نذالة!
في إحدى سفراتي المهنية الي الجنوب التونسي، أراد زميلي الظريف جمال حمدي تهوين بعض مشاق السفر، فطفق يروي لي آخر ما بلغه من نوادر و نكت حتى وصل به الحديث الى ذلك اللئيم الذي مثل و صاحبه بين يدي السلطان فقال له الأخير:" تمنّ ما تشاء، و لكن اذا تمنيت شيئا فسأهب رفيقك ضعفيه، فقال اللئيم " أفقئوا عيني في الحال!"كل ذلك، حتى يصير صاحبه أعمى!
ما إن أتمّ صاحبي طرفته، حتى دوّت من خلفنا ضحكة صاخبة. حين التفتنا الى مصدر الصوت رأينا رجلا عظيم الهامة متين البنيان قد وخط الشيب عارضيه.. كان يضحك ملء شدقيه، لكنه سرعان ما قطع ضحكه ليحتل ملامحه عبوس طارئ أعقبته زفرة حادّة.. بقيت و صاحبي واجمين، لم ندري أنعجب من عظم هامة الرجل أم من سلوكه الغريب و تحوله المفاجئ من الانبساط الى الانقباض، و من الضحك الي العبوس الشديد.
كان الرجل يحتل الكرسي الخلفي من الحافلة.
صاح به زميلي جمال حمدي :
ــ تعال يا عمّ أجلس معنا.
حين نهض الرجل من مكانه راعنا طوله.. كان عملاقا حقيقيا. و لما اقترب منا هالنا رؤية هامته وقد كادت تلامس سقف الحافلة. أما حين صافحنا فقد طال تعجبنا لضخامة يده( كانت يدي في يده كيد مولود جديد في يد شخص بالغ!).. حيّانا بأدب جمّ لم يكن ينتظر ممن كان في فظاظة مظهره و رثاثة ثيابه..قدم نفسه قائلا بلهجته البدوية:
ـــ عمكم منصور الهواري. أصيل مدينة قابس لكنني أقيم في الكريب، تاجر خضر في سوق أسبوعي عندي ولد واحد في سن الرابعة عشر
سألته باسما:
ــ ما شاء الله، أهو في مثل بنيانك الهرقلي؟
أجابني ضاحكا:
ــ هو الآن في مثل قامتي غير انني لا ادري بما تفاجئنا به الأيام!
كان صاحبي جمال أكثر مني جرأة، لأجل ذلك بادره قائلا :
ـــ أخبرني عم منصور، ما السر في تحولك الفوري من الضحك الى العبوس و من البهجة الى الحزن؟
أطلق عم منصور زفرة حرّى ثم قال:
ــ ذكرتني طرفتك عن النذالة بمأساة حقيقية كنت أحد شهودها.
سكت عم منصور طويلا، حرك رأسه يمينا و شمالا، تنهد ثم قال:
ــ لقد وددت، و الله على ما اقول شهيد، لو كسرت رجلي أو دقت عنقي و كنت في عالم الأموات حتى لا أشهد تلك المأساة.
قال ذلك، ثم أخرج علبة سجائر من النوع الرخيص، عرض علينا سيجارتين، لكننا اعتذرنا شاكرين" نحن لا ندخن" هكذا قلنا له.
دسّ عم منصور سيجارته بين شفتيه ثم قال:
ـــ هنيئا لكما يا ولديّ.
ثم وهو يبحث بين ثنايا ثيابه عن علبة الثقاب:
ـــ لعنة الله على هذه الحشيشة الكلبة، فقد كانت وراء كل ما حدث في ذلك اليوم.
حين إستأذننا عم منصور في التدخين، خجلنا من قول لا، خصوصا و أن السائق الذي كانت تعلو رأسه لافتة كبيرة كتب عليها "ممنوع التدخين" كان يدخن بشراهة!..غير أن صاحبي جمال حمدي استأذن في فتح النافذة لتحديد أضرار النفثات المرتقبة. أشعل عم منصور سيجارته أخذ منها نفسا عميقا، ترك الدخان يتسرب من منخريه ثم قال:
ـــ حدث ذلك في سوق بلدتنا، كان ذلك منذ عقد من الزمان، في رابع أيام شهر الصّيام المعظم.. كان الوقت عصرا، وكانت أعصاب الجميع: باعة و حرفاء جدّ متشنجة بفعل الامتناع القهري عن التدخين.. كان الجوّ المتوتر يذكّرك في كل لحظة و حين بالمثل الشعبي القائل "اذا بغيت البلاء من غير أصل، كلّم الصائم بعد صلاة العصر".
لكزني زميلي جمال حمدي ثم قال لي مهددا:
ــ تذكر هذا المثل جيدا، فبعد أقل من شهرين، سيحلّ شهر الصيام!
استمر عم منصور:
ــ لما كان حسونة بن رابح من أكثر الباعة إدمانا على هذه الحشيشة الكلبة، فقد كان أكثرنا توترا و أشدنا قابليّة للإنفجار، لأجل ذلك كنا نحاول تجنبه قدر المستطاع. كان حسونة بن رابح قد دأب منذ عرفته على التخصّص في بيع اللبن و مشتقاته في كل مناسبة يحل فيها الشهر الكريم.
توقف عم منصور قليلا كي يدرك سيجارته قبل أن تخبو، أخذ منها نفسا طويلا ثم طفق يقول:
ـــ رغم فظاظة الرجل وفقدانه الكليّ لأدب التعامل مع الحرفاء، فقد عرف و الحق أجدر بأن يقال، بنزاهته و نظافة يده وبعده عن الغشّ و الإحتيال. لأجل ذلك كان غضبه شديدا و ثورته جامحة حين مثل أمامه شاب حديث السن زاعما أن اللبن الذي اشتراه منه بالأمس كان مغشوشا، مما نتج عنه تبادل شتائم تلاه تشابك بالأيدي كاد ينتهي بما لا يحمد عقباه، لولا تدخل أهل الخير.
نزع عم منصور طربوشه، حك رأسه الأشيب ثم قال:
ـــ كان حسونة بن رابح لا يزال تحت تأثير غضبه من الشاب السالف الذكر، حين أقبل عليه عمار البرني: رجل في الخمسين صاحب متجر كبير لبيع الأقمشة.. رغم غنى عمار البرني، فقد اشتهر بثقل دمه كحريف، بالاضافة الي بخله الشديد..
سكت عم منصور قليلا اطلق زفيرا حادا ثم اضاف:
ـــ ما لم نكن نعرفه عن عمار البرني قبيل الحادثة، انه كان نذلا من الطراز الأول.
حين توقفت الحافة في محطة فرعية توقف عم منصور قليلا ليفيدنا بان حادثا مروعا قد حصل اول أمس قرب مكان توقفنا.. لاحظنا بدورنا وجود شاحنة مقلوبة. حين انطلقت الحافلة من جديد اندفع عم منصور يقول:
ـــ طلب عمار البرني لترا من اللبن، فلبي طلبه فورا. ما ان حصل اللبن بين يديه ثم علم ان ثمنه قد زاد عشر مليمات، وهو مقدار زهيد كما تعلمان، حتى رفض دفع تلك الزيادة الطفيفة.. ارتفع الصراخ بين البائع و المشتري حتي جمع الناس حولهما..كان حسونة بن رابح يصيح كمن بن مسّ من الجنون:" و الله لن تذوق لبني ولو دفعت ثمنه مضاعفا".وكان الحريف يردّ بكل خسّة، (خصوصا و هو الغني الموسر):" والله لأذوقنه غصبا عنك. و بالثمن الذي أريده!"
تنهد عم منصور ثم قال بلهجة حزينة:
ـــ رغم محاولتي إقناع الحريف عمّار البرني بأنّ الزيادة قانونية فقد رفض تصديقي و أصرّ على موقفه، كما رفض أيضا ( و على غير عادته) تطوّع أحد الحاضرين بتسديد الفارق موضوع الخلاف، وكان موقفا عجيبا من ناحيته!
ضحك زميلي جمال حمدي ثم قال موجها خطابه لعم منصور:
ـ اسمح لي على المقاطعة، فعلا هو موقف عجيب اذا صدر من بخيل، و قد ذكرني هذا بموقف يهودي و اسكتلندي
خبط زميلي جمال حمدي فخذه بكفه، شرع يضحك، ثم واصل:
ــ ذات مرة سأل محقق أحد الشهود: و لكن كيف عرفت ان اليهودي و الأسكتلندي كانا في حالة سكر حين مرّا بك؟ أجاب الرجل: لأن الأول كان يلقي بحافظة نقوده و كان الثاني يرجعها إليه في كل مرّة!
ضحكت طويلا لطرفة زميلي جمال غير ان عم منصور ظل صامتا، مما حمل زميلي جمال حمدي على الإعتذار حين لمس جدية الرجل و تأثره بما كان بصدد روايته.
ما ان فرغت من ضحكي حتى طفق عم منصور يقول:
ـــ حينئذ اشتعل غضب حسونة بن رابح، انفلت نحو حريفه وهو يصيح:" بل أسكبه على الأرض ولا تشرب قطرة منه". حلت بين حسونة بن رابح الذي اندفع كثور هائج و بين الوصول الى حريفه اللئيم، خشيت أن يتصادما. ويا ليتني لم أفعل.
القى عم منصور بعقب سيجارته على أرضية الحافلة، سحقها بقدمه. مسح شاربه بكفه الأسطورية ثم قال بنبرة يغلب عليها الحزن و الأسى:
ــ كنت مسيطرا على حسونة بن رابح حين كان يحاول دفعي وهو يصيح بغريمه" أم أولادي طالق لو شربت من لبني قطرة واحدة".
كان الحريف النذل على بعد مترين منا بفعل تكاثر الناس من حولنا و إجتماعهم علينا حين بلغني صوت غريمه من ورائي و هو يقول لمن حوله: "هل تشهدوا يا رجال أنّ زوجته طالق لو شربت منه قطرة واحدة "؟ صاح به حسونة بن رابح وهو يجاهد كي ينفلت من قبضتي:
قاطعه زميلي جمال ضاحكا:
ــ سامحك الله يا عم منصور، ومن يستطيع الإفلات من قبضتك؟..
ثم اردف مقهقها:
ـــ أراهن بحياتي أن مايك تايسن نفسه يعجز عن ذلك!
تأثر عم منصور منعه من إبداء أي تعليق عما قاله زميلي جمال حمدي، لأجل ذلك استمر يقول:
ــ صاح حسونة بن رابح وهو بين يديّ "أم أولادي طالق ثلاثا لو شربت منه قطرة واحدة! "
في تلك اللحظة الكارثية بلغتني همهمة سرت بين الحضور.. لم أميّز
منها إلا حوقلة البعض و تكبير البعض الآخر!.. قبل أن أتمكّن من الإلتفات ورائي، قرأت المأساة على وجه أسيري الذي تحوّل في لمح البصر من حمرة الغضب الي صفرة الموت، قبل أن يتهاوى بين يديّ كجثة هامدة.
زفر عم منصور زفرة حرّى، إستغفر الله العظيم مرتين، سكت بعدها طويلا، أخرج من جيبه سيجارة أخرى، تنهد ثم قال:
ــ حين التفت ورائي، رأيت النذل الأعظم ملطخ الشارب باللبن!
صحنا بصوت واحد:
ــ هل شرب اللبن ؟!
طأطأ عم منصور رأسه، حركه مرتين ثم رفعه و قد كست وجهه سحابة حزن:
ــ أجل يا ولديّ!
ثم معقبا:
ـــ لقد ضحّى النذل بفطر يوم في رمضان من أجل خراب بيت الرجل و طلاق ام أولاده!
عقدت المفاجأة لسان زميلي المهذار جمال حمدي الى حد الزمته الصمت!
في حين قلت متعجبا:
ــ لم اكن أتصور قط ان تبلغ النذالة بانسان ما الى هذا الدرك الأسفل.
استمر عم منصور بلهجة متاثرة بحزنه العميق:
ــ حينئذ غلت الدماء في عروق عمكم منصور، نثرت ما كان بين يديّ من رجال كانوا يحولون بين و بين ذلك النذل ثم اندفعت نحوه.. قبل أن أصل إليه، دوّى صوت المؤذن لصلاة العصر، بيد أن ذلك النداء السّماوي لم يحل بيني و بين قراري.
هتف صديقي جمال حمدي مستعجلا:
ــ ماذا قررت يا عم منصور؟
اجاب عم منصور و قد سرح بصره:
ــ لقد حدّثني أمّارتي بالسّوء، أنّ قتل ذلك النذل هو أفضل ما يمكن أن يتقرّب به عبد مؤمن الى ربّه في الشهر المبارك!
كنا نضحك حين تابع عم منصور متجهما:
ـــ لأجل ذلك لم أشعر إلاّ بيسراي وهي تقتلع النذل من الأرض وترفعه عاليا في مستوي كفيّ المرتجفة.
سكت عم منصور لحظات سمعنا خلالها نفسه وهو يتردد بين جنبيه في حين أخذ صدره يعلو و ينخفض من شدة تاثره حتى كانه يعيش الحدث الجلل ثانية. ما أن هدا قليلا حتى استمر قائلا:
ـــ لحظة هممت بلطمه، تذكرت ثكل أمّي و غربة إبنة عمّي و تشرّد ولدي من بعدي، فلعنت الشيطان الرجيم.
ضحك زميلي جمال حمدي ثم قال معلقا:
ــ خيرا فعلت يا عم منصور.
ثم معقبا:
ــ لقد وفرت على الداخلية التونسية مشقة صنع مشنقة إستثنائية ستظل معطلة من بعدك!
استمر عم منصور يقول:
ــ لكن قلبي لم يطاوعني على ترك النذل يذهب ببلاش قلت في نفسي "جعل الله بلاءه على غير يديّ !" لأجل ذلك اكتفيت بلطمه كما تعودت لطم ولدي الصغير و أنا أهارشه! لكنني لم أتصوّر قط أن لطمتي ستبيقه رهين العناية المركّزة!
سأله زميلي حمال حمدي مستحلفا :
ــ كم بقي هناك بالله عليك؟لأول مرة منذ شروعه في سرد المأساة تبسّم عم منصور ثم اجاب:
ــ لقد لطمته في الرابع من شهر الصّيام، فلم يفق إلاّ مع رجوع آخر حجيج قريتنا من بيت الله الحرام!
كنا مغربين في الضحك حين واصل عم منصور يقول:
ــ لقد ظل النذل أربعة أشهر وهو يصارع الموت قبل أن يثوب الى وعيه!
سكت قليلا ثم اضاف:
ــ كما مكثت في السجن ثلاثة أضعاف ما قضي وبش الأوباش في غرفة الإنعاش!
أوسلو 9/8/2009
التعليقات (0)