نحو نظام دولي متعدد الأقطاب
فرصة الولايات المتحدة لإقامة نظام أحادي القطب قد تلاشت ولن يكون بمقدورها إلا أن تكون أحد الأقطاب الرئيسيين في بناء نظام عالمي جديد قائم على التعددية.
بعد مضي عقدين على انتهاء نظام ثنائي القطبية في العالم, أي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشيوعية بعامة, وزوال آلياتهما المتمثلة بحلف وارسو العسكري ومنظمة الكوميكون الاقتصادية, وتفرد الولايات المتحدة خلال تلك المدة بزعامة العالم, ثبت رأي الذين قالوا -وأنا منهم- أن زعامة الولايات المتحدة لم تُشكل نظاماً دولياً جديداً, المعروف بالنظام الأحادي القطبية, بل شكلت وضعاً دولياً متحركاً قابلاً للتبدل.
الولايات المتحدة في عهد إدارة المحافظين الجدد لم تتمكن من التربع فوق قمة الهرم العالمية بجدارة, أي لم تستطع أن تنال شرف القيادة العالمية بجدارة, بل فرضت سيطرتها بالقوة العسكرية, في مدة غابت القوى المقابلة مثل روسيا, التي تخبطت قيادتها زمن يلسن ولم تستطع أن تقف على ارض صلبة إلا بعد عقد من حكم الرجل العجوز.
خلال العقدين الماضيين راودت عقول قادة الولايات المتحدة حلم السيادة العالمية, منطلقين من أوهام توراتية موجودة في الكتاب المقدس, بأن الرب اختارهم لأنهم الأفضل لحكم البشر في العالم كله. وزاد في توثب أحلامهم, ممكنات القوة المادية والعسكرية والاقتصادية لديهم, وانطلقوا بقواتهم العسكرية زاحفين نحو بلدان العالم لغزوها وإسقاط الأنظمة فيها, خاصة في بلدان الشرق منبع الحضارات التي أمدت البشرية بعطاءات الخير والمحبة, وكان من نتائج فعلهم العدواني أن أيقظوا مشاعر الحقد والكراهية لدى هذه الشعوب ضد الولايات المتحدة, فانتعش العنف الأدنى ضد العنف الأعلى أي عنف الفقراء والضعفاء والمستضعفين, ضد عنف الأغنياء والأقوياء والمتعالين والمستكبرين. فعمت الفوضى بلدان الشرق الأوسط وكانت أرض العراق منطلقاً للعنف والإرهاب والفوضى الذي امتد إلى بلدان أوروبا التي ناصرت الاعتداءات الأمريكية, والتي لها تاريخ استعماري لم ينمح من ذاكرة أبناء شعوب المنطقة.
خلال العقدين الماضيين وأثناء انشغال الإدارة الأمريكية بغزواتها تكونت لدى الرأي العام العالمي والرأي العام الأمريكي قناعات بكذب الإدارة الأمريكية أثناء سوق الحجج لتبرير الاعتداءات الخارجية, ونظمت الجمعيات الأمريكية مؤتمرات وندوات ومظاهرات ضد السياسة الأمريكية العدوانية الخارجية, الأمر الذي قاد إلى فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات التشريعية, وضمان الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس .
كان الالتفاف حول المرشح الديمقراطي أوباما آتٍ من طرح شعار التغيير في السياسة الأمريكية ابتداء من طرح فكرة سحب القوات الأمريكية من العراق خلال ستة عشر شهراً. ورغم ذلك فإن فرصة الولايات المتحدة بإقامة نظام أحادي القطب قد تلاشت ولن يكون بمقدورها إلا أن تكون أحد الأقطاب الرئيسيين في بناء نظام عالمي جديد قائم على التعددية وليس الأحادية.
وبالمقابل فإن العقدين الماضيين شهدا نمو قوى دولية صاعدة مثل الصين, التي استفادت من الدرس السوفييتي, فبدلاً من أن تنتظر القِدر (بكسر القاف) ينفجر بعد الغليان, نفسّت قدر الضغط وأجرت تعديلات على آليات تطبيق النظام الاشتراكي المحكم وعلى آليات النظام السياسي المركزي المتمثل في سلطة الحزب ومن ثم سلطة المؤتمر العام للحزب, ثم سلطة اللجنة المركزية ثم زعيم الحزب. وأجرت تعديلات على النظام الاقتصادي, وانفتحت على الاقتصاد العالمي, وفتحت أبواباً محكمة من خلال المدن الصناعية أمام الاقتصاد العالمي والتقنية العالمية والجودة التي تملكها الدول الصناعية الأخرى.
ومن خلال هذا الانفتاح حقق الاقتصاد الصيني نمواً فاق كل التصورات, بحيث وصل إلى 13% وهو ما لم يصله أي اقتصاد في الدول الصناعية المعروفة. وصارت المنتجات الصينية هي الرائجة في الأسواق العالمية نظراً لرخص أسعارها, وملاءمتها لدخول الفقراء في دول العالم.
وفي الوقت نفسه فتحت الصين أبوابها بحكمة ورقابة غير مباشرة على ثقافات الأمم والشعوب, وعدلت من قوانين الرقابة والإعلام والاتصال, فأقبل الصينيون على منتجات العولمة في حقل الاتصال والإعلام وعلى تعلم اللغات الأجنبية, وصارت الصين إحدى الأماكن السياحية المرغوبة التي تجذب السياح لمشاهدة سور الصين العظيم والمدينة المحرمة, أي مدينة الأباطرة القدماء, والاطلاع على تراث الصين الأسطوري, وقد جاءت استضافة الصين للأولمبياد, تعبيراً عن قدرة الصين على التفاعل مع التقنية العالمية المعاصرة, في بناء منشآت عصرية بهرت المشاهدين في كل أنحاء العالم.
وبفعل التطور الاقتصادي عملت الصين على تطوير قدرات القوات المسلحة الصينية فنياً وقتالياً في البر والبحر والجو, ودخلت نادي الدول العظمى في اكتشاف الفضاء, وإرسال أقمار صناعية متعددة الأغراض. وبفضل هذه الممكنات البشرية التي تجاوزت مليار وربع المليار نسمة, والممكنات الاقتصادية والعسكرية, صارت الصين دولة عظمى ورقماً مهماً في صياغة النظام الدولي الجديد. فالصين تلعب دوراً دولياً مشهوداً في القضايا والأزمات التي تؤثر على الأمن والسلم في العالم منها ملف كوريا الشمالية النووي, وملف إيران النووي, وملف السودان, وغيرها من الملفات الدولية الملتهبة.
ويأتي دور الصين الإيجابي من سياستها الخارجية قديماً وحديثاً القائمة على مناصرة قضايا الشعوب الفقيرة ضد الاستعمار والتسلط, وعدم تدخلها في شؤون الدول الداخلية, وتركيزها على مصالحها القومية, ومن هذه المصالح أقامت علاقات اقتصادية مع إيران ومع السودان وقامت الشركات الصينية بالتنقيب عن النفط فيهما. وقد طلبت الإدارة الأمريكية من الصين التوسط لدى السودان في تذليل صعوبات تعترض ملف دارفور وجنوب السودان ـ قبل الانفصال ـ الغنيين بالنفط. كما ظلت الصين عضواً فاعلاً في اللجنة السداسية الخاصة بملف كوريا الشمالية النووي, ومكاناً لعقد اجتماعات هذه اللجنة, كما أن الصين عضو فاعلا في منظمة شنغهاي. وفي ضوء ممكناتها المادية والبشرية فقد استعادت الصين هونغ كونغ, ومكاو وتعمل في إطار الضغط الدبلوماسي والردع العسكري لاستعادة تايوان و صارت فرص نجاحها أكثر من الفشل, لا سيما في ضوء تراجع الهيمنة الأمريكية في العالم.
حاولت الولايات المتحدة محاصرة الصين والضغط عليها من خلال تايوان وخلق مشكلات للصين في الولايات الصينية البعيدة, وإثارة مسألة حقوق الإنسان من خلال مجموعات صينية تعارض النهج الصيني الاشتراكي القديم الشمولي والجديد المنفتح (اقتصاد السوق الاشتراكي) ولكن هذه المحاولات لم تثن الصين عن توجهها نحو العالمية, وسعيها لأن تكون قطباً فاعلاً في النظام الدولي المتعدد الأقطاب.
في السابق عملت الولايات المتحدة على تعميق الفجوة بين الاتحاد السوفييتي والصين وتشجيع نزعات الاستقلال القومية في دول أوروبا الشرقية والتمرد على سلطة السوفييت المركزية. وعملت إدارة الرئيس الأمريكي نيكسون - كسينجر على الانفتاح على الصين, في خطوة باتجاه تعميق الخلاف بين الصين والاتحاد السوفيتي, وهذا التوجه لم يحظ بالنجاح بعد تفكك الاتحاد السوفييتي, بل حصل تقارب أكبر بين الصين وروسيا الاتحادية, لحاجة كل منهما للآخر, فالصين بحاجة إلى التقنية الروسية في المجال العسكري والصناعات الحربية خاصة تقنيات الفضاء, وقد تعمقت العلاقات بين البلدين خلال العقدين الماضيين على الصعد السياسية والاقتصادية, فقد توثقت العلاقات السياسية من خلال اتفاقهما على ضرورة بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب, ومناهضتهما لسلطة القطب الواحد واشتراكهما في حل بعض المشكلات العالمية كاشتراكهما في اللجنة السداسية الخاصة بكوريا الشمالية, واشتراكهما في الموقف من قضية استقلال كوسوفو, وموقفهما الموحد من ملف إيران النووي, وموقفهما من مذكرة مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية الداعية إلى توقيف الرئيس السوداني عمر البشير, وموقفهما من الوضع في كل من ليبيا وسوريا , وموقفهما المتشابه إزاء حقوق الإنسان في العالم بمنظار موحد وليس موقفا يكيل بمكيالين.
أما روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي في ترسانته النووية, فكانت مثار اهتمام الإدارة الأمريكية, لأنها ما زالت دولة قوية, رغم التفكك الذي حصل في إدارة الحكم في عقد تسعينيات القرن الماضي. ورغم زوال مرتكزات الحرب الباردة توجهت نحو أوروبا لضمان تماسك المعسكر الغربي من خلال حلف الأطلسي, الذي كان من المفروض أن يتم حله بعد حل حلف وارسو المقابل وتوسيع نطاق عضويته بالاتجاه شرقاً نحو الدول التي كانت تحت المظلة السوفييتية, ووصلت دعوات الحلف إلى شمول دول محيطة بروسيا بعضوية الحلف مثل أوكرانيا وجورجيا وروسيا البيضاء.
وفي مؤتمر واشنطن الذي عقد في نيسان من عام 1999 لرؤساء وحكومات حلف الناتو, تم اتخاذ العديد من القرارات الجديدة التي تخص مهمات الحلف في المرحلة المقبلة منها حماية حرية أعضائه وأمنهم بالوسائل السياسية والعسكرية والإسهام في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة وردع التهديدات والعدوان ضد أي بلد من أعضاء الحلف والمشاركة في إدارة الأزمات والحوار واتخاذ القرارات الخاصة بالأمن الأوروبي.
وترجمة لهذه القرارات كان للحلف دور فاعل في حسم قضية صربيا وتدميرها وقلب نظام الحكم فيها وجلب رئيسها مليوزوفتش إلى محكمة لاهاي حيث مات قبل صدور الحكم عليه, ومن ثم التمهيد لاستقلال كوسوفو عن صربيا , ودوره في الحرب ضد طالبان والقاعدة في افغانستان , ودوره في ليبيا مؤخرا , حيث لن تنتهي مهمته. ومن الواضح أن حلف الناتو صمم لنفسه عدواً محتملاً في المستقبل هو روسيا الاتحادية. كما أن الإدارة الأمريكية وضعت عراقيل أمام مشاركة روسيا في وضع ترتيبات الأمن الأوروبي واعتبارها بلداً أسيوياً لا أوروبياً. وهكذا يعيد التاريخ نفسه, فعندما أنشئ حلف الناتو عام 1949 لمواجهة خطر الاتحاد السوفييتي, كانت الولايات المتحدة تدفع باتجاه الصراع وليس الحوار, فدخلت في دوامة الحرب الباردة التي اعتمدت على سباق التسلح النووي والصاروخي, ولم تنح الولايات المتحدة باتجاه الحوار مع حليفها في الحرب العالمية الثانية, وقد روج عدد من السياسيين والكتاب في الولايات المتحدة إلى خطر روسيا على الأمن الأوروبي, ولكن بعض الكتاب في أوروبا قللوا من خطر روسيا على أوروبا, بل وجدوا في التعاون معها مدخلاً لضمان الأمن الأوروبي.
إن تجديد مهمات حلف الناتو أثار مخاوف روسيا لا سيما بعد أن توسعت عضويته باتجاه الشرق خاصة باتجاه بحر البلطيق (أستونيا, لتوانيا, لاتفي) .(
وعندما تهيأت لروسيا قيادة قومية مخلصة, وتوفرت لها فرص النمو الاقتصادي إثر ارتفاع أسعار الطاقة (النفط والغاز) أخذت روسيا تستعيد تاريخها القومي الذي يعود إلى أكثر من ألف سنة, وتنمي المشاعر القومية لدى الروسي في إطار حدود روسيا وخارجها, كما سعت إلى تطوير القدرات العسكرية في البر والبحر والجو, وصارت المصانع الروسية العسكرية تصنع العديد من المعدات العسكرية لأغراض التصدير, وبذلك صارت روسيا ثاني دولة في العالم بعد الولايات المتحدة في تصدير السلاح إلى دول العالم. كما نما اقتصادها القومي, وصار في الخزينة فائض لأول مرة منذ عقود عدة. برز دور روسيا في السياسة الخارجية باستعادة عدد من أصدقاء الاتحاد السوفييتي السابق من خلال اتفاقيات أمنية وعسكرية, كما برز دورها في مجلس الأمن, واستخدمت حق النقض (الفيتو) في مؤشر على حيوية مجلس الأمن, وخروجه من الهيمنة الأمريكية طيلة المدة الماضية.
وجاءت الأزمة الجورجية التي بدأها الرئيس الجورجي الشاب الطموح ساكا شفيلي عندما أمر القوات الجورجية دخول عاصمة أوسيتيا الجنوبية, بإيعاز وتحريض من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني جاءت هذه الأزمة المصممة أهدافها من قبل قوى خارجية لتمنح روسيا فرصة لاستعادة دورها الدولي الذي يتفق مع حجمها وقدراتها البشرية والعسكرية والاقتصادية.
لقد حققت روسيا أهدافها العسكرية بوقت قياسي, ومنحت العملية العسكرية الروسية حكومتي أوسيتيا وأبخازيا التفكير في طرح فكرة الاستقلال عن جورجيا, في ضوء الدعم الروسي, ومحاكاة لما قام به إقليم كوسوفو من قبل المدعوم من الغرب والولايات المتحدة خاصة.
وجاء توقيع الاتفاق بين الولايات المتحدة وبولونيا بالأحرف الأولى على بناء بعض مستلزمات قاعدة الدرع الصاروخي, كي تثير مخاوف القيادة الروسية مجدداً, إذ سبق أن روجت الإدارة الأمريكية بأن بناء قاعدة الدرع الصاروخي موجه ضد الصواريخ الإيرانية, لكن الهدف الحقيقي هو استهداف روسيا. وبعد توقيع الاتفاق جاء رد الفعل الروسي على لسان نائب هيئة الأركان الروسية, بأن من حق روسيا استخدام السلاح النووي, ضد أي بلد مجاور لديه سلاح نووي موجه ضدها.
إن قضية جورجيا لم تنتهِ بعد, والذي قارب على الانتهاء هو العمليات العسكرية, والآتي هو المعركة السياسية والدبلوماسية من قبل أوسيتيا وأبخازيا الساعيتين إلى الاستقلال عن جورجيا, وهي معركة طويلة في إطارها السياسي, وإن كانت قد حسمت على أرض الواقع والأمر الذي أثار الرئيس الجورجي المبهور بالغرب, موقف أوروبا من الذي حصل, إذ كان يتصور أن تهب أوروبا إلى جانبه ضد روسيا وهذا لم يحصل لأكثر من سبب.0ظل السؤال قائما لماذا لم تقف دول أوروبا إلى جانب جورجيا في تلك الأزمة? انسجاما مع حنق الرئيس الجورجي على موقف الاتحاد الأوروبي السلبي إزاء ما حصل.. ويبدو أن الرئيس الشاب المندفع وراء أحلام تذوب وتذوب مع اشتداد وهج الشمس, قد نسي أن أوروبا هي القارة الأولى التي شهدت الحروب والصراعات والثورات والاتفاقيات والمعاهدات, وأبرزها الثورة الصناعية والثقافية التي حفظت للإنسان حقه الكريم في الحياة. كما أن هذه القارة اكتوت بنيران حربين عالميتين ذهب فيهما ملايين البشر, كما دمرت البنى التحتية فيها أثناء الحرب العالمية الثانية خاصة.
الدول الأوروبية التي أدركت ويلات الحروب خطت خطوة جادة باتجاه اللقاء والوحدة, فبدأت باتفاقية الفحم والحديد, وتطورت إلى سوق أوروبية موحدة, ثم اتحاد أوروبي موحد وعملة واحدة وبرلمان واحد ورئاسة دورية. وصارت أوروبا كتلة بشرية مرموقة تتجاوز ثلاثمائة مليون إنسان, وفيها اقتصاد متين, ونظام حياتي وامني يقوم على التعاون وتبادل المعلومات والخبرات. وبرزت من خلال الاتحاد الأوروبي, ثلاث دول تميزت على الصعد السياسية والاقتصادية في زعامتها الحالية حليفة للولايات المتحدة وهي بريطانيا وألمانيا وفرنسا, وجميع هذه الدول تدرك جيدا مدى أهمية روسيا في توفير الاستقرار والأمن في أوروبا, ونظرية الأرض الاوراسية ليست بعيدة عن مدارك الساسة الأوروبيين خاصة الألمان منهم. ولذلك سعت هذه الدول إلى إقامة علاقات متميزة مع روسيا الاتحادية.
وما تجاوب روسيا مع المبادرة الأوروبية التي حملها ساركوزي إلى روسيا في حينه إلا تقدير لأهمية العلاقات الثنائية بين روسيا وأوروبا, وهذا التجاوب فوت الفرصة على الإدارة الأمريكية أن تتصرف بمفردها إزاء قضية جورجيا. ومثل هذا الدور قامت به دول أوروبا في الملف النووي الإيراني وبالذات بريطانيا وفرنسا وألمانيا إضافة إلى روسيا والصين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
إن الاتحاد الأوروبي ما زال مربوطا مع الولايات المتحدة في الإطار الأمني من خلال حلف الناتو, لأن القوة العسكرية والأوروبية ما زالت متواضعة قياساً للقوة الأمريكية وهذا ما حصل في أزمة صربيا عام 1999-2000 م. ولكن دول الاتحاد الأوروبي لديها إشكالات كبيرة مع الولايات المتحدة في مجال الزراعة والتجارة الحرة, والاتفاقيات الدولية الخاصة بالبيئة والاحتباس الحراري والطاقة.
وقد برز قدر عالٍ من الافتراق في قضية غزو العراق بين الاتحاد الأوروبي وبين الولايات المتحدة, باستثناء بريطانيا زمن حكم بلير, ولكنها سحبت قواتها من العراق كما فعل ثباتيرو رئيس وزراء إسبانيا من قبل. ومثل هذه الحادثة قد تتكرر في موضوع الملف النووي الإيراني, فالوضع الدولي يؤشر على رغبة الكبار في صياغة نظام دولي متعدد الأقطاب, إذ باتت احتمالات ضرب إيران عسكريا ضعيفة, وقد تستمر دول الغرب في فرض عقوبات فنية واقتصادية وسياسية على إيران, ووضع روسيا الحالي المزود الرئيسي بالمعدات النووية لإيران, ووضع الصين المستفيد من النفط الإيراني, والاتحاد الأوروبي الذي يخشى على مصالحه في الشرق الأوسط, كل هذه الظروف ستعوق عزم الولايات المتحدة ضرب المنشآت النووية الإيرانية.
وقد بدا واضحا ان الاتحاد الاوروبي تحمل وزر العمل العسكري ضد نظام العقيد معمر القذافي , في حين انسحبت الولايات المتحدة من تلك المهمة , بسبب الازمة الاقتصادية التي ما زالت تعصف بها . وهذا مؤشر اخر على عدم قدرتها الانفراد بالزعامة الدولية .
إن الحديث عن نظام دولي متعدد الأقطاب ليس كالحديث عن اتفاقية يوقعها طرفان أو أكثر, بل إن النظام الدولي المتعدد الأقطاب يعرف بوجود عدد من الوحدات السياسية العظمى التي تمتلك مصادر قوة مادية ومعنوية تحقق لها الموازنة مع بعضها بعضا, وهذه القوة تؤهلها التربع فوق قمة الهرم السياسي, وجعلها متميزة عن الوحدات الأخرى الأقل منها قوة وتأثيرا التي تقف في المرتبة الثانية وتظل تدور في فلكها ولها فعلها في النظام الدولي ولكنه أقل من تأثير القوى العظمى.
إن النظام الدولي المتعدد الأقطاب يترتب عليه الاستقرار وحفظ استقلال الوحدات السياسية العظمى المتكافئة في قدراتها المادية والمعنوية ويخضع النظام المتعدد الأقطاب إلى طبيعة الدول وأهدافها السياسية, بحيث تشكل تجانسا في الأفكار والمشاعر والمصالح على وجه الخصوص, ومثل هذا النظام هو الذي عرفته أوروبا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وهو الذي عرف بالقرن الدبلوماسي 1815-1914 الذي نشأ عقب هزيمة نابليون. ولكن ذلك النظام لم يستطع أن يوفر الأمن والنظام والاستقرار في أوروبا وعجز عن منع نشوب الحرب العالمية الأولى, وعجز عن ضبط حركة الدول وانتقالها من حلف إلى آخر. وفي كل الأحوال فالنظام الذي سبق الحرب الأولى كان نظاما وراثياً بالكامل, وكذلك الحال بالنسبة للنظام الذي سبق الحرب العالمية الثانية إذ انقسمت الدول الأوروبية ومن خارجها إلى حلفين عرفا بدول المحور ودول الحلفاء, وقد دخل في هذين المحورين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة واليابان من خارج القارة الأوروبية. أما نظام ثنائي القطبية الذي ساد عقب الحرب العالمية الثانية, فقد تمكن من السيطرة على استقرار العالم نسبيا ولم تقع حرب عالمية ثالثة, بسبب توازن الرعب والردع النووي بين قطبي النظام آنذاك. ولكن مدة سريان نظام القطبية الثنائية لم تمنع نشوب حروب إقليمية عرفت بالحرب بالنيابة.
النظام الدولي المتعدد الأقطاب المستقبلي له طابع عالمي أيضا, لأنه سيقوم بحراب وقوى دول عظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي, وجميعها قوى نووية من العيار الثقيل, وستكون هناك دول كبرى بدرجة أقل من الدول العظمى في القوة والتأثير. وعليه فإن شريحة النظام الدولي الواقعية, سوف تعمل على تعديل ميثاق الأمم المتحدة وبالذات مواده على الفصل السابع, وكذلك تعديل نظام مجلس الأمن بحيث يأخذ بعين الاعتبار إمكانات الدول الكبرى ذات الإمكانات النووية والاقتصادية, والدول القادرة على ترسيخ الأمن والاستقرار في العالم.
إن تكافؤ الدول العظمى يحقق التوازن الدولي, ويحول دون وقوع حرب عالمية ثالثة قادرة على تدمير البشرية بأكملها. كما أن مصالح الدول العظمى والكبرى سوف تجبرها على تعديل سياساتها إزاء الدول الفقيرة والمهشمة في عالم الجنوب, إذ من مصلحتها استنهاض الحياة في هذه الدول, كي تدعم المسار الاقتصادي العالمي, إذ من دون نهضة هذه الدول وتقدمها, لا يمكن أن تكتمل الدورة الاقتصادية العالمية. كما أن المصالح الاقتصادية تقتضي أن يتم حماية التجارة والبحار وسلامة السير فيها, ونبذ الحروب, فهل سيكون للعرب دور في النظام العالمي المتعدد الأقطاب?!
التعليقات (0)