نحو إستراتيجية تفاوض جديدة
الانسحاب أولا والمستوطنات والجدار أخيرا
ناصر دمج
فشل المفاوض الفلسطيني في تحقيق أي تقدما يذكر، في مضمار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ،خلال العقدين الماضيين ،لأن إستراتيجية المفاوضات الفلسطينية لم تكن مرتبطة،برؤيا تحررية ،تستكمل مهمة الثورة الفلسطينية والانتفاضة الأولى ،في طلب الحرية والخلاص من الاحتلال ودحره عن التراب الفلسطيني ، إنما كانت مرتبطة بالدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية ،وهو دور قائم على التعاون مع الاحتلال في إدارة شؤون الأراضي التي تسيطر عليها السلطة، ونجاح هذا الدور لا يستقيم مع أي نية مسبقة لديها بالتصادم مع الاحتلال لا امنيا ولا اقتصاديا ولا تفاوضيا ،وكان المفاوض الإسرائيلي ومعه المستشار الأمريكي يتعاملون مع المفاوضات كوسيلة من وسائل إدارة الوقت ألصراعي،ومد أمد عمر الظروف الراهنة لأنها الظروف الأمثل لتوفير إمكانية الاستمرار في تنفيذ رؤية اسرائيل في السيطرة على ما تبقى من التراب الوطني الفلسطيني ،ولم يكن لدى المفاوض الإسرائيلي أية نية للاتفاق مع الفلسطيني حول أيا من أمور المفاوضات مهما كانت صغيرة .
فكانت الحصيلة بعد عقدين من التفاوض ،صفر تفاوضي سالب ،ففشل المفاوضات كان له أسباب عده أهمها منهج التفاوض المصمم على أسس لها علاقة بوظيفة السلطة،لا بالعقيدة الوطنية الراسخة ،المتمحورة حول أهمية إزالة الاحتلال من فوق التراب الوطني، المرتبطة ببديل قتالي ،كمهمة استكمالية في الأساس لمجهود الوطنيين الفلسطينين في التحرير أو انجاز ما تبقى منه، ولم تراعى المعايير المهنية والحرفية في اختيار طواقم المفاوضين الفلسطينيين ولم يخضع أدائهم لأي شكل من إشكال التقييم أو المراقبة،فمكث المفاوضون الفلسطينيون في إمكانهم عقدين من الزمن مقابل أكثر من خمسة عشر طاقم مفاوضات إسرائيلي،تعاقبوا على ذات المهمة وتبدلوا تباعا ،وانكشاف تكتيكات وخطط دائرة شؤون المفاوضات إمام الإسرائيليين قبل استخدامها،بسبب الاختراق الذي نفذته اسرائيل والسي أي إيه ،بزرع العديد من الموظفين الأمريكيين الاسرائيلين والفرنسيين ،في دائرة شؤون المفاوضات وغيرها من دوائره السلطة الفلسطينية الحساسة،مثل الموظف كالينين سويشر ، وهو مرافق سابق لوزيرة الخارجية الأمريكية كونزاليزا رايس ،وضابط في السي إي إيه ،وموظف في وحدة دعم المفاوضات الفلسطينية،والموظف زياد كلوت، وهو إسرائيلي من أصل فلسطيني من مدينة حيفا ويحمل الجنسية الفرنسية ،وموظف في وحدة دعم المفاوضات، الأمر الذي يطرح على الجميع أسئلة في منتهى الأهمية حول شروط ومواصفات التوظيف لدى السلطة الفلسطينية ،التي تسمح بمثل هذه الاختراقات ،علما أنه وفي حدود علمي بان المواطن الفلسطيني عندما يتقدم بطلب توظيف لأيا من وزارت السلطة يخضع طلبه لما يسمى ببحث امني استقصائي مرهق، بعدها يحصل أو لا يحصل مقدم الطلب على وظيفته، وحتى ان بعض المؤسسات الأجنبية العاملة في الضفة الغربية مثل يو أس أيد تطلب مثل هذه الخدمة من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، حول طلبات التوظيف المقدمة لها من المواطنين الفلسطينين،للتأكد من ان مقدم الطلب لا تربطه أية رابطه بالقوى الإسلامية .
بناء علية يعتقد بان هذا الاختراق تم بطلب فلسطيني ،وتزكية محلية من أعلى المستويات ،أو في أحسن الأحوال هي شكل من أشكال المجاملات العامة ،أو تلبية لطلب عزيز مقرب ،الأمر الذي أدى الى السيطرة على المفاوض الفلسطيني المجرد من الأسلحة والتكتيكات سلفا،لتتم بهذه العملية السيطرة على ورقه وحقيبته ،لان الورق الذي يحمله قد تم الاطلاع عليه مسبقا من قبل الخصوم قبل المباشرة بعرض مضامينه عليهم،لذا كان المفاوض الفلسطيني ،يستغرب أحيانا من،عدم تعقيب المفاوض الإسرائيلي على ما يقدمه له ،أو رفض الإسرائيلي استلام رزم الاقتراحات، لأنه كان يحمل الإجابة عليها مسبقا وهي الرفض، وفي كلا المسلكين الدبلوماسيين الإسرائيليين ،سواء عدم الرد الشفهي أو عدم استلام الأوراق ،ينطويان على رفض شبه رسمي لكل ما تفوه به أو لم يتفوه به بعد المفاوض الفلسطيني، الذي تحول الى أضحوكة،منذ ان بدأت المفاوضات في 1991م ولغاية أخر جلسة في نهاية العام 2010م،الى ذلك يمكن التمعن بما قاله جيمس بيكر حول المفاوض الفلسطيني ،حيث يقول في مذكراته وهو يصف لقاءاته مع الوفد الفلسطيني المفاوض، في بيت الشرق في القدس الشرقية، " أحيانا كنت أستلقي على ظهري من الضحك بسبب سذاجة وسطحية أفكار وأطروحات وأحاديث بعض أعضاء الوفد الفلسطيني،التي تعبر عن أنعدام الخبرة السياسية لديهم " ،لهذا ولغيره من الأسباب أطبق الإسرائيليون الخناق واحكموا السيطرة علي المفاوض الفلسطيني الدائم ،وتم تثبيته في مكانه حتى تعفن من تحته .
كل ذلك أضيف فوق الخطأ المؤسس وهو القبول ببحث الملفات الرئيسة كالحدود واللاجئين والمياه والملفات الفرعية المرتبطة بها كالمستعمرات والجدار وتبادل الأراضي وتعويض اللاجئين، وإنفاق الجهد الكلي من قبل المفاوض على تلك المحاور مجتمعة ومنفردة،بدون ان نحصل على أية نتيجة حول أي موضوع من المواضيع مهما صغر ،رغم مرور تسعة عشر عاما على بدء تلك المفاوضات ،بدون ان يشك المفاوض الفلسطيني بان كل تلك المسيرة كانت تنطوي على خطأ ما ،يستحق ان يتوقف عنده ويراجع أسبابه ،وإخضاع الطريقة والوسيلة للتقييم المعمق،ودعوة الأصدقاء والزملاء وأصحاب الاختصاص والخبراء الوطنيين،والأشقاء العرب،لنقد الحالة ،وعدم الاكتفاء بالإصغاء لتعليمات خبراء السي أي إيه،ومندوبيهم في الدائرة،ونصائح عمر سليمان وحسني مبارك .
أما الخطأ المتمم لهذه النتيجة الكارثية،كان في الموافقة الفلسطينية على اعتبار ملف الانسحاب من حيث القيمة التاريخية والاستراتيجيه، كملف وقف المستوطنات،ووقف بناء الجدار، لقد كان من الأنسب لو بني منهج المفاوضات وفقا لسلم أفضليات استراتيجيه ،وإعطاء بند الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967م ،وفقا لقرارات الشرعية الدولية، رقم 1، وحصر الفوائد المتحققة عنه ،بعد نجاحه ( كالسيطرة على المستوطنات وأجزاء من المياه الجوفية ومعابر برية ) والتعامل معها كانجازات تحصيل حاصل ،لا تصميمها كملفات مستقلة، بحاجة لوقت وجهد الملف الرئيس ( الانسحاب ) ويجب ان يتم ذلك على قاعدة ان لا يتم الانتقال الى بحث ملفات جديدة قبل الانتهاء من حسم السابقة بالكلية ، أو لا مفاوضات نهائيا ،وهذا بحد ذاته خيار، وخيار فيه من التهديد ما يكفل ان يجلس خصمك إمامك بإصغاء ، وان لم يستجب فلا تستجب، وليبقى هذا الصراع مستمرا الى ان يشاء الله أمر غير هذا الأمر .
دون ذلك سيتواصل اللهاث خلف ملفات التفاوض وفي مقدمتها الاستيطان والجدار،بلا اى طائل طالما ان مصير الأرض التي يدور فوق النشاط الاستيطاني لم يحسم بعد ومصيرها تقرره الدولة المحتلة ،من هنا تنبع اهيمة بحث مصير ومستقبل الأرض قبل بحث مصير ومستقبل المنشات التي تقام فوقها،أو التصرف بخيراتها وسكانها ، عند تقرير مصير الأرض يصبح مصير كل من عليها ومن فوقها وما بداخلها في يد مالكها فقط لاغير .
لماذا ذلك ، لان حسم أمر الأرض يسهل لاحقا التصرف بكل ما عليها وبها من حقوق ،كالمياه والمستوطنات ،أو إدخال أو إخراج أيا كان منها واليها ،وكما يشاء صاحب الولاية والسيادة عليها،وهنا يمكن الفلسطينين التصرف من طرف واحد في مواضيع عده كالنازحين واللاجئين بدون الإعلان عن أي حل من أي نوع لمشكلة اللاجئين ،لان عودة اللاجئين الى وطنهم أمر مرتبط بزوال اسرائيل ،وحل مشكلة اللاجئين مسالة مرتبطة بزوال أسبابها فقط لاغير ، لكن ما يدور الحديث حوله هنا هو المفاوضات حول مصير الأراضي المحتلة عام 1967م، التي ينطوي الحديث عن استعادتها على إمكانية العودة الاختيارية الفردية والجماعية للاجئين كمقدمة للعودة للديار وكمدخل للحل لا كخاتمه له ،لذا لا يجوز طي صفحة اللاجئون مع الاسرائيلين تحت أي ظرف من الظروف .
لقد كانت وما زلت فكرة المفاوضات إسرائيليا هي كمين سياسي وطريقة للخداع لكسب الوقت الذي تحتاجه اسرائيل ،لانجاز استقلالها الوطني ، المتمثل بالسيطرة على كامل المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط ، ولعل احد أهم تجليات هذه الحقيقة هو خسارة الوقت فلسطينيا الذي معه ضاعت الأرض ، المكان الطبيعي لصناعة المعطيات الجديدة التي ستجد انعكاسا لها على طاولة التفاوض كل خمس سنوات، عندها سيقف المفاوض الفلسطيني وصانع القرار بالندم على اختياره لتلك الوسيلة، وبالخسارة لفقدانه المعطيات ألتي تساعده في مقارعة العدو ،عندها لن يجد شيء يتحدث عنه على الأرض ولربما لن يجد سكانا ينطق باسمهم،ولن يجد إمامه مفرا من الاستسلام لقدره الإسرائيلي، والعودة الى بيته في شرق الأردن .
لذا كان وسيبقى الموضوع الرئيس للصراع مع العدو هو الأرض وليس ما تم فوقها بعد احتلالها ،ان الدخول في هذه المتاهة، من غير المعلوم لداخلها متى سيخرج منها ،وعلى الأرجح انه لن يخرج،وان خرج فان ذلك سيتم بعد فوات الأوان ،لأن المفاوض الفلسطيني عندما دخلها كان ابنه المولود حديثا في شهره الأول ،إما الآن فهو على وشك التخرج من الجامعة والزواج،وسيكون هذا الابن سعيدا بلا شك، إذا لم يرث هذه المهنة عن أباه .
لذا فأنني أرى بان هذه الطريقة من غير المرجح أنها قادرة على ان تحدث أية تبدلات تذكر خلال العقد القادم،في الحالة القائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإذا بقيت وتيرة الاستيطان كما هي فمن المرجح ان حدود بلدية القدس تكون قد وصلت الى حدود محافظ أريحا ،وطالما انه لا يمكن مجاراة هذه الوتائر السريعة لتمدد الاستيطان واستكمال الجدار ، فانه ينبغي التوقف عن ملاحقتهما بالتفاوض، والعودة الى أصل الموضوع ، أي الأرض ، بمعنى الإعلان عن استراتيجيه جديدة للتفاوض مكونة من موضوع واحد وهو التفاوض حول " الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967م ، وفقا لقرارات الشرعية الدولية 242 و 383 " ، والمواضيع الملاصقة له من الناحية القانونية وهما الحدود والسيادة ،فقط لاغير، بدون الدخول في أي موضوع كان وخاصة الاستيطان والجدار،عند الحصول على الأرض يمكن التصرف بها وفقا لرؤيا وطنية وقومية تحددها ضرورات اللحظة التي ستسود حينذاك، وماذا يضير الفلسطينيون إذا ما كسبوا الأرض والمستعمرات معا، وإذا أصر الفلسطينيون على هذه الطريقة فأنهم ،بعد سنوات قليله من الممكن ان يحصلوا على الأرض وعلى كافة مستعمرات الضفة الغربية والقدس الشرقية .
دون ذلك فانه من المؤكد بان السلطة ستخسر كل معركة لها حول المستعمرات والجدار وأية مواضيع أخرى مشابه،لأنها تحاول تركيب الباب بلا حلق ،ان الاستيطان بشكله الحالي والسابق واللاحق ،ومهما تكاثر واتسع فإنه سيبقى جزء من الحق الفلسطيني، مقام فوق الأرض الفلسطينية ،بأيدي الاحتلال ،ولا يجوز التعامل مع هذا الملف خارج هذه النظرة ،ولربما سيصلح التعامل معها كأحد المكتسبات الإستراتيجية التي من الممكن ان توفر الجهد والوقت لدى اى سلطة فلسطينية قادمة لإنفاذ برامج التنمية الحضرية،وعدم السماح بهدمها أو العبث بها كما كان عليه الحال في غزة .
لعل دوافع هذه القراءة تنبع من طبيعة المتغيرات الكاسحة التي تعصف بالنظم السياسية العربية وهذا أمر سيشمل اسرائيل والسلطة الفلسطينية،لكن تلك التغيرات لن تزيل السلطة الفلسطينية ولا اسرائيل عن الوجود،لكنها ستغير قيم أساسية في مناهج وطرق عملهما ،ولربما ستزيل قادة كلا الطرفيين ،ولأنهما ستبقيان من اجل هذه الغاية، وهي الاتفاق عبر المفاوضات،التي ستلي حربا قادمة أو مؤتمر سلام قادم، فالفلسطيني ملزم باعتناق رؤيا جديدة لإدارة أمر المفاوضات مستفيدا من خيبات الماضي ،وفشل تجربة دائرة شؤون المفاوضات،وقوام هذه الرؤيا هو المفاوضات من اجل الانسحاب فقط لاغير .
كاتب ومحلل سياسي
n-damj@maktoob.com
التعليقات (0)