مواضيع اليوم

نحو بناء حضارة إسلامية بديلة ..؟

محمد بن عمر

2010-08-26 10:37:14

0

نحو بناء حضارة إسلامية بديلة!

« زمن الإنحطاط العربي » مقولة مختصرة لكنها معبرة، تعبر عن المرارة التي أضحى يشعر بها المفكر في البلاد الإسلامية وهو يرى أن الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والسياسية و غيرها... تزداد سوءا وانتكاسا على مر الأيام...!!
يحدث كل هذا بعد أن شهدت البلاد العربية والإسلامية جمعا من المصلحين والمفكرين الذين تخصصوا في شتى المجالات الحياتية .
إن هذا الوضع الذي آلت إليه حالنا يحتم علينا أن نطرح السؤال التالي: ما هي الأسباب الكامنة وراء فشل البرامج الإصلاحية في إحداث النهضة التي أخذت تظهر في البلاد الإسلامية منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي! ؟

 

I. أسباب الفشل:


إن المتتبع لمؤلفات "زعماء الإصلاح" في بلادنا الإسلامية يلاحظ أن الإنبهار بما حققته الحضارة الغربية كان عظيما في نفوسهم والإنشداد إلى النمط الغربي في الحياة واضحـا وجلـيا . وهذا الإنبهار بمنجزات الغرب و حضارته و ثقافته.. جعلهم يتخذونه قدوة ومثالا، فكان النمط الغربي النهضوي حاضرا لدى جل هؤلاء الرواد . لذلك جاءت برامجهم الإصلاحية وتنظيراتهم تنقصها الدراسة العلمية المتأنية التي تراعى فيها الملابسات والظروف التي أدت بأمتهم الإسلامية إلى حالة من التخلف الحضاري و الإنحطاط الإجتماعي و الإستبداد السياسي...!

ولا عجب بعد ذلك أن نجد منهم من كان يدعو إلى « أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب» !؟ .
إن الصفة المشتركة التي جمعت "زعماء الإصلاح"هي:« افتقاد الشعور بالعزة بهويتهم الحضارية الإسلامية، والإنبهار الكلي بالغرب»! وهذا الإنبهار قد أعشى أبصارهم أن ترى الدّرب القويم والنهج السليم لنهضة أمتهم الإسلامية وبناء حضارة إسلامية جديدة ومتطورة تليق بخير امة أخرجت للناس والتي قد كلفها ربها بأن تكون شاهدة على الناس وقائدة لهم إن هي استمسكت بالنور الذي أنزله الله عليها – القرآن- والتاريخ:« يعلمنا انه ما من مدنية تستطيع أن تزدهر أو تظل على قيد الحياة إذا هي خسرت إعجابها بنفسها وصلتها بماضيها» .

II. عودة إلى التاريخ:


1- الإسلام:
أ- الإسلام ومرحلة بث "الفكرة الجديدة ":
جاء الإسلام معلنا منذ بداية نزول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن بداية ظهور نظرة مغايرة لما هو سائد بين البشر ومفاهيم جديدة للكون والإنسان والحياة، تختلف جذريا عما تعلمه الإنسان من مصادر بشرية ومعلنا بوضوح مخالفته لسائر التصورات البشرية: ثقافتها ومعتقداتها أخلاقها ومعاملاتها، نظمها وتشريعاتها:﴿ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ (سورة العلق الآيات 3 و4 و5).. ليبرز بعد عملية الهدم للمنظومة القيمية العربية والبشرية عامة... شخصيته المستقلة بكل أبعادها: العقائدية والتشريعية ومختلف تصوراتها وطموحاتها على أنقاض الجاهلية=(كلّ مفاهيم الإنسان النسبية عن الكون والإنسان والحياة التي تخالف المعايير الإلاهية) والتي أعلن الحرب عليها منذ الوهلة الأولى : ﴿ كلاّ لا تطعه واسجد واقترب﴾ (سورة العلق الآية 19 وهي أول ما نزل من القرآن الكريم ). إن مراجعة بسيطة للنهج الذي اتبعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأنصاره من المؤمنين في إحداث التغييرات الحضارية التي هزت جزيرة العرب يلاحظ ما يلي:

- بداية نزول الوحي على الرّسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء وقد حمله ربه مسؤولية تبليغ الوحي و الإستمساك به بدءا بنفسه الضالة قبل نزول الوحي عليه ﴿ووجدك ضالا فهدى﴾ .. وإيصال ما ينزل إليه من قيم ومبادئ ومفاهيم جديدة عن الكون والإنسان والحياة والمجتمع .. إلى الناس كافة بدءا بالعشيرة الأقربين.

- الجهر بالدعوة الإسلامية وتحمل الأذى والصبر على تعنت الكفار وإجرامهم في حقه وحق أنصاره.. ووعده بالنصركما انتصر الأنبياء من قبله.. خضوعا لسنن الله الأزلية في الحياة.
- نزول ما سمي (بالقرآن المكي ويعد 86 سورة ) وهو في جملته آيات قصيرة تعالج قضايا التوحيد

و الربوبية و الإيمان بالله و تذكّر بقوانينه الأزلية في الحياة و لزوم إتباعها و السير على هداها لتحقيق الفلاح.. وتحارب الشرك بالله بمختلف تشكلاته..

و تتحدى الجميع ( الإنس و الجن) أن يأتوا بسورة واحدة من مثله إن استطاعوا !!؟.. وتشير إلى مواطن الفساد في الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية و غيرها... وترد على بعض شبهات أهل الكتاب ومزاعم أهل مكة وتندد بتصرفات زعاماتهم المنحرفة وتصحح مفاهيم البشر عن الألوهية الحقة والربوبية الصحيحة والتي لا تجوز إلاّ لخالق الكون والإنسان والحياة .. العليم الخبير الذي يعلم غيب السّماوات والأرض علما مطلقا و شاملا.. على عكس علم البشر النسبي المحدود زمانا و مكانا و القاصر عن معرفة كل أسرار الكون و الحياة... فالقرآن المكّي كان يدعو إلـى – فكرة جديدة ومفاهيم مغايرة لمفاهيم البشر– لتحل محل الفكر والمفاهيم والمعتقدات الجاهلية في ذهن المتقبل حتى تؤثر في فكره ووجدانه و روحه تمهيدا للإنتقال به إلى مرحلة أخرى قادمة...!

- كان الرّسول صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه الذين آمنوا بدعوته للصّبر على الأذى والتنكيل الذي كانوا يتعرضون له على يد كفار ومشركي قريش .. وعدم الرد على الأذى و التنكيل والإضطهاد الذي كان يسلط عليهم..- بالعنف المادي أو المعنوي– رغم ما أبداه بعض الصحابة من استعداد للقيام بذلك...! ولما اشتد الإضطهاد على بعض الصحابة نصحهم عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى الحبشة .." لأن بها ملكا لا يظلم الناس عنده أبدا"!.. وقد استمر الرسول وأصحابه في الإستمساك بالمفاهيم الإلاهية الجديدة والإلتزام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلة الكفار والمشركين وكل المناوئين ﴿بالتي هي أحسن﴾.. ولم يسجل لنا القرآن أو المؤرخون أن أحدا من الصحابة قد كون عصابة للرد على اضطهاد قريش أو العمل على" تحرير البيت الحرام" من أيدي كفار مكة ومشركيها..! بل كان سلاح المؤمنين الوحيد: الدعوة إلى الإسلام الحق والجهاد بآيات القرآن الكريم والتي تحمل المفاهيم الجديدة و الثابتة وإبلاغها إلى مسامع المشركين والصبر على آذاهم امتثالا لأوامر الله في القرآن المكي..والإستمساك بها قولا و عملا.. و عدم الركون إلى الكفار و المشركين أو مهادنتهم:﴿و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار﴾.!

- ثم جاءت حادثة الإسراء بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم لتتوج المرحلة المكية مرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة و المبهرة، وأهم ما يمكن استخلاصه من حادثة الإسراء هو التالي: بداية تلقي المسلمين لبعض العبادات كالصلاة وهي عبادات تستوجب توفر حد أدنى من الأمن للقيام بها وهو ما يعني حدوث نقلة نوعية كبيرة، لأن المرحلة المكية التي سبقت حادثة الإسراء تميزت بتركيز القرآن الكريم على المعتقدات الإسلامية والمبادئ الذهنية والمفاهيم الجديدة عن الكون والإنسان والحياة: الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والقيم الأخلاقية ومحاربة التمظهرات المتنوعة للكفر والشرك والتشهير بانحرافات زعامات قريش العقائدية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها.. وهذا يعني أن حادثة الإسراء كانت بمثابة التمهيد للإعلان عن انتقال المسلمين من مرحلة«الفكرة» إلى مرحلة« الدولة».

ب- الإسلام ومرحلة "بناء الدولة":
بعد حادثة الإسراء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وقد مهّد عليه الصلاة والسلام لهجرته وهجرة أصحابه و أنصاره عندما التقى ب"الأنصار" ( الأوس والخزرج) وأخذ منهم عهدا بحمايته وحماية أصحابه ونصرة الدين الذي بعثه الله به إلى ﴿الناس كافة﴾..! وكان قد سبقه بعض صحابته إلى المدينة لتوضيح الغامض من دعوته..!
- في المدينة أصبح للمسلمين أرض آمنة وقد امن جل أهلها بالرسالة الإسلامية وثروات متعدّدة وقوّة مادية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بما اُوتيه من حكمة إلاهية وبصيرة قرآنية (حيث بدأ نزول القرآن المدني:المنظم لمختلف جوانب الحياة البشرية و المدنية) من أن ينشئ منهم مجتمعا مسلما يعتنق العقيدة الإسلامية ويحتكم إلى الشريعة الإسلامية في علاقات أفراده بعضهم ببعض وتنتظم علاقاته وفق التصور الإسلامي والمفاهيم الإسلامية في الأسرة والمجتمع وعلاقاته الداخلية والخارجية...!

- ولم يمر زمن طويل حتى أذن للذين أوذوا في سبيل الله و قوتلوا لأنهم قالوا: ﴿ربنا الله ﴾! بالقتال في سبيل الله واستعمال القوة و السلاح لاسترجاع حقوقهم المنتهبة من الكفار والمشركين وصد عدوانهم ومكرهم بالمستضعفين...!

- في مرحلة تالية بدأ المسلمون- بقيادة رسولهم عليه الصلاة والسلام- يفكرون في نشر الدعوة الإسلامية خارج حدود دولتهم الفتية، وبدأ الرسول/القائد السياسي والعسكري في بعث السرايا والجيوش إلى مختلف الأصقاع لفتحها ونشر الإسلام فيها حتى تعم رحمة الإسلام..﴿الناس كافة﴾.. استجابة لنداء ﴿القرآن الكريم ﴾.. إن الجيش الذي كونه الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم لحماية المجتمع الإسلامي و نشر الدعوة الإسلامية كان قوامه : مؤمنون قد باعوا أنفسهم وأموالهم لله رب العالمين مقابل الأمن في الحياة الدنيا والفوز بجنة عرضها السماوات والأرض : ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ﴾ سورة التوبة الآية 111)...!

إن هذه المرحلية و التسلسل الزمني الذي اتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نشر الدعوة الإسلامية وإنشاء المجتمع المسلم والدولة الإسلامية ومن ثم بناء الحضارة الإسلامية.. رغم وضوحه في﴿ السيرة النبوية العملية ﴾ و القرآن الكريم فقد تغاضى عنه المسلمون(أحزابا و حكومات و مفكرين..) في العصر الحديث و تغافلوا عن حكمته.. فغابت عنهم المراحل و الأولويات مما أوقعهم في المحظورات وأبعدهم عن هداية الله و بصائره‘وصاروا يتخبطون خبطا عشواء وهووا في ظلمات بعضها فوق بعض!!؟

2- الرأسمالية الغربية:
لقد مثلت الحداثة الغربية في العصر الحديث– قطيعة تامة بين عهود الظلام السابقة التي كانوا يحيونها..! حيث سيطرت الكنيسة بجهالاتها وأغلالها الظالمة و المتحيزة على حياة المجتمع .. وبين ما سمي "بفلسفة الأنوار" التي نادت بتحرير الإنسان من سلطة الكنيسة وجبروتها وحرضته على امتلاك زمام أموره وكسر القيود التي فرضتها عليه عهود من الجهل والإنحطاط، فلقد استفاق الأوروبيون فوجدوا ركاما ضخما من التجارب والمعارف التي خلفتها حضارات عديدة بما فيها الحضارة الإسلامية، فأغراهم ذلك بالتمعن فيها بحثا عن السبيل الموصل إلى البناء الحضاري والتقدم والتحرر من جهالات رجال الدين عندهم و تخريفاتهم..! وما انفك هذا الشعور يتنامى في أوروبا منذ القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي خصوصا في فرنسا وايطاليا...!
وانتبه الغربيون بعد هيمنة طويلة فرضتها الكنيسة الكاثوليكية وإثر تزايد قهر الأباطرة، وصار بعض المفكرين يتحسسون طريق الخلاص من تبعات عصور الإنحطاط...! وكان لتضخم ممارسات الكنيسة الكاثوليكية ولإستفحال السياسة القهرية التي ينتهجها الأباطرة دور كبير في تصعيد الإستياء وتنمية رصيد الشعور الرافض بعد يقين عمقته الملاحظة بأن ممارسات "الإكليروس" ومقررات البابا فاقدة للمصداقية لأنّها تتضارب مع حقائق الوجود وتطلعات الإنسان نحو الإنعتاق و التحرر..‘ فهي تفرض وصايتها عليه باسم الدين!؟ وكان للجامعات أللاهوتية التي وقع بعثها في بعض أقطار أوروبا كالسربون مساهمات في المجال المعرفي وتأثيرات حتى في الكنيسة ذاتها .
إن فقدان الشّرعيات الدّينية مصداقيتها ليس فقط بالنّسبة إلى المثقفين.! بل وبالنسبة إلى الشرائح العريضة للمجتمعات الغربية بأسرها هو الذي ولد مفهوم "العلمانية" الداعي إلى تخليص قطاعات المجتمع والثقافة من سيطرة المؤسسات الدينية ونواميسها و مفاهيمها المحرفة للدين المسيحي..! وقد سعى مفكرو عصر الأنوار إلى تنوير الشّعب وتحريره من ظلم الكنيسة وجبروتها و تثويره ضد هيمنتها، فرفعوا في وجه الكنيسة التي كانت تبيع صكوك الغفران – "اللائكية"، وفي وجه رجال الدين واستغلالهم للشعب باسم الرب، رفعوا شعار:"الحرية والإخوة والمساواة"..إن إزاحة الغربيين لتأثيرات الكنيسة عن مجرى حياتهم نظرا لما أصبحت تمثله من عقبات كأداء في وجه تطور المجتمع واعتاقه من الجهل و التخلف ... أوجد لديهم الحافز الـقوي علـى البـحث والتنـقيب واستعمال عقولهم هم بدلا من عقول رجال الدين المحرفة للنصوص المقدسة..‘ واستنباط النـظم السياسية والإقتصادية والنظريات العلمية والمعرفية وغيرها.. بمعزل عن تأثيرات قرون من التخلف والجهل..! والذي ساهمت فيه بقسط وافر قناعات رجال الدين المسيحي الضالة عن وحي الله وكلماته النورانية الثابتة في:﴿ التوراة والإنجيل والقرآن﴾..
3- الماركسية:
عاش ماركس(1818-1883) ضمن المجتمع الرأسمالي، وعاين عن قرب أوضاع العمال المتردية، ذلك أن العامل رغم قيامه بالعمل والإنتاج إلا أنه لا يتمتع بثمار سواعده، حيث أصبحت الطبقة البرجوازية الرأسمالية هي المالكة " بل المغتصبة لما كان ينبغي أن يكون ملكا للعمال من وسائل الإنتاج "... يقول ماركس في معرض تحليله للأوضاع المتردية التي أفرزتها الطبقة البرجوازية والرأسمالية :« إن البرجوازية لم تكتف بصناعة الأسلحة التي سوف تؤدي إلى فنائها بل أنجبت الرجال الذين سوف يستعملون هذه الأسلحة – أعني بهم عمال العصر الحديث - الذين يؤلفون البروليتاريا..‘ وكلما ازدادت قوة البرجوازية أي رأس المال ازداد نمو البروليتاريا، تلك الطبقة التي تضم العمال الذين لا تتوفر لهم أسباب العيش إلاّ إذا وجدوا عملا، ولا يحصلون عليه إلا إذا كان هذا العمل منميا لرأس المال...فهؤلاء العمال الذين يضطرون إلى عرض أنفسهم للبيع يوميا هم معرضون نتيجة لذلك إلى كل تقلبات المنافسة التي تعتري السوق... لقد صار العامل فقيرا وتفاقم الفقر بسرعة تفوق سرعة نمو السكان وتراكم الثـّروات... فمن البين إذن أن البرجوازية لم يعد في إمكانها القيام لمدة طويلة بدور الطبقة المسيرة .
تكشف لنا هذه الوثيقة عن وعي "ماركس" بالظلم والحيف الإجتماعي الذي يعاني
منه العمال في مجتمع تسوده الأنانية والإستغلال وانتهاج كافة السبل للإثراء ولو على حساب فقر الملايين من العمال..!!؟ لا تهمنا هنا تحليلات ماركس وتنبؤاته الخاطئة فذاك أمر آخر! ما يهمنا هنا هو الموقف والبديل الفكري والسلوك الحضاري الذي انتهجه تجاه واقع معين...! تبنى ماركس إذن هموم العمال ومشاكلهم، وسعى إلى إنشاء منظومة فكرية بديلة: تمثلت في نظريته " المادية التاريخية" ذلك أنها تقوم على مبدأين أساسيين: هما "المادية المنطقية" و"المادية التاريخية".. ذلك أنها تنظر إلى المادة على أنها أساس كل أمر في الحياة، وأن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط .يقول ماركس موضحا ذلك: « إن الأفكار لا يبتدعها دماغ الإنسان...‘ وهذا الدماغ ليس إلا مادة دقيقة التركيب وهو جزء من الجسم يعكس مؤثرات العالم الخارجي » .

شنّ ماركس وأتباعه حملة منظمة ضد النظام الرأسمالي وكل مبادئه وقيمه و معاييره.. طارحين بدائل فكرية أخرى وقيما و معايير جديدة، ومبشرين بإيجاد جنة أرضية يحكمها الكادحون والعمال والفقراء..!؟ ففي جريدة "البرافدا" ركز لينين حملاته تحت شعار: « كل السلطة للسفيات " " الأرض للفلاحين"... "الخبز للجائعين"... وفي أكتوبر سنة 1917 قامت الثورة البلشفية، الثورة التي أنبنى على أساسها ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي في العصر الحديث..!
بعد هذا الإستقراء التاريخي السريع لثلاث حضارات/ثقافات مختلفات.. نعود لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل هناك شروط معينة لإقامة حضارة إنسانية ؟ و إن كان الأمر كذلك فما هي هذه السنن والقوانين و الشروط المشتركة التي تتحكم في إنشاء الحضارات الإنسانية و تأسيسها ؟

III. سنن بناء الحضارات الإنسانية:

إن استقراءنا للحضارة الإسلامية والحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والماركسي مكننا من معرفة القواسم المشتركة بين هذه الحضارات ومن بلورة السنن والقوانين والشروط الموضوعية التي تتحكم في إقامة الحضارات الإنسانية وهي كالتالي :

1- فكرة إنسانية سامية:
وهذه الفكرة يمكن أن تكون دينا سماويا أو أدلوجة بشرية أو منظومة إقتصادية أو سياسية أو إجتماعية... تحمل في طياتها صفة العالمية واستطاع مفكرو الشعب أن يقنعوه بان فكرته التي يتبناها هي أسمى فكرة على الإطلاق – في الحقبة التاريخية التي يحياها- وأن هذه الفكرة لا تحمل سعادته هو فقط بل مرشحة لإنقاذ البشرية كافة، وتستحق هذه الفكرة أن يضحي الشعب من أجلها ويغامر حتى تتجسد على أرض الواقع، ثم نقلها إلى بقية شعوب العالم لتستفيد منها وتخرجها "من الظلمات إلى النور" ومن الإستغلال إلى التمتع بخيرات الحياة وطيباتها... ومن الجور والظلم إلى العدل و الحرية والمساواة... ومن ظلمات القرون الخالية إلى نور الحياة ورفاهيتها ...إن أي برنامج إصلاحي أو منظومة فكرية عاجزة عن تحقيق النهضة المنشودة في الشعوب المستهدفة.. إن لم تكن تحمل في طياتها هذه السمة، وعجزت عن إقناع الشعب الذي يتبناها بسموها وتفوقها على كل الأفكار والمنظومات الأخرى.


2 - تقزيم الخصم والحط من فكره وقيمه .

وهذا القانون/الثابت الثاني هو تكملة للقانون الأول في شروط إقامة الحضارات الإنسانية.. إن "تقزيم الخصم" والحط من قيمة منظومته الفكرية عملية تأتي مواصلة للعملية الأولى وهدفها الوصول بالشعب المراد إنهاضه إلى مرحلة الشعور بالعزة و"الأناقة" وهذا الشعور يأتي كنتيجة حتمية لاعتقاد هذا الشعب و إيمانه الراسخ بسمو فكرته ومعتقداته ومنظومة القيم والمعايير و الموازين التي تحكمه والتي تفوق في سموّها جميع القيم والمعتقدات

و المعايير الأخرى، بل قد لا يعطي هذه المفاهيم

و المعايير المنافسة أهمية البتة ما دام يمتلك من القيم و المعايير ما هو أسمى و أرقى..! وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تماسك الأفكار التي يتبناها وصدقها وتطابقها مع الواقع وقدرتها على الإقناع ومدى اعتقاده فيها وحنكة مفكريه وقدرتهم على تشويه الخصم وأفكاره ومعتقداته..!!

نخلص إلى القول بأنّه متى توفرت لدى أي شعب من شعوب الدنيا منظومة فكرية تحتوي على أفكار سامية واقتنع هذا الشعب بأنها أعظم الأفكار على الإطلاق في تلك الفترة من الزمن واقتنع بوجوب نشرها والتضحية في سبيل إيصالها إلى الشعوب الأخرى...عندها يبدأ ذلك الشعب بصفة تلقائية يسير رويدا .. رويدا نحو النهضة ومن ثم تكوين حضارة متفوقة على ما عداها من الحضارات القائمة...‘: والسبب في ذلك يعود إلى أن إدراك هذا الشعب لسمو فكرته وعالميتها يدفعه إلى البحث والتنقيب في كل المجالات الحياتية والعلمية لإثبات سمو فكرته عمليا للآخرين كي يعتنقوا مثله القيم التي يؤمن بها من جهة، وإقناع خصومه بتفاهتهم ومحاولة " تقزيمهم" و تركيعهم أمام عظمة فكرته وتكاملها وقدرتها على إسعاد الناس جميعا و الإيفاء بمختلف حاجياتهم و رغائبهم...! كما تدفعه إمكانية مواجهة الخصم ماديا و عسكريا.. إلى الإعتناء بالمجال الإقتصادي والصناعي وتكوين جيش قوي لمجابهة كل التحديات الممكنة والتي يمكن إن تهدد فكرته و قيمه ...أو تقف حائلا أمام نشرها.. وهكذا تبدأ حضارة هذا الشعب صاحب الفكرة والمفاهيم "السامية" الجديدة في صعود، أما أصحاب الحضارات الأخرى، إن كانت هناك حضارة قائمة فإما أن ينظموا إلى أصحاب الحضارة الصاعدة ويعتنقوا فكرتها السامية ويساندوها ويدعموها بمعارفهم وبالتالي تصبح إنجازاتهم تنتمي إلى الحضارة الجديدة. وإما أن يتزعزع اعتقادهم في فكرتهم التي بنوا عليها حضارتهم، فيفتقدون بذلك الحماس القادر على تمكينهم من مواصلة الإبداع وبناء الحضارة، عند ذلك تبدأ حضارتهم في أفول مستمر.! وتضعف قوتهم المادية والمعنوية شيئا فشيئا أمام القوة الصاعدة والحضارة الجديدة..‘ كما يصبح الشعب صاحب الحضارة الآفلة مقلدا لظواهر وسلوكيات صاحب الحضارة الصاعدة، اعتقادا منه أن هذا التقليد قد يعيد فيه الحيوية من جديد– لكنه يبقى كالذي يريد أن ينجو من الغرق وما هو بناج..!؟ لأنه كلما أغرق في التقليد ابتعد أكثر عن إمكانية الشعور بالعزة و الأناقة – شرط الإبداع الحضاري-، فتتبعثر أموره وتتذبذب حاله ويصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن لم تحمل عليه يلهث..
و الحاصل أن هذه الدراسة قد كشفت لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الحضارات الإنسانية تخضع في صيرورة نشوئها و انقراضها – على اختلاف منظوماتها الفكرية و القيمية - إلى ثوابت و نواميس كونية أزلية عامة و مشتركة بين جميع البشر مهما اختلفت أديانهم و تنوعت ايديولجيتهم وتفرقت أراضيهم

و اختلفت أزمانهم ..‘ و إن إيجاد حضارة ما متطورة

 

و متقدمة يبدأ بإيجاد الإنسان الذي يتبنى الأفكار

و المفاهيم الراقية والمتقدمة..‘ فالله لن يغير ما بقوم حتى﴿ يغيروا ما بأنفسهم﴾.. وان قانون تغيير ما بالنفوس البشرية لتغيير الواقع المادي والحضاري للشعوب.. قانون أزلي لم يشذ عنه حتى أتباع المادية التاريخية الذين ينظرون إلى المادة كونها أساس كل أمر في الحياة، وأن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط..!!؟ فالقوانين التي تتحكم حقيقة في أحداث التاريخ البشري و مجرياته وتوجه مختلف تطوراته هي القوانين الكونية والأزلية التي سطرها الله في القرآن العظيم و يحكم بمقتضاها موجوداته و سائر مخلوقاته .. و ما على الإنسانية إلا العودة إلى كتاب ربها مباشرة إذا ما أرادت أن تهتدي

و تنتظم أوضاعها و ينصلح حالها‘ و ليس إلى كتب رجال الدين من الفقهاء و الأحبار والرهبان الذين تكون تفسيراتهم وتأويلاتهم للنصوص المقدسة محكومة بمصالحهم و مصالح الطبقات التي يمثلونها أو الضاغطة عليهم سياسيا واقتصاديا و اجتماعيا..! لقد شكل رجال الدين- و ليس الدين نفسه- في التاريخ

و الحضارة الغربية عقبات معرفية خطيرة وقفت في وجه تطور المجتمع الغربي و نهوضه و تحرره- لذلك تكاتفت جهود« فلاسفة الأنوار" وجهود الماركسيين على إزاحة هذه العقبة الكأداء.‘. حتى كان شعار الثورة الفرنسية:( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس).. وشعار الماركسيين:( الدين أفيون الشعوب).. كما شكل رجال الدين و الفقهاء في التاريخ الإسلامي و لا يزالون اكبر داعم لحكم الطواغيت المتألهين و السماسرة المتاجرين بقضايا الشعوب ..‘ وإلباس الحق بالباطل و تفريق الأمة الإسلامية الواحدة إلى ملل و شيع متفرقة... متناحرة ‘ باسها بينها شديد..!!؟ فمنذ استيلاء معاوية ابن أبي سفيان على الخلافة الإسلامية بالقوة و قيامه بتصفية أنصار علي بن أبي طالب بعد و فاة الرسول صلى الله عليه وسلم بحوالي 30 سنة.. شرﹼع الفقهاء المسلمون للطريقة العنيفة التي توخاها معاوية للإستيلاء على الحكم بالقوة و برروها شرعيا..!؟ كما شرﹼعوا باسم الإجتهاد– منذ ذلك الحين - للمذاهب الفقهية و المدارس الإجتهادية التي فرقت المسلمين و قسمتهم إلى ملل و نحل متنافرة و متناحرة.. كل حزب بما لديهم فرحين!؟ و هم الذين شرﹼعوا

و يشرﹼعون لمذاهب السنة و الشيعة و لمذاهب السلفيين الجهاديين قتلة الأبرياء من خلق الله..!؟

و هم الذين شرﹼعوا و يشرعون للحركات الإسلامية المنادية بالديمقراطية الغربية و الإعراض عن قوانين الله الأزلية المفصلة في القرآن الكريم..!؟ و هم الذين يشرعون للأنظمة العلمانية التي تحكم العالم الإسلامي اليوم بتبريرات دينية و فقهية واجتهادية..!!؟ لذلك أصبح "الفقهاء الإسلاميون" يشكلون – كما شكل رجال الدين المسيحي- عقبة كأداء وخطيرة جدا أمام تحرر مجتمعاتنا الإسلامية من ربقة الإستعمار الحضاري الغربي و من الأغلال الفقهية التي صارت تكبل المواطن العربي المسلم بأثقال تدفعه دفعا إلى مكان سحيق من التخلف الفكري و الحضاري والإنحطاط الأخلاقي وانتهاج الدروشة أسلوبا لحياته مما جعله يعيش خارج الزمان و المكان حتى صار أضحوكة العالم يمتهن كل ما من شانه تسلية الإنسان الغربي ..!! بمبررات دينية

و فقهية و اجتهادية ما أنزل الله بها من سلطان.!!؟

و توسيع قابلية المواطن العربي المسلم للنهب المحلي و الدولي والإستغلال المنظم برضى تام حتى غدا هذا المواطن فيئا يسيرا و أسيرا للجراثيم الفتاكة و كل الأمراض المزمنة وافتقاد الرجولة

و الكرامة و الخضوع للإستبداد و الإستحمار الفكري في العصر الحديث..!؟

لقد ظلّ " المفكرون وزعماء الإصلاح " في البلاد الإسلامية يعتقدون ولا يزالون بأن الأنظمة والتشريعات السياسية والإجتماعية و الإقتصادية

و غيرها.. هي التي ستنهض أمتهم الإسلامية من كبوتهم إذا ما اقتبسوها من المجتمعات الغربية المتقدمة، فاقتبسوا أنظمة الغرب وتشريعاته و لا يزالون، لكن دون جدوى...!؟ فالحال تزداد سوءا و انتكاسا على مر الأيام ..! وما دروا أنه على الرغم من تنوع الأنظمة والتشريعات لدى الشعوب المختلفة قامت الحضارات العديدة في التاريخ البشري.
إن القوانين والتشريعات ما هي إلا شكل من أشكال التنظم وتسهيل العلاقات الإنسانية في المجتمعات البشرية المختلفة‘وتنبع عادة من حاجيات هذه المجتمعات وطموحاتها و تعبر عن إرادة أبنائها.. وتنبثق عن منظوماتها القيمية والفكرية ومفاهيمها عن الكون والإنسان والحياة و معاييرها الدينية و الحضارية.. وليس هناك أي سند تاريخي أو واقعي يدل على أن الحضارة تبنى نتيجة لهذه القوانين والنظم والتشريعات البشرية و الوضعية..‘ وإنما هو إلتباس الأوضاع وضبابية الرؤيا.

 



 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !