مشهد الدُمية المعلقة للرئيس المصري السابق حسني مبارك، التي كانت قبلة متظاهري ميدان التحرير طوال فترة الاعتصامات التي بدأت في الثامن والعشرين من يناير وانتهت برحيل النظام السابق في الحادي عشر من فبراير، ما يزال يداعب مخيلات الملايين من المصريين الذين يحلمون بأن يكون الإعدام مصير مبارك النهائي. عشرات القضايا ومئات الملفات وألاف الشكاوى يُنتظَر أن تحدد مصير الرئيس السابق الذي كان حتى وقت قريب الحاكم الآمر في مصر قبل أن تحيله التظاهرات إلى التقاعد الإجباري ما أفضى إلى حاله البائس حيث يقبع في مستشفى شرم الشيخ الدولي قيد الحبس الاحتياطي. تشير كل الدلائل الصادرة عن القوى الفاعلة في مصر اليوم إلى أن الرئيس حسني مبارك لن يحظى بمحاكمة عادلة في بلاده، محاكمة تدينه على ما ارتكبه من أخطاء ولكن تنصف في الوقت ذاته تاريخه السياسي الطويل وخدمته العسكرية المشهود لها.
تؤكد الضغوط التي تمارسها المظاهرات المليونية المتعددة أن إذلال مبارك صار هدفاً لقوى سياسية واجتماعية ودينية لها أطماع في قيادة مصر. فالإخوان المسلمون يريدون الانتقام من الرجل لقيامه بمحاربة نفوذهم الديني والسياسي غير المحمود. من جهتها ترغب الجماعات الإسلامية بمختلف أطيافها أن يتجرع مبارك مرارة كأس السجون التي تجرعوها طوال العقود الثلاثة التي قضاها الرجل في الحكم. لا يختلف حال الأحزاب السياسية التي عارضت مبارك، فهي تتمنى أن لا يرى مبارك النور مرة اخرى لأنه لم يعطها فرصة تداول السلطة. لا يتوقف الامر عند هذه الجهات أو تلك وإنما امتد ليشمل أشخاص مثل محمد البرداعي الذي يريد الثأر من مبارك لأنه لم يدعمه في معركة رئاسة هيئة الطاقة الدولية، وعمرو موسى الذي ترعرع تحت جناحي مبارك ولكنه يتنكر له الأن ويتمنى معاقبتة حتى لا يتهم بأنه محسوب على نظامه.
لا أحد يمكنه أن ينكر الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها مبارك طوال فترات رئاسته الخمس. كانت خطيئة مبارك الأكبر حين لم يدقق في اختيار أعوانه والمقربين إليه. إختار مبارك لحاشيته المقربة أهل الثقة وليس أهل الكفاءة، وكانت النتيجة أن أسقطه رجاله في مستنقع الدكتاتورية ووحل الفساد وأزالوا عنه خصلات التواضع والأصالة والحكمة والالتزام التي عرف بها حين بدأ عمله السياسي العام كنائب لرئيس الجمهورية عام 1975. وتمثلت خطيئة مبارك الأسوأ في تمسكه بالسلطة ثم فرضه إبنه جمال على الحياة السياسية في مصر. وكانت خطيئة مبارك الأخطر هي وثوقه الكامل بوزير الداخلية الفاشل حبيب العادلي، فقاد الوزير مصر إلى صفقات أمنية وغير أمنية أضرت بها وأهدرت الحقوق الإنسانية لأبنائها فضلاً عن اتفاقات سرية مع الإسلاميين أتاحت لهم تخريب مصر. أما خطيئة مبارك الأكثر حماقة فكانت تعامله باستخفاف مع العنف الطائفي ضد المسيحيين وتسليمه ملف الأقباط لجهاز أمن الدولة. قد يضيف البعض مسألة التدهور الاقتصادي إلى أخطاء مبارك، ولكن الزيادة السكانية في مصر التي تلتهم معدلات النمو الاقتصادي، إضافة إلى محدودية مصادر الدخل القومي يضعفان من هذه قوة التهمة.
إذا كنا ذكرنا بعضاً من أخطاء حسني مبارك فمن العدل أيضاً تناول بعض من إيجابيات الرجل التي حققها أو شارك فيها خلال عمله العام. سأذكر في المقدمة بالطبع دوره العسكري كأحد القادة الذين أخلصوا لمصر وقدموا لها وضحوا من أجلها بغض النظر عن دوره في حرب السادس من أكتوبر الذي يشكك الكثيرون فيه الأن في إطار مخططهم لتجريده من كل محاسنه. من إيجابيات مبارك الأخرى التي لا يمكن إغفالها الاحتفاظ بالسلام مع إسرائيل رغم كل الضغوط التي تعرض لها داخلياً وخارجياً وكذا الحوافز التي عرضتها عليه أنظمة بعينها لإلغاء معاهدة كامب ديفيد. لكن الرجل تمسك بالسلام بعد عودة سيادة مصر على كل شبر من أراضيها. إيجابية أخرى لا يمكن نسيانها وهي عودة الروح للبنية الأساسية في مصر بعدما أوشكت كل المرافق على الانهيار في عهد الرئيس أنور السادات، ويعتبر مترو الانفاق الذي يستفيد منه الملايين أحد أهم المشاريع التي أقامها مبارك على الإطلاق. يضاف إلى كل هذا وذاك استعانة مبارك بعدد من الشرفاء في إدارة شئون البلاد مثل كمال الجنزوري وحسب الله الكفراوي وعصام شرف وأحمد رشدي وغيرهم.
هناك مبررات كثيرة للاقتناع بإيمان مبارك بسلامة موقفه سواء خلال سنوات حكمه في ما قبل الخامس والعشرين من يناير أو في أيامه المعدودة بالسلطة بعدها. كان عدم هروب مبارك من مصر من أهم هذه المبررات ومن أهم الدلائل على عدم خشيته من أية مساءلة قد تطاله وتضر به. كان بإمكان مبارك مغادرة البلاد بعد انسحابه من المعركة مع المتظاهرين، ولكن الرجل شاء أن يبقى. بالمثل كان قبول مبارك بالأمر الواقع وتنحيه بسلاسة من الدلائل المهمة على عدم رغبة الرجل في إدخال مصر في في حلقة مفرغة من الفوضى وعدم الاستقرار. وإذا كان يحلو للبعض وضع مبارك في سلة الطغاة مع بشار الأسد ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح، فإن مبارك يختلف تماماً عن كل هؤلاء لأنه تخلى عن السلطة من دون أن يدخل بلاده في معارك تخرج منها مصر خاسرة. وسواء تخلى مبارك عن السلطة طوعاً أو تخلى عنها مجبراً فيحسب لمبارك أنه لم يشأ أن يقاوم رغبة المصريين والقوات المسلحة.
من الأمور المؤسفة أن الكثيرين من المصريين امتلكوا الشجاعة الكافية لنقد حسني مبارك حين كان رئيساً للجمهورية إذ كانت صحف المعارضة تصب جام غضبها على مبارك وتكيل كل انواع الاتهامات له ولأسرته وللمقربين منه. غير أن الشجاعة فارقت اليوم حتى من كانوا يدافعون بشراسة عن مبارك. قليلون جداً من يقدرون على الاعتراف بإيجابيات مبارك بعدما تملكت الشماتة وروح الانتقام معظم المصريين وتملك الباقين الخوف من الإعلان عن الوجه الحسن لمبارك. لا أدل على ذلك من امتناع عدد كبير من المحامين المصريين عن الدفاع عن مبارك أمام القضاء بحجة أنهم لا يريدون بدفاعهم عنه الوقوف في مواجهة مع الشعب المصري. تناسى المصريون أن أسس القضاء تقوم على أن من حق كل متهم تعيين محامين للدفاع عنه. وقد رأينا ومازلنا نرى كيف يدافع محامون عن إرهابيين وقتلة وسفاحين ومغتصبين.
لقد أخطأ مبارك، من دون أدنى شك، واخطأ بفداحة، ولكن مَن مِن الرؤساء المصريين لم يخطيء؟ ألم يخطيء عبد الناصر حين حوّل مصر إلى قلعة خوف؟ وألم يخطيء حين قام بالتخلص من معارضيه سواء بالقتل أو بالسجن؟ وألم يخطيء حين ضحى بعشرات الألاف من المصريين في مغامرات حربية خاسرة؟ ألم يتلق الجيش المصري على يدي عبد الناصر أسوأ هزيمة في تاريخه، الهزيمة التي خسرت مصر فيها بقعة مهمة من ترابها؟ ثم ألم يخطيء السادات في سياسته الداخلية ما تسبب في إشعال الحرب الطائفية بين المسلمين والمسيحيين؟ ألم يسلّم السادات مصر للمنتفعين بعد إطلاقه سياسة الانفتاح الاقتصادي؟ ألم يقمع السادات انتفاضة المصريين في يناير 1977 ما تسبب في مقتل نحو 160 شخصاً وجرح 600 أخرين؟ ألم يخطيء السادات باعتقاله رموز الوطن من مثقفين ورجال دين في سبتمبر 1981؟
الجميع إذن ضلوا وأخطأوا، ولعل هذا يدفع المصريين للتعامل بتوازن مع أمر محاكمة مبارك. من المهم أن تتم محاكمة مبارك. لا جدال في هذا. ولكن من المهم أيضاً ان تتوفر له محاكمة عادلة لا ضغوط فيها من التظاهرات المليونية ولا تنازلات من القضاء او من المجلس العسكري. رأينا محاكمة شعبية اعتمد فيها قاضي مخضرم بحجم المستشار الخضيري على ما تتناقله الصحف الصفراء عن مزاعم بفساد مبارك، مزاعم لم يثبتها أحد حتى اليوم. ولا نرجو لمثل هذه المحاكمات والتظاهرات أن تستمر حتى لا تشكل ضغطاً على القضاء المصري. وإذا كانت المحاكمة العادلة أمراً صعب المنال في ظل مشاعر الانتقام التي تسود الملايين من المصريين، فمن المؤكد أن تقديم الرجل لمحاكمة دولية يعد حلاً منطقياً. المحاكمة الدولية هي الحل الأمثل ليس فقط لأنها ستوفر العدالة بعيداً عن الضغوط ولكن لأنها ستكشف بحياد عن الدور الحقيقي لمبارك في قضايا قمع المتظاهرين والفساد.
التعليقات (0)