ندم على مدرج رخامي
دفنت وجهها بين ذراعيها وركبتيها وهي جالسة القرفصاء على مدرج شقة رخامي بإحدى العمارات الشاهقة في حي بذخ وثراء...كانت في حالة ذهول أقرب ما تكون لغيبوبة،إنها لا تقوى على تمثّل ما انقادت إليه منذ أقلّ من ساعة...
قبيل هذا الفاصل الزمني المنفلت القصير لم تكن لها وجهة محدّدة سوى البحث عن مكان آمن فيه أناس طيّبون يساعدونها على حماية نفسها وعائلتها الصغيرة من مخالب الاحتياج التي تدمي قلبها المكلوم وتنهك جسدها الغضّ...لديها ما تعرضه من خدمات على الناس فيما ترى أنه مسموح به وقادرة عليه،فهي تحذق الطبخ والتنظيف ورعاية الأطفال ولها مهارات في غسل الملابس وكيّها فضلا عن شهادة في معالجة النصوص والرقن بالإعلامية،لكنّها لا تستطيع أن تقضي كامل اليوم خارج بيتها فهي أم لبنتين صغيرتين وزوجة لرجل مقعد نهش جسده مرض خبيث،جميعهم يحتاجون رعايتها وينتظرون دخولها عليهم بما استطاعت أن توفّره لهم من حاجياتهم المعيشية الأكيدة خلال ساعات النهار التي تضطرّ فيها إلى تركهم بحثا عن عمل عرضي لا يفي بالحاجة...
ليست استثناء في دنيا الفقر والاحتياج بما تعنيه من معاناة وشظف عيش،فمثيلاتها كثيرات وصراعهن مع غوائل الدهر مكتوم بجلبة الشوارع المزدحمة وأزيز السيارات ومساحيق الحسناوات ونهم البطون المتخمة...
لكنها تبدو استثناء في استراحتها المريبة على مدرج رخامي صلد خلف شقة عمارة شامخة بعلوها وجمال معمارها...
ترى ما الذي غيّرته دقائق نزقة في حياتها؟
كانت قبيل أن تتهالك على المدرج الرخامي الصقيل في هذه العمارة تضغط على أزرار نواقيس شققها عارضة خدمات معينة منزلية لسويعات،إلى أن بلغت باب الشقة التي تدير لها ،في مشهدها الحالي وفي جلستها القرفصائية،ظهرها واجمة...فعلتْ مع زرّ هذه الشقة ما فعلته مع غيره ممنية النفس باستجابة سخية لعرضها،لكن لا من مجيب،طرقت الباب فانفتح دون فاتح...ما الأمر يا ترى؟..
وجدت نفسها داخل الشقة:شقة أنيقة مؤثثة بفاخر الأثاث،مرتبة بعناية وذوق رفيع،لكن لا حياة للبشر فيها ،ساكنة هادئة...
لكن ما الذي دفع بعارضة خدمات معينة منزلية أن تدخل شقة في غياب أهلها؟..
لما طرحت هذا السؤال على نفسها امتدت يداها إلى درّج خزانة به مصوغ أبهرها وأغواها،وضعته في حقيبة يدها ثم غادرت الشقة دون أن تبرح مدارج قبالتها...
منذ ما يربو عن ساعة ونصف الساعة وهي جالسة على الرخام يلسعها ببرودته،لقد مرّ من الوقت ما يكفي لتستفيق من ذهولها ثم لتبكي ثم لتكفكف دموعها إلى أن لمحت بهيّ طلعة يصعد المدرج قبالتها،هو رجل يفور وجهه بالحياة والبهجة،تدفع ملامحه على الارتياح له،قد لا يفوقها سنا إلا بسنتين أو ثلاث...
بعد أن تأكدت أنه صاحب الشقة التي استضافتها باستئذان من بابها غير المقفل،أبلغته بما فعلته منكسرة،مستعطفة،طالبة المغفرة،معربة عن ندمها وقد بادرت بإرجاع ما استحوذت عليه إليه...اكتفى بأن طلب منها بصوت الآمر بطاقة هويّتها فاستجابت له دون تساؤل ولا إبطاء...
تركها الرجل في مكانها الذي لم تبرحه،وما هي إلا دقائق حتى عاد مصحوبا بأعوان الشرطة الذين ألقوا عليها القبض وقادوها إلى المخفر...
لدى مثولها أمام القضاء ثبتت إدانتها وقضت بسجنها...
فهت معنى الندم على مدرج رخام صلد جليدي،ولم تتحسّر على شيء إلا على ابتيها وزوجها...
_____________________
تجربة حياة من صميم الواقع،مستوحاة من مطالعتي لتفاصيل قضية نظرت فيها المحاكم التونسية وأوردت ملخّصها صحيفة "الصباح "التونسية بصياغة أخرى بتاريخ 25-3-2010.
التعليقات (0)