القومية الشوفينية والدينية , فدعا بعض المفكرين الى انشاء اتحاد فدرالي للدول الاوروبية , ولكن هذه الافكار ظلت محصورة في المجال الجغرافي والسياسي في اوروبا . فالسلام الذي نشدوه هو سلام لاوروبا فقط , ومع ذلك فان افكار الاوروبيين شكلت نواة للمعاهدات والاتفاقيات من اجل السلام التي ابتدأت بمعاهدة " وستفاليا " 1648 . اذ شكلت تلك المعاهدة نواة لتنظيم دولي اقر السلام في القارة الاوروبية . ثم جاء عهد عصبة الامم 1919 ثم ميثاق الامم المتحدة 1945 .
ماذا قصد الاوروبيون والمفكرون في بلدان الغرب من فكرة السلام ؟ السلام الذي ينشدة السياسيون والمفكرون الاخلاقيون , هو السلام الذي يشترط نبذ استخدام القوة ونزع السلاح , وبالذات سلاح الدمار الشامل من جميع الدول , كبيرها وصغيرها , غنيها وفقيرها , وتحقيق الرخاء الاقتصادي , وتقليل الفجوة في مستوى الحياة بين الطبقات وبين الدول , وخاصة بين دول الجنوب الفقيرة ودول الشمال الغنية . وحل المشكلات التي تفرضها الطبيعة .
السلام يعني عدم التدخل في شؤون الدول الصغيرة والفقيرة , واحترام خياراتها السياسية , وصون هويتها القومية والثقافية . والسلام المقصود هو الذي يستبعد منطق القوة , ويغلب قوة الحق وقوة المنطق والحجة على منطق القوة المادية .(1)
القوة هي احد الاسباب وراء الحروب , وعندما يذكر مصطلح القوة يتبادر الى الذهن القوة العسكرية , لانها احدى مقومات قوة الدول والشعوب. القوة تعني " مجموعة عوامل القوة العضلية والذهنية والعسكرية والاقتصادية " . القوة في الاسلام تعني قوة الحق والارادة والمعنويات , وقوة النفس والسيطرة على نوازعها . وتعرف القوة دائما بدلالة القدرة على الاتيان بافعال مؤثرة وقوة الدولة لا تظهر الا من خلال قدرتها على التأثير بغيرها .
وقد عرف ( نيكولاس سبيكمان) 1893ـ1943 القوة " بانها القدرة على خوض الحرب " . وعرفها ( كلين ) بانها " اهم صفة للدولة , واهم من القانون , لان القانون نفسه لا يمكن تنفيذه الا بالقوة , فالقوة هي الضامنة للعدل والظلم على حد سواء " (2) .
فالقوة يمكن تعريفها " بانها مجموعة الوسائل والطاقات والامكانيات المادية وغير المادية , المنظورة وغير المنظورة التي بحوزة الدولة , يستخدمها صانع القرار في فعل مؤثر يحقق مصالح الدولة , وتؤثر في سلوك الوحدات السياسية الاخرى " (3).
الحروب هي نقيضة السلام , فهي تحرم الانسان حريته , وتحجب عنه كرامته الانسانية . فهي بالتالي معوق اساسي امام حقوق الانسان في أن تاخذ مجالها في الدول والمجتمعات . ولذلك فقد حرصت الصكوك الدولية على التحذير من مخاطر الحروب والدعوة للسلام . وقد حذر ميثاق الامم المتحدة من استخدام القوة في العلاقات الدولية , باستثناء استخدامها في الدفاع عن النفس حسب منطوق المادة ( 51) من الميثاق , وكذلك في حالات كفاح الشعوب من اجل الاستقلال وتقرير المصير في شكل الحكم الذي تختاره . ولذلك حرصت ديباجة الميثاق على مناشدة الدول في سبيل انقاذ الاجيال المقبلة من ويلات الحروب , ويقصد الميثاق الحربين العالميتين الاولى والثانية , اللتين جرتا ويلات كبيرة على شعوب الدول المتقدمة , وبالذات اوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق واليابان .
ومنذ الحرب العالمية الثانية 1939ـ1945 لم تقع حرب عالمية ثالثة بالمعنى الدقيق , لان الدول الكبرى باتت تملك اسلحة نووية كافية لان تدمر دول العالم ست مرات في الاقل حسب تقديرات علماء الذرة .لكن الحروب استمرت وكان ضحيتها شعوب عالم الجنوب ابتداء من الحرب الكورية ثم الحرب الفيتنامية وكمبوديا ولاوس , ثم حروب امريكا اللاتينية والحروب بين الكيان الصهيوني والدول العربية المجاورة لفلسطين , واخيرا الحرب الامريكية ـ الغربية ضد افغانستان والعراق وليبيا . وهذا يعني ان ما ورد في ديباجة الميثاق لم يفعل , ولم يتم انقاذ الاجيال من ويلات الحروب , وبالذات اجيال شعوب عالم الجنوب , وقد كانت خسائر الحروب التي وقعت بعد الحرب العالمية الثانية كبيرة جدا , وقد يقترب عددها من خسائر الحرب الثانية .
لقد انكرت الحروب كلها حق الانسان في الحياة والامن والسلام , ولذلك ركزت مقاصد الامم المتحدة في حفظ السلم والامن الدوليين , واقامة علاقات ودية بين الامم , وتحقيق التعاون بين الدول لحل المشكلات والنزاعات بالطرق السلمية . وقد ربطت المادة الاولى من الميثاق بين حفظ الامن والسلم الدوليين وبين مراعاة حقوق الانسان . واوكل الميثاق مهمة حفظ الامن والسلم الدوليين الى مجلس الامن الدولي , واعطى الجمعية العامة بعض الصلاحيات في هذا المجال , اذ طلب مجلس الامن منها ذلك , وركز في مهماته على تطبيق نظام الامن الجماعي وفق منظور سياسي , وليس من منظور قانوني يراعي الحق والعدل والانصاف . واكد الاعلان العالمي لحقوق الانسان في الفقرة الاولى منه على الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع اعضاء الاسرة الدولية , وبحقوقهم المتساوية الثابتة , وعدها المجلس اساس الحرية والعدل والسلم في العالم .
وربط الميثاق التأسيسي لمنظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ( اليونسكو ) بين حقوق الانسان والسلم , حين اكد انه " لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر , ففي عقولهم يجب ان تبنى حصون السلام " . وتهدف المنظمة الاسهام في صون السلم والامن الدوليين بتعزيز التعاون بين الامم عن طريق التربية والعلم والثقافة , من اجل دعم الاحترام العالمي للعدالة وسيادة القانون , ولحقوق الانسان والحريات الاساسية التي يؤكدها ميثاق الامم المتحدة لشعوب العالم , دون تمييز بسبب العنصر او الجنس او اللغة او الدين .
واعربت الجمعية العامة للامم المتحدة في اعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة عن ادراكها للصلة الوطيدة بين حق تقرير المصير واحترام حقوق الانسان والسلم , وكذلك اعلان الامم المتحدة للقضاء على كافة اشكال التمييز العنصري , اذ اكد انه اهانة للكرامة الانسانية, ويجب ان يدان باعتباره انكارا لمبادئ ميثاق الامم المتحدة وانتهاكا لحقوق الانسان وللحريات الاساسية المعلنة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان , وعقبة دون قيام علاقات ودية وسلمية بين الامم, ودافعا من شأنه تعكير السلم والامن بين الشعوب .(4)
يرتبط مقصد تحقيق الامن والسلم بنزع السلاح , لان حق الانسان في العيش بسلام وامان , يرتبط باشاعة مبادئ السلام القائمة على الحق والعدل والمساواة والانصاف , وكذلك في العمل الدؤوب من جانب الدول لنزع السلاح , وخاصة اسلحة الدمار الشامل ـ الاسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية والبالستية ـ .
ان نزوع البشر للعيش بسلام, هو نزوع انساني فطري , يتناقض مع القوة التي تثير النزعة العدوانية , وتشعل نار الحروب بين الامم . ولذلك فان نزع السلاح مطلب انساني من اجل ان تعيش الامم في امان وسلام , تتفرغ للتنمية بكل مضامينها التي تعود على البشرية بكل الخير والنهضة , وهي مقاصد الامم في تطبيق حقوق الانسان .
ان سباق الدول في التسلح يستنزف قدرات الدول والشعوب المادية والعقلية , ويحول بينها وبين العمل من اجل رفاه الناس وسعادتهم . فالتقدم العلمي الذي احرزته الامم يتم استخدامه في سباق التسلح لتعزيز قوة الدول , وهذا السباق يستنزف الطاقات الاقتصادية بدلا من تسخيرها لخدمة الانسان . وعلى سبيل المثال فقد كان احد اسباب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق خوضه سباق التسلح النووي الاستراتيجي مع الولايات المتحدة , الامر الذي ادى الى افقار الشعوب السوفيتية , وجعلها ترحب بالتغيير الذي قاده الرئيس السوفيتي الاخير غورباتشوف في سياسته التي اطلق عليها " البروستريكا " اي سياسة التغيير .
وقد اقدمت كل من الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية ـ وريثة الاتحاد السوفيتي ـ على خطوات باتجاه الحد من سباق التسلح النووي والاستراتيجي في مجال الصواريخ البعيدة المدى , وعقدت الدولتان اتفاقيات ( سالت 1و2) ولكن المصالح السياسية لكل طرف حالت دون الاستمرارفي المفاوضات , بل زادت الامور تعقيدا بعد ان عزمت الولايات المتحدة اقامة قاعدة للدرع الصاروخي في تشيكيا وبولونيا , الامر الذي عدته روسيا تهديدا لامنها , وردت على الخطوة الامريكية بخطوات تصعيدية في سباق التسلح .كما ان الامر الذي تتفق عليه دول النادي النووي هو منع الدول الصغيرة في عالم الجنوب من امتلاك سلاح نووي , كما الحال مع كوريا الشمالية وايران وسوريه والعراق من قبل .
لقد عهد ميثاق الامم المتحدة الى مجلس الامن والجمعية العامة بأمر الحد من انتشار الاسلحة ذات الدمار الشامل , ومنح الجمعية العامة الحق في ان تنظر في المبادئ العامة للتعاون في حفظ الامن والسلم الدوليين ,بما في ذلك نزع السلاح . وللجمعية ان تقدم توصياتها بصدد هذه المبادئ الى مجلس الامن للنظر في هذه التوصيات , في ضؤ مهمته الاساسية بالعمل على حفظ الامن والسلم الدوليين .
عقدت الجمعية العامة دورات خاصة حول نزع السلاح , والسعي لجعل العالم خاليا من اسلحة الدمار الشامل , الا ان هذه الجهود لم تحول دون سعي الدول المحموم لنيل او تصنيع اسلحة جديدة ومتطورة , وقد اظهرت الحروب التي شهدتها السنوات الاخيرة انواعا فتاكة من الاسلحة المحرمة دوليا مثل قنابل النابالم والقنابل الفسفورية والقنابل المشبعة باليورانيوم المنضب وغيرها من الاسلحة المهلكة . كل هذا يؤشر عدم التزام الدول وخاصة الدول الكبرى بدعوات الامم المتحدة للحد من انتشار اسلحة الدمار الشامل , وكذلك الاسلحة التقليدية المتطورة , التي تحدث دمارا كبيرا في المنشأت , وقادرة على قتل اعداد كبيرة من البشر .
وللرد على نزعات الدول في سباق التسلح , دعت الجمعية العامة في اعلانها حول التقدم والانماء الاجتماعي , الى تحقيق نزع عام وكامل للسلاح واستعمال الموارد المحررة لتأمين التقدم الاقتصادي والاجتماعي بغية توفير رفاه البشر في العالم قاطبة وخاصة في بلدان الجنوب النامية . كما دعت الى اعتماد تدابير تساعد على تحقيق نزع السلاح ولا سيما حظر تجارب الاسلحة النووية حظرا تاما . وحظر استحداث وانتاج وتخزين الاسلحة الكيماوية والبكترويولوجية والبيولوجية , ومنع تلوث المحيطات والمياه الداخلية بالفضلات النووية ـ المادة 27 ـ .
وخلاصة القول ان البشر في كل انحاء العالم لهم حق مقدس في ان يعيشوا في امان وسلام ,ويتعين على الدول الاعضاء في الامم المتحدة ان تتخذ الاجراءات والتدابير اللازمة للقضاء التام والشامل على الاسلحة النووية وكل اسلحة الدمار الشامل , وتتحمل الدول الكبرى المصنعة للسلاح مسؤولية الحد من انتاج الاسلحة وتوزيعها وبيعها الى الدول او الجماعات المسلحة مباشرة او عبر وسطاء دوليين . ولكن واقع الحال يشير الى عكس ذلك , فالدول الكبرى في سباق محموم لصناعة الاسلحة وبيعها لمن يطلبها ويدفع ثمنها وباسعار مرتفعة , وتقف الولايات المتحدة في المرتبة الاولى في العالم في مبيعات الاسلحة , وتأتي روسيا في المرتبة الثانية , حيث تبيع الدول الكبرى اسلحة بمليارات الدولارات وتشكل هذه المبيعات احد المداخيل القومية لهذه الدول .
اما الامن والسلم الدوليين اللذين يعدان من اهم مقاصد الامم المتحدة فهو شأن خاص بالدول الكبرى , اي ان تنعم شعوب هذه الدول بالامن والسلم فقط ,دونما اي اهتمام بان تنعم شعوب دول الجنوب بهذا الحق . كما ان المسؤولين في دول الجنوب تقع على عاتقهم مسؤولية اشاعة الامن والسلم في بلدانهم بحيث تنعم بها شعوبهم , وهذا الامر يقتضي منهم توجيه عنايتهم باتجاه التنمية بكل مضامينها واقرار مبادئ التعاون والعلاقات الودية بين الدول وعدم الركض وراء سباق التسلح الدولي والاقليمي .
المصادر :
....................
1.د. حسن طوالبه , التجمع المؤسسي والسلام العالمي , بغداد , دار الشؤون الثقافية , 2001 , ص 7ـ10.
2.جوزيف ناي الابن , المنازعات الدولية , ترجمة : احمد امين الجمل ومجدي كامل , القاهرة , 1997 , ص 82 . وكذلك , بيير رينوفان , مدخل الى العلاقات الدولية , ترجمة : فايزكم نقش , بيروت , 1967 , ص 8 .
3 .د. حسن طوالبه , نظام الامن الجماعي في النظرية والتطبيق , اربد , دار عالم الكتب , 2005 , ص33 .
4 . د .محمد يوسف علوان , حقوق الانسان في ضؤ القوانين الوطنية والمواثيق الدولية , عمان , 1993 , ص 249. 13/2/2012
التعليقات (0)