الاقتصاد المعرفي هو ذلك «الاقتصاد الذي لدى أفراده ومؤسساته العامة والخاصة القدرة على إنتاج معرفة جديدة والانتفاع الاقتصادي منها بغرض تحسين مستوى الدخل القومي وزيادة فرص العمل وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة». فالاقتصاد المعرفي ليس فقط الاتصالات والمعلومات، بل هو بنية تحتية مجتمعية داعمة ء وشبكة معلومات متطورة تستخدم تقنيات الحزم العريضة، وقدرة نسبة عالية من المجتمع على الاتصال عبر الإنترنت، وزرع حب التعلم المستمر في صفوف أوسع قطاع من المجتمع، وتأهيل مهارات صناعية محلية قادرة على هضم المعرفة وإعادة تصنيعها، بعد معالجتها في هيئة جديدة تحمل في أحشائها قيمة مضافة. منظومة بحثية تمتلك كل المقومات الضرورية للبحث والتفاعل من خلال مد قنوات تلك المقومات بين مؤسسات البحث العلمي من جهة والمؤسسات الصناعية والإنتاجية من جهة ثانية.
ولأجل إعطاء خارطة الطريق للدول العربية الطموحة التي تريد أن تبلور خطة نحو إقتصاد المعرفة إرتأينا أن نأخد نظام التعليم في سنغافورة نمودجاً.
توضح دراسة تفصيلية قام بها (دافني بان) بعنوان نموذج الجودة النوعية في نظام التعليم السنغافوري، أهمية العلم بوصفه مدخلاً رئيسياً لمجتمع المعرفة. يعتقد (بان) أن الكفاح طويل الأمد من أجل النجاح الاقتصادي سيكون في صلب الفصل الدراسي أكثر منه في سوق العملات. لهذا لجأت سنغافورة هذا البلد الآسيوي الصغير إلى التعليم بوصفه قوة الدفع الاستراتيجية الرئيسية من خلال تبني سياسة الجودة النوعية في التعليم، ومن خلال تخصيص 3% من الناتج المحلي الإجمالي ,أي ما يقارب 2.3 مليار دولار أمريكي في مجال تطوير التعليم.
وبعد الاستقلال مباشرة سنة 1959 حدث توسع سريع في التعليم استجابة للأهداف الوطنية الاقتصادية والاجتماعية، كما تم تكثيف الجهود لأجل:
ـ تنفيذ التعليم الإلزامي المجاني، مع مزيد من المدارس الثانوية.
ـ مزيد من التركيز على تدريب المعلمين.
ـ مزيد من الاهتمام بتطوير البحوث والمناهج التعليمية.
ـ استحداث سياسة الازدواج اللغوي (الإنكليزية واللغة الأم) لزيادة الإنتاجية والانسجام الاجتماعي والتماسك الوطني.
ـ التركيز على الرياضيات والعلوم والمواد التقنية. وإقامة المدارس للتدريب على الجوانب المهنية والتقنية والتجارية لتوفير قاعدة قوى عاملة لخدمة التصنيع.
ثم جرت عملية مراجعة لهذه الأسس وتصويبها بحيث لا يقتصر التعليم على زيادة طاقات الفرد وقدراته، بل يتعدى ذلك إلى مجتمع مبدع ومفكر ومجدد مع مهارات مرنة في كل مستوى من مستويات الاقتصاد. أما في التسعينات فقد تم تبني إدارة الجودة النوعية للتعليم من خلال:
ـ تزويد الجميع بالتعليم برفع كفاءة رياض الأطفال، وتوفير ما لا يقل عن 10 سنوات من التعليم الأساسي.
ـ زيادة التمويل والحوافز التعليمية.
ـ اجتذاب المعلمين الجيدين وتعديل الرواتب.
ـ ضمان دخول 20% من كل فئة عمرية إلى الجامعات و40% إلى المعاهد التقنية.
وقد جاءت أرقام عام 1996 لتؤكد تحقيق الهدف حيث بلغت نسبة المنتسبين إلى الجامعة 22%، بينما كانت نسبة الملتحقين بالمعاهد 38%.
ـ تخصيص 1.16 مليار دولار أمريكي لإيجاد مدارس ذكية، بعد أن تأكد أن تقنيات المعلومات أداة تعليمية متفوقة.
ـ توسيع التعليم في الدراسات العليا والعمل على جعل الجامعات السنغافورية عالمية المستوى.
ـ مراجعة مناهج المراحل الجامعية الأولى لضمان ملاءمتها وحداثتها.
ـ استحداث استراتيجيات تعليم وتعلم تتسم بالتجديد والإبداع واجتذاب الطلبة الموهوبين.
ـ جعل سنغافورة مركزاً للتعلم مع استقطاب مشاركة علماء بارزين وتقديم المساعدة للبلدان الأقل تطوراً في المنطقة.
ـ التعاون مع العمال والنقابات وأصحاب العمل لتوفير التدريب المناسب ورفع الكفاءة.
إذا كانت هذه الأسس هي التي ألهمت تجربة نموذج الجودة النوعية في التعليم فإن الاستمرار والمواظبة والتقييم وإعادة النظر بثغرات التجربة كانت المكيانزمات التي ضمنت النتائج المطلوبة، فما هي هذه النتائج، وإلى أي حد تشكل هذه التجربة نموذجاً في تطوير التعليم؟
إذا كانت الجودة النوعية تعني الملاءمة للهدف فإنها تدل في نفس الوقت على التفوق والمستوى العالي. فالتعليم المتصف بالجودة هو التعليم الفاعل والمتميز بالكفاءة والجدير بالتقدير. أما على مستوى النتائج الواقعية فقد كانت تجربة التعليم في سنغافورة مميزة على أكثر من صعيد. حيث يتفوق الطلبة السنغافوريون في أدائهم على المستويات الوطنية والعالمية، وينظر إلى التعليم بكل تقدير واحترام على كافة المستويات.
فقد احتلت جامعة سنغافورة الوطنية المرتبة الثانية بين أفضل خمسين جامعة في آسيا. وقد أصبحت مقاييس التعليم في سنغافورة مستقرة وراسخة إلى درجة أن جامعة كاليفورنيا الأمريكية قد قررت استخدامها في تقويم مناهجها لمادة الرياضيات. كما احتل الطلاب السنغافوريون المرتبة الأولى بين 45 دولة في دراسة الرياضيات والعلوم التي ترعاها الرابطة الدولية لتقويم التطوير التربوي. كما يفوز السنغافوريون سنوياً بالأولمبياد الدولي للرياضيات والكيمياء والفيزياء. وبعد ذلك فقد تبنت سنغافورة ثلاث أولويات لنظام التعليم بالجودة هي، تطوير المهارات الفكرية وتعزيزها، واستغلال تقنيات المعلومات في التعليم والتعلم، إضافة إلى التعليم الوطني. فهل من الحكمة تجاهل هذه التجربة الغنية بالاستخلاصات والدروس والخبرات؟ لقد برهنت التجارب المتعددة أن التعليم على المستويين الفردي والمجتمعي هو أحد أهم أعمدة بناء أدوات المعرفة، وهو السبيل الأمثل لبناء الكادر البشري المؤهل، الأمر الذي يتطلب تحقيق تطوير نوعي في منظومة التعليم والتدريب كما دللت التجربة السنغافورية بوضوح. والتطوير النوعي للتعليم قضية تستدعي مقوماتها وشروطها. ولعل في طليعة هذه الشروط اختيار أسلوب التعليم الإبداعي الذي يتجاوز أسلوب الحفظ والتلقين. ويكون دور الطلاب أساسياً في هذا الأسلوب حيث يطلب إليهم القيام بالتحليل والبحث واستنباط الحلول اعتماداً على المعلومات، فضلاً عن تشجيع التفكير الحر والمستقل بوصفه أحد مكونات التعليم النوعي.
ولإعطاء فكرة للإنسان العربي عن حجم الإستثمارات التي يتم توضيفها في البحث العلمي من طرف الدول المتقدمة و الصين:
بموازنة تقدرب 151 مليار دولار سنة 2009 أي بزيادة 7 مليار دولار عن مزانية 2008 تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الأولى عالمياً من حيت الإنفاق على البحث والتطوير العلمي ،تليها الصين بمزانية تقدر ب 145مليار دولار متفوقة بذالك لأول مرة في تاريخها على اليابان ثم الإ تحاد الأوروبي .هذه الإستثمارات الضخمة ترمي للعمل على خلق وتطوير رأس المال البشري بنوعية عالية و خلق المناخ المناسب للمعرفة، فالمعرفة اليوم ليست "ترفاً فكرياً" بل أصبحت أهم عنصر من عناصر الإنتاج، ، والملاحظ أن الشركات العالمية الكبرى العابرة للقوميات، تساهم في تمويل جزء من تعليم العاملين لديها، ورفع مستوى تدريبهم وكفاءتهم، وتخصص جزأً مهماً من استثماراتها للبحث العلمي والابتكار.
أما الدول العربية فهي جد متأخرة في هذا المجال اللهم بعض المحاولا ت الشجاعة التي تقوم بها الإمارات العربية المتحدة والعربية السعودية في هذا المجال.
ختاماً الدولة التي لا تدرك أن المعرفة هي اليوم العامل الأكثر أهمية للانتقال من التخلف إلى التطور ومن الفقر إلى الغنى ستجد نفسها حتماً على هامش مسيرة التقدم.
التعليقات (0)