نداء
الأمم العظيمة تعتز بهويتها، وتقدم اسهامها في الحضارة الإنسانية من موقع المستقل المتحرر، وترفض الذوبان الحضاري والانسلاخ الثقافي.
الأمم العظيمة ترفض التقليد والتبعية، وتدافع عن حقها في الوجود والحياة، وتحول تجربتها التاريخية إلى أداة لتحقيق النهضة والتقدم.
ومن المؤكد ان الأمة الإسلامية أمة عظيمة أراد الله لها أن تكون فاعلة في التاريخ، وأن تقوم بأداء الوظيفة التي خلق الله البشرية للقيام بها. وهي أمة صاحبة حضارة متقدمة تمتع الإنسان في ظلها بالعدل والحرية لقرون طويلة.
حالة الضعف التي مرت بها الأمة الإسلامية منذ القرن السابع عشر لم تكن نتيجة ضعف ذاتي في الأسس الفكرية والثقافية التي قامت عليها هذه الحضارة، ولكنها كانت نتيجة لعوامل الفرقة والخلاف والصراعات الداخلية.
استغل الغرب حالة الضعف تلك ليسيطر على بلاد المسلمين عسكرياً، ويبدد الملايين منهم في حرب انتقامية عدوانية غاشمة.
لم يكن السلوك الغربي ضد المسلمين منذ سقوط الأندلس حتى الآن ينبع من حضارة إنسانية لها معاييرها الاخلاقية، ولكنه ينبع من رغبة متوحشة في الانتقام والإبادة.
دراسة الاستعمار الفرنسي في الجزائر توضح تلك الحقيقة، كانت فرنسا التي تدعي التمدين والحضارة وترفع شعارات الحرية تقوم بعملية إبادة لشعب الجزائر، وهي إبادة مادية وثقافية، حيث كانت تريد فرنسة الشعب الجزائري بمعنى أن يتخلى بشكل كامل عن هويته الإسلامية، ويصبح فرنسيا يتحدث لغة فرنسا، ويتبع نموذجها الحياتي.
لكن فرنسا فوجئت بأنها قد فشلت برغم عنف عملية الابادة المادية، وأن الهوية الإسلامية لا يمكن أن تقتلع من نفسية الجزائريين لأنها تشكل حياتهم وشخصيتهم وتاريخهم ومستقبلهم.
الجزائر تعود لمحمد
لقد فوجئت فرنسا بعد أكثر من قرن من عمليات الابادة والقهر والتخويف بأن الجزائريين يخرجون إلى الشوارع يرفعون شعار الجزائر تعود لك يا محمد. ولقد كان أهم انجازات ثورة الجزائر أنها أوضحت لفرنسا ولكل العالم أن الهوية الإسلامية لا يمكن ان تنتزع من نفوس آمنت بالله، وذاقت حلاوة الإيمان.
تجربة الجزائر أثبتت ان عمليات الإبادة والقهر المادي مهما بلغت قسوتها فانها لا يمكن أن تحول ولاء الناس وتغير مشاعرهم وتبدل شخصيتهم. صلابة الجزائريين تجلت غداه ثورتهم في إعلان هويتهم الإسلامية والتمسك بهذه الهوية باعتبارها تشكل الحرية والاستقلال والتميز الحضاري.
شعب الجزائر أثبت ان المسلمين مهما انهزموا فإنهم قادرون على تحقيق الانتصارات، وتحقيق الاستقلال عندما يتشبثون بهويتهم الإسلامية، ويعتزون بها، ولذلك لم تجد فرنسا في مواجهة هذا الموقف بديلاً سوى الانسحاب والتخلى عن الحلم الفرنسي في تحويل الجزائر إلى قطعة من فرنسا.
لقد كان شارل ديجول حكيماً عندما قرر الانسحاب من الجزائر، وفرنسا ستظل تدين لهذا الرجل بحياتها لأنه لو لم يتخذ قراره بالانسحاب لظلت تغوص في المستنقع الجزائري حتى تنهار. لقد فضل ديجول بشجاعته الاعتراف بالهزيمة والانسحاب وبذلك أنقذ فرنسا.
أمريكا لم تفهم
لكن أمريكا لم تفهم الدرس، وهي تكرر تجربة فرنسا، قد يكون أسلوبها أكثر مكراً وأشد كيداً. فهي قد تحالفت مع النظم الاستبدادية في العالم الإسلامي بهدف فتح المجال للغزو الثقافي الغربي، وتغيير نظم التعليم لحرمان الناس من الحصول على المعرفة التي تعزز شعورهم بالانتماء للإسلام، وتزيد قدرتهم على تشكيل حياتهم طبقاً لمبادئه.
أمريكا تعرف تماماً أنها لن تنجح في السيطرة على العالم الإسلامي إلا عندما تتمكن من تشكيل حياة الناس بمعزل عن الإسلام، وتغييب المعرفة التي تؤدي إلى اعتزاز الناس بهويتهم الإسلامية.
وأمريكا أنفقت الكثير من الأموال، ومازالت تنفق ليتغير مضمون المناهج التعليمية في العالم الإسلامي. والهدف بوضوح هو ابعاد الناس عن الإسلام بمفهومه الشامل الذي يشكل الحياة كلها، ويربط بين الدين والدنيا، والعبادة والسياسة، ويؤهل الناس للعمل والبناء وتحقيق النهضة، وتشكيل الحضارة واعمار الأرض.
آخر ما تفتق عنه الكيد الأمريكي هو تقديم ملايين الدولارات لرئاسة السلطة الفلسطينية لبناء نظام تعليمي بديل لذلك النظام الذي تسيطر عليه حماس.
أمريكا تعرف أن أهم انجازات حماس هو الانجاز الثقافي التعليمي الذي شكل شعور الشعب الفلسطيني الذي أصبح يعتز بهويته الإسلامية، ويدرك أن تلك الهوية هي أهم أسلحته في مقاومته التاريخية للاحتلال، ويدرك أيضاً ان اعتزازه بتلك الهوية هو أهم مؤهلاته النضالية الإنسانية الحضارية التي ستجعله قادراً على تحرير أرضه مهما طال الزمن.
هوية البشر ترتبط بهوية الأرض، وفلسطين بتاريخها وجغرافيتها وبشرها وحضارتها إسلامية، وهي ترتبط بهوية الأمة، وعلى هذه الأرض سوف تتجمع يوماً كل الخبرات التاريخية للأمة لتطرد المحتل الغاصب وما قامت به أمريكا في فلسطين من المؤكد انها قد قامت به في الكثير من الدول العربية والإسلامية حيث دفعت النظم الحاكمة ترغيباً وترهيباً، قهراً واجباراً واغراء على تعديل مناهجها التعليمية وحذف كل المضمون الذي يساهم في تشكيل الهوية ليصبح هدف التعليم هو تخريج عمال مهرة يستطيعون الحصول على فرص عمل في شركات الأعمال، وفي ظل اقتصاد متعولم أو متأمرك، دون أن يطمح أحد منهم إلى ممارسة دور في العمل العام، أو يهتم بشؤون الأمة، أو يعتز بالانتماء لها.
إعلام بلا هوية:
ما تقوم به أمريكا لاجبار النظم الحاكمة في الدول الإسلامية على تعديل مناهجها التعليمية تكملة بدفع تلك النظم إلى فرض القيود على إنشاء وسائل إعلامية جادة تحقق حق الجماهير في المعرفة، وفتح المجال فقط أمام الوسائل التي تهدف إلى تحقيق التسلية واشاعة الفاحشة، وجذب الشباب عن طريق اثارة الغرائز.
لقد أصبح الكثير من وسائل الإعلام في العالم الإسلامي أدوات للغزو الثقافي الغربي، وما تقدمه هذه الوسائل يتعارض مع الخصوصية الحضارية، والذاتية الثقافية للأمة الإسلامية.
لقد وفرت هذه الوسائل الفرص للانحراف الأخلاقي الناتج عن التشبه بالغرب، وتقليد النموذج الحياتي الغربي، حيث يتم التركيز على الحصول على المتعة وتحقيق النجاح المادي.
اننا لابد أن نعترف أن الغزو الثقافي الغربي قد حقق نجاحا، وأدى إلى خسارة الأمة للكثير من شبابها، لكن ذلك كان بسبب ضعف النظم الحاكمة واستسلامها للمطالب الأمريكية.
كما أننا لابد أن نعترف بأن المعركة في ميدان الثقافة والفكر والتعليم والإعلام قد تكون أصعب من كل أشكال الحرب.
لكن الأمة لابد أن تواجه الغزو الثقافي الغربي، ولابد أن تنتصر، فتلك معركة حياة ودفاع شرعي عن الذات وعن حق الاجيال القادمة في مستقبل أفضل، وعن حق الأمة في التحرير والاستقلال.
معركة الهوية:
ان الأمة الإسلامية لابد أن تشكل الأجيال القادمة على أساس الاعتزاز بالانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس كما وصفها الله سبحانه وتعالى.
الاعتزاز بالهوية يكسب الأمة قوة، ويشحذ عزيمتها للبناء، وتحقيق النهضة، لذلك فإن مواجهة الغزو الثقافي الغربي في مجال التعليم والإعلام يجب أن تحتل مكانها في المشروع الحضاري الإسلامي.
الأمة تحتاج إلى نظام تعليمي يشكل الشخصية الإنسانية المتكاملة القادرة على الإبداع كأستاذ وليس كمقلد تابع للغرب.
الأمة تحتاج إلى نظام تعليمي لا يكتفي بتعليم المهارات الفنية التخصصية اللازمة لسوق العمل، ولكنه يبني الشخصية القوية التي تعتز بهويتها، وتفخر بالانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، وتقوم بوظيفة هذه الأمة في بناء الحضارة.
الأمة تحتاج إلى إصلاح نظامها التعليمي ولكن ليس طبقاً لمتطلبات الإدارة الأمريكية وشروطها، ولكن طبقاً لمشروع حضاري إسلامي يعيد للأمة حقها في النهضة والتقدم والحرية والاستقلال.
وفي الوقت نفسه تحتاج الأمة إلى نظام إعلامي جديد يتيح إنشاء الكثير من وسائل الإعلام التي تقدم للجماهير الإسلامية المعرفة، والمضمون الجاد الذي يساهم في تطوير كفاحها ضد الاستعمار العسكري والثقافي.
الأمة تحتاج إلى وسائل إعلامية جديدة تقدم لها مضموناً يساهم في زيادة اعتزازها باسهامها الحضاري التاريخي ويعرف الأجيال الجديدة بالتجربة التاريخية الطويلة.
من المؤكد ان الغزو الثقافي الغربي سوف يفشل وستعود الأمة إلى الإسلام ليشكل دورتها الحضارية القادمة، ولكننا يجب أن نحقق شروط النصر بمواجهة الغزو الثقافي الغربي، ببناء نظام تعليمي وإعلامي جديد.
ولكي ندافع عن حقنا في الحياة وفي الحرية والاستقلال لابد أن نعيد إلى شبابنا الفخر بالهوية الإسلامية، والاعتزاز بالانتماء للأمة، والثقة في قدرتها على تحقيق النصر والنهضة والتقدم
التعليقات (0)