نحن والآخر والصراع
إعداد
هناك مقولة مفادها أنه : "عندما يوجد فرد يسود السلام وعند وجود اثنين ينشأ الصراع وعند وجود أكثر تبدأ التحالفات"
هذه المقولة تشير إلى القانون التاريخي الذي يحكم حياتنا بشكل عام، وسواء تعلق الأمر بالمجتمعات الصغيرة أو على المستوى الدولي فقانون الصراع هو الذي يحكم أغلب العلاقات . ومهما كان شكل الوحدة الإنسانية، أسرة، قبيلة، أمة فإنها محكومة بقانون الصراع تلك قاعدة تاريخية... لا تحتاج إلي إثباتات مجهدة .
يرى الكثير من المفكرين أن الصراع ظاهرة طبيعية في حياة الإنسان وفي حياة المؤسسات جميعاً فبدءاً من الأسرة وإلى مستوى الإنسانية مروراً بالقبيلة والدولة والأمة فإن قانون الصراع هو ما يحكم المؤسسات جميعاً. غير أن أشكال الصراع ليست واحدة في هذه المؤسسات كما أن نتائجه مختلفة فهو يتدرج في شدته فيبدأ صراعاً صغيراً ويمكن أن يصل إلى حد الحروب الدموية الطاحنة .
هناك الكثير من المفاهيم والتعريفات للصراع
_ في علم الاجتماع و علم الأحياء ، يدل مصطلح نظرية الصراع أو نظرية النزاع Conflict Theory على نظرية تقول بأن المجتمعات أو التنظيمات بشكل عام تعمل من خلال صراع أعضائها و مشاركيها المستمر للحصول على منافع أكثر ، و هذا ما يسهم بشكل أساسي في التغير الاجتماعي كما هي حالة التغيرات السياسية و الثورات . تطبق هذه النظرية على حالة الصراعات الطبقية خاصة في إيديولوجيات مثل الاشتراكية و الشيوعية.
_ الصراع ظاهرة إنسانية تنشأ عن تعارض المصالح أو رغبة طرفين أو أكثر في القيام بأعمال متعارضة فيما بينها، ذلك هو المنطق البسيط للصراع الذي لا يتم حله إلا بمجموعة متناسقة من التدابير والقواعد، وهذه القواعد متشابهة بالنسبة لكل حالات الصراع وإن تعددت المستويات المختلفة ، وهو ما يسمح بالحديث عن نظرية لإدارة الصراعات من اجتماعية لدولية، مع تميز كل مستوى ببعض الخصائص الفرعية المميِزة المقترنة بالمجال وحدوده وطبيعة تفاعلاته وأطرافه.
والصراع يجري مدفوعاً بمجموعة من الرغبات والحاجات الخاصة، فعندما تشعر الأطراف المتفاعلة أن هناك ثمة مصالح يمكن أن تجنيها من جراء الانخراط في الصراع فإنها تقدم على الدخول فيه، وتغريها تلك المصالح بكسر قواعد سابقة أو المغامرة بانتهاك أعراف عامة لإدارة الصراعات على المستويات المختلفة.
وتختلف أشكال الصراع وفقا لمحصلة اعتقادات وتصورات ورغبات القوى المشاركة في أدواره،وللصراع تواجد في كافة أشكال السلوك الاجتماعي،ولكل صراع أرضية يقوم عليها،وهو موجود في الواقع بحكم توازنات وتعقد الواقع ذاته، غير أنه دائماً ما يأتي ممتزجاً بالكثير من التبريرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهناك سبب أصيل لأي صراع كما أن هناك تبرير مباشر لوجوده.
_ ويمكن تعريف الصراع على انه :"التصادم والتعارض بين طرفين أو أكثر، بينهم اختلافات قيمية ومصلحية، وينخرطان في سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي تهدف الى إلحاق الأذى والضرر بالطرف الأخر، مع سعي كل طرف إلى تعظيم مكاسبه على حساب الآخرين وتأمين مصادر قوته"، ويمكن الفارق الجوهري بين مفهومي الصراع والعنف في أنَّ مفهوم الصراع أوسع من مفهوم العنف، إذ تتعدد صور الصراع وآلياته، ويعدُّ العنف، بالمعنى الذي سبق تحديده، إحدى هذه الآليات في إدارة الصراع وحسمه، وتتوقف شدة الصراع على كم وكيف العنف المستخدم فيه.
_ عرف بولدينج Boulding الصراع : موقف يتصف بالمنافسة ، تصبح فيه الأطراف المتصارعة على وعي بتناقضاتها ، ويسعى كل طرف منها إلى تحقيق غايته على حساب الطرف الآخر ، وان العدوانية والعنف ينتجان عن الصراع ، الذي يعرفه المحدثون الإداريون بأنه : ( حاله تفاعليه تظهر عند عدم الاتفاق أو الاختلاف أو عدم الانسجام فيما بينهم ، أو داخل الجماعات ،أو فيما بينها )
_ وعرفه بوندي Pondy : ( بأنه تعطل أو انهيار في سبل ووسائل صنع القرار المعياري أو في تقنياتها ، مما يجعل الفرد يعيش صعوبة اختيار بدائل الفعل أو الأداء )
_ أما ( روبنز ) Robbins ، فقد عرفه " عمليه تتضمن بذل جهد مقصود من قبل شخص ما ( أو جماعة ) لطمس جهود شخص آخر باللجوء إلى شكل من العوائق ينجم عنها إحباط الشخص الآخر ( أو الجماعة الأخرى ) وتثبيطه عن تحصيل أهدافه وعن تعزيز ميوله " .
يقف الصراع كمفهوم وممارسة بين مستويين ، الأول : الإختلاف الطبيعي أو المصطنع ، والناجم عن التباين في العقائد أو الرؤى أو المصالح بين الجماعات الإنسانية ، وهنا فان الفشل في إيجاد مساحات من الفهم والقبول والتناغم المشترك يحول الإختلاف إلى صراع بين تلك الجماعات للدفاع عن ذات ومصالح كل طرف .
والمستوى الثاني : الأزَمة ، وهي مرحلة متقدمة ومعقدة من الصراع بين المجموعات المختلفة يصل بها إلى حد الاقتتال أو الانهيار العام للنظام الاجتماعي . وهنا فالصراع هو : النزاع الناتج عن الإختلاف جرّاء تباين الرؤى والعقائد والأفكار والبرامج والمصالح بين مجموعتين أو أكثر ، وقد يكون مبرراً كما في صراع الشعوب مع أنظمتها المستبدة ، أو يكون غير مبرراً كما في الصراعات الإثنية والطائفية داخل اطر المواطنة والوطن الواحد ،.. وهنا فجوهر حركيه الصراع تتولد من الاختلاف أولا والفشل في تسويته أو إبداع الحلول المناسبة له ثانياً ، وهو جذر الأزمات التي تعصف بكيان المجتمع والدولة وتنذر بتفككهما . وتدخل العديد من العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية في تفعيل الصراعات وتفجيرها ، أو احتوائها ضمن الأنساق المقبولة ، من هنا كانت لدينا صراعات سلمية تتأطر بالحوارات والاختلافات المقننة دستورياً وقانونياً ، وصراعات عنيفة دموية لا تلتزم بأي إطار تشريعي أو أخلاقي منضبط .
_ ومفهوم الصراع من زاويته الإنسانية تداخل وتشابك وترجيح بين نوازع النفس ورغباتها وأمانيها وصولاً لتحقيق ذاتها في الواقع ، وأيضاً للعقدية والفلسفية والأفكار تأثير في طبيعة الصراعات القائمة على قواعد الاختلاف والتفاوت المنتج للحركة الإنسانية ، فالصراعات حقيقة قائمة تتباين شده وضعفاً حضوراً وغياباً بين مختلف الجماعات الإنسانية ، وهو ليس حكراً على مجتمع معين فحسب حيث لا وجود لمجتمع إنساني خالٍ من الصراعات على تنوعها ، فطبيعة وحركية الحياة البشرية تنتج الاختلاف والصراع والأزمة كسنه جرّاء تباين العقائد والرؤى والطموحات والمصالح بين الأفراد والجماعات والدول
_ ويمكن تعريف الصراع من وجهه نظر إدارية : بأنه تعطل أو انهيار في سبل وميكانزمات صنع القرار المعياري أو في تقنياتها ، مما جعل الفرد يعيش صعوبة اختيار بدائل الفصل أو الأداء ، كما انه عبارة عن عمليه تتضمن بذل جهد مقصود من قبل شخص ما لطمس جهود شخص آخر باللجوء إلى شكل من العوائق ينجم عنها إحباط الشخص الآخر وتثبيطه عن تحصيل أهدافه وتعزيز ميوله .
_ ومفهوم الصراع في النظرية العالمية الثالثة تمركز مفهوم الصراع في النظرية العالمية الثالثة حول ضرورة الوصول إلى وسيلة تكفل تجنب الاضطرابات والنزاع التي تسبب تخريباً ودماراً للمجتمع ، وتجعل جوهر هذه الفكرة في السعي لتحقيق سعادة الإنسان باعتباره المعيار الحقيقي في عملية التغير ، لذا يظهر الصراع عندما توجد علاقات لا يقبلها المجتمع .
كما ترى النظرية العالمية الثالثة ( إن المحرك للتاريخ الإنساني هو العامل الاجتماعي أي القومي ، فالرابطة الاجتماعية التي تربط الجماعات البشرية كلاً على حدة من الأسرة إلى القبيلة هي أساس حركة التاريخ). وتهدف النظرية إلى القضاء على كل أسباب الصراع من خلال ارتكازها على الحقوق والقواعد الطبيعية باعتبارها الآلية الوحيدة لخلاص المجتمع من كل أشكال التناقض والصراع وصولاً إلى دولة الجماهير .
هل الصراع ضرورة بشرية؟ بحيث لو خلت منه النفس الإنسانية والحياة البشرية لنقصت كل منهما عنصراً أساسياً في كيانها؟ أم هو مرض يصبب النفس والمجتمع، ونشاط ضار كالأورام الخبيثة التي تصيب الجسم فتفسد كيانه، وتقضي عليه في النهاية؟
الكثير من الدلائل تشير إلى حتمية حدوث الصراع في جميع المجتمعات الإنسانية، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى الجماعات، أو على مستوى المنظمات، أو أخيرا على مستوى الدول.
وجميع الصراعات تقريبا تدور في فلك الاختلاف، الاختلاف حول المواقف، والمنظورات، والقيم الثقافية، ووسائل الاتصال، والاحتياجات، والأهداف.
لم يكن الصراع وليد الصدفة ، فحينما بدأ صراع الإنسان مع الطبيعة منذ نشأة البشرية الأولى استطاع الإنسان الأول بالتفكير بطرق بدائية للتغلب على ظروف الطبيعة القاسية ، فراح الإنسان يستخدم الحجارة للتعامل مع الأشياء التي يصعب قطعها أو تكسيرها بواسطة الأيدي ، وتواترت عمليات الاستخدام العنيف للأشياء على هذا النحو .
هذا الصراع اخذ بالتطور فأنتقل إلى نوع أخر ، صراع الأفكار ، صراع الحضارات ، صراع المادة مع الإنسان ، صراع الخير والشر .
إلا أن الصراع قد تطور بشكل هائل نتيجة للتطور الكبير في المعلومات مما جعل هذهِ المعلومات في خانة الخطر الكبير ، وما امتلاك الأسلحة النووية وطريقة تفكير الدول العظمى تجاه الدول الصغيرة إلا شاهداً على التطرف في حالة من حالات الصراع التي نعيشها هذهِ الأيام ، فماذا بعد الازدهار إلا التدهور كنتيجة حتمية للصراع الحتمي الموجود .
إن طبيعة الأشياء وحقيقة الأمور تشكل مسيرة التأريخ الصحيحة ، والتأريخ لا يعيد نفسه إنما حتمية الصراع هي الحقيقة المتجددة .
أنواع الصراع لدينا وموضوعاته
تنقسم الصراعات إلى صراعات داخلية ضمن إطار المجتمع والوطن والدولة الواحدة كالصراعات السياسية والعرقية والطائفية ..الخ ، وصراعات خارجية كما في صراع الدول على خلفيات وتنازعات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية .
وهناك صراعات داخلية دموية واستئصالية ، وأُخرى سلمية لا تخرج عن التشريعات الضابطة للاختلاف والتباين كما في اختلاف الأحزاب والأعراق والطوائف فيما بينها ، إذ تنجح منظومات المجتمع الملتزم والواعي ودينامكية وأنظمة الدولة الراقية في حل الاختلافات والصراعات وفق أُطر التعايش المشترك والتناغم المتبادل والمشاركة الحقيقية في إدارة المجتمع والدولة والبلاد ،.. وهناك صراعات خارجية تحتكم إلى الأنظمة الدولية والاتفاقات الإقليمية والمعاهدات الثنائية في تسوية الاختلافات والصراعات ، وأُخرى تآمرية وتخريبية تصل لحد إعلان الحروب كنتيجة لتفاقم الصراعات غير المنضبطة بين الدول .
كما إن هناك صراعات شخصيه وأخرى فئوية ، عفويه أو منظمه ، وقتيه أو مستديمة ، كامنة أو ظاهره او معقده أو بسيطة ..الخ ، إذ تتنوع الصراعات حسب تنوع جوهرها ومرتكزاتها وطبيعة القوى التي تدعيها وتغذيها وتشترك بها ، وتتباين جرّاء اختلاف أطرافها والأدوات النظرية والعملية المستخدمة فيها وحجم المال والقوة والسلاح والتأييد المحشود لها ، كما للفضاءات القيمية والقانونية والجغرافية تأثيرها الواضح في التعاطي مع أي صراع أو في إدارة أية أزَمة .
أما موضوعات الصراع على تنوعه ، فهي عامه وغير مقيده ، إذ يمكن أن يكون أي اختلاف مدعاة للتفاقم ليصل لحد الصراع السلمي أو الدموي أو العنيف ،.. وعموماً فموضوعاته تتنوع بين ما هو قيمي فيما تعنيه من عقيده ومثل وأفكار ورؤى تنتظم على أساسها حركة المجتمع ، وبين ما هو سياسي يخص السلطة والحكم في المشاركة والتداول أو الاستبداد والاحتكار والإنفراد بالسلطة ، وبين ما هو مجتمعي في تنظيم أطر التعايش العرقي والطائفي والثقافي ، وبين ما هو اقتصادي فيما يخص طبيعة التوظيف للثروات والموارد الإمكانات لمواجهة معضلات سوء التوزيع والعوز والبطالة .. الخ
وهناك أنماط متعددة من الصراعات , مثل : الصراع الرسمي ، المتمثل بصراع السلطة مع الأمة ، وهو نتيجة حتمية لصراع الإرادات والشرعية والمصالح بين السلطة , وبين المجتمع ، فأنتج ذلك الاغتراب والريبة وفقدان الولاء ثم الدخول في نفق الصراعات المتبادلة التي غالباً ما أتت دموية وتصفوية من جهة السلطة لضمان البقاء في الحكم ، وعنيفة ومتمردة من جهة المعارضة كونها الأداة الوحيدة في الخلاص من سلطة الاستبداد . والصراع البنيوي ، والناجم عن افتقاد المجتمع للوحدة المضمونة المتمثلة بالاتفاق على مركبات بنيوية تضمن ائتلاف الكل الاجتماعي على خطوطها العامة لضمان سيادة الوطنية .
تعدد الثقافات والصراع
نتيجة لتعدد اللغات والأديان والبيئات تعددت الثقافات في المجتمعات وتنوعت وتصارعت من أجل الهيمنة والسيطرة على الخيرات المادية للشعوب على سطح هذه الكرة الأرضية ، حتى أن الفرد كروبر F. KROBER أحصى مائة وأربعة وستين تعريفاً للثقافة وإن هذا العدد في تزايد وتصاعد مستمر ، وهذا يدل على سعة موضوع الثقافة وأهميتها وتداخل العناصر المؤلفة لها فضلاً عن اختلاف مصطلحاتها في لغات العالم من عرب وفرنسيين وألمان وغيرهم ، ويعرفها كليرنس كينز CLARENCEN-CACE أنها " كل ما هو موجود لدى المجتمع من تراكمات وتغيرات اجتماعية ومادية وخبرات وأدوات ورموز وما إلى ذلك.
إدارة الصراع
يتعذر تجنب الخلاف في المؤسسات لأن أهداف وقيم واحتياجات الجماعات والأفراد لا تتوافق دائماً. فقد يكون الخلاف سمة من سمات التنظيم السليم وقد يكون الاتفاق التلقائي على كل شيء سمة غير طبيعية ومهنة للقوى. ومن الطبيعي أن يكون هناك خلافات في الآراء حول المهام والمشروعات وفي هذه الحالة لا يجب كبت هذه الخلافات, بل يجب إظهارها لأن ذلك يعتبر الطريقة الوحيدة التي يمكن بها كشف نقاط الخلاف وتسويتها.
إدارة الصراعات الدولية
للصراعات الدولية سمات مشتركة،الأمر الذي يتيح خلق قواعد عامة وأساليب راسخة للتعامل معها،وتعتبر الحروب أقسى تجليات هذه الصراعات، فعندما تقع الحروب فإن ذلك يعني أن هناك ثمة مصالح متناقضة تناقضاً كاملاً في لحظة معينة ،وغير ممكن حلها إلا من خلال اللجوء إلى القوة المسلحة وليس مجرد التهديد بها.
وتعتبر المساومة أكثر أشكال الصراع انتشاراً بين الأفراد والجماعات والدول، وهي عملية تضم أكثر من طرف بينهم مصالح متضاربة نسبيا ويسعى كل طرف لإيجاد نوع من أنواع الاتفاق المرضي الذي يحقق شكلا من التوافق فيما بينهم.
وعملية المساومة تتضمن دائما محاولة من محاولات الإجبار،غير أنه إجبار لا يقوم على آلية تحقيق التفوق من خلال الحرب بل يعتمد على التهديد أو التأثير في الطرف الآخر من أجل قبول تنازلات ما كان ليقبل بها ابتداء، إلا أن عملية المساومة لا يمكن أن تنطوي على أي صورة من أشكال الإجبار الكامل، و إلا صارت أقرب للحرب أو لعبة فيها فائز ومهزوم . والمساومة هي أولى صيغ إدارة الصراع في النظام الدولي فهي بمثابة القاعدة الأساسية التي تشتق منها كافة الصيغ الأخرى .
لقد قسم المحللون السياسيون -المتخصصون في علم "حل الصراع" Conflict Resolution- الصراع إلى درجات مختلفة، فهناك صراعات "عالية المستوى"، وهناك صراعات "متوسطة المستوى"، وأخيرا هناك صراعات "منخفضة المستوى".
كذلك قاموا بالتفريق بين مفهوم "حل الصراع" ومفهومي "إدارة الصراع" و"تسوية الصراع"، كما فعل "جون بورتون" John Burton الذي يعتبر من عمالقة هذا العلم. فبينما تعني "الإدارة" تحديد الصراع أو إيقافه عند حد معين، وبينما تعني "التسوية" التعامل مع الصراع في ظل عمليات قانونية وسلطوية التي يمكن فرضها على يد النخبة، تعني كلمة "حل" إنهاء الصراع جذريا من خلال الوصول -تحليليا- إلى أصل المشكلة. ومن ثم، فإن حل الصراعات -على عكس إدارتها أو تسويتها- يمثل حلا دائما، وليس مؤقتا، للمشكلة. وكذلك يمثل حلا مرضيا لجميع الأطراف.
آليات غير تقليدية لحل الصراع
ومن اللافت للانتباه هو تحول آليات "حل الصراع" من التقليدي إلى غير التقليدي. وقد حدث هذا التحول بالتحديد في أعقاب الحرب الباردة عام 1991. فقبل عام 1991، كانت الآليات التقليدية متمثلة في المفاوضات، والزيارات الودية بين المسئولين، والتوسط، والتحكيم، إلا أنه بعد عام 1991، لاحظنا تطورا حادثا في منظري علم "حل الصراع"، إذ بدءوا في إعداد مفاهيم جديدة، واتباع آليات غير تقليدية. فكان من بين هذه المفاهيم الجديدة، مفهوم "تحويل الصراع" Conflict Transformation بدلا من "حل الصراع"، ومعناه باختصار "التوصل إلى حل وسط بين الأطراف المتنازعة من خلال القيام بعمليات متفاعلة interactive processes، تؤدي بعد ذلك إلى تهدئة الأجواء، أو إعادة تعريف المصالح، أو العثور على أرض مشتركة". وكذلك كان من بين الاقترانات غير التقليدية: استخدام التكنولوجيا، واستخدام الإعلام، واستخدام المغريات الاقتصادية ودور الشركات عبر القومية، بجانب استخدام دور المنظمات غير الحكومية، ووسائل حفظ السلام.
وأياً كانت منهجية "حل الصراع"، فإنه لا بد من وجود شرط مركزي حتى يؤتي "حل الصراع" ثماره، هذا الشرط يتمثل في توقيت ونضج المفاوضات، فالأطراف المتصارعة تتجه فقط إلى حل صراعاتها حينما تكون مستعدة لذلك، أي حينما تصل إلى حالة من اليأس والقنوط، التي تدرك من خلالها كم الخسائر التي تتكبدها. عند هذه اللحظة فقط -التي يسميها المنظر "وليام زارتمان" باللحظة الناضجة ripe moment- تتسارع الأطراف لكي تتلقف المقترحات المقدمة لحل الصراع، والتي كانت دائما تلوح في الأفق، فلا تجد من يتلقفها.
و يقول " جيمس ويير " و " لويس بارنيس ":
((إن القدرة على حل الخلاف بطريقة بناءة تمثل تحدياً كبيراً للنجاح الإداري. وتزداد حدة الخلافات بين الأفراد بتزايد حدة الخلافات داخل المؤسسة وكل المؤسسات لها نصيبها أيضاً من الخلافات البسيطة التي تضاعف المشاكل الرئيسية، من هنا تكون مشكلة المدير هي الاعتماد على الاختلاف في آراء الأفراد دون أن يجعله يعرض الأداء الكلي والتطور للخطر)).
ويرى" ويير " و "بارنييس " إن الخلاف بين الأشخاص مثل الخلاف بين الجماعات - هو حقيقة تنظيمية لا هي جيدة ولا هي سيئة. قد تكون مدمرة وقد تقوم بدور بناء. " فالمشكلات تنشأ إذ ما تم قمع الخلاف القائم بطريقة مصطنعة أو إذا زادت حدته على قدرة الخصوم أو تدخل طرف ثالث "بمثابة الوسيط".
بالإضافة إلى أن الفعل بالنسبة للخلاف بين الأفراد قد يكون انسحاب أحد الطرفين تاركاً الطرف الآخر وحده في الساحة. هذا هو الموقف التقليدي القائم على مبدأ المكسب والخسارة. أما إذا تم حل المشكلة بالقوة فلا يكون ذلك هو الحل الأمثل لها إذا كان هذا الحل يمثل وجهة نظر واحدة لفرد واحد ويتجاهل وجهات النظر الأخرى المخالفة والتي قام- في الحقيقة- بإبادتها إبادة تامة. فالفائز قد يكون منتصراً والخاسر قد يكون مظلوماً وفي هذه الحالة يكون مدفوعا ًللقتال مرة أخرى في يوم من الأيام. وقد يكون هناك هدنة للخلاف ولكن لا تكون له نهاية.
وهناك طريقة أخرى لتهدئة الخلافات والتظاهر بأن الخلاف لم يعد قائما بالرغم من أنه لم تبذل أي محاولة لمعالجة جذور الخلاف. وهذا الأسلوب أيضاً أسلوب غير مرضٍ لأنه من المحتمل أن تظهر المشكلة من جديد وتستأنف المرحلة أيضاً من جديد. وهناك طريقة أخرى لحل الخلاف وهي المساومة للتوصل لتسوية الخلاف. وهذا معناه أن الطرفين يكونان مستعدان لأن يكسبا أو يخسرا بعض النقاط كما أن الهدف هو الوصول لحل يرضى الطرفان. ومع ذلك فإن المساومة تتضمن كل أنواع الحيل التكتيكية المضادة وغالباً ما يكون الطرفان أكثر تلهفاً للوصول لتسويات يقبلونها أكثر من تلهفهم إلى الوصول لحل سليم.
حدد " ويير " و " بارنييس " طريقتين لإدارة الخلاف أو الصراع بين الأشخاص أو بين الجماعات , هما السيطرة , والمواجهة البناءة.
السيطرة :
تشمل السيطرة , منع التفاعل , وبناء أشكال التفاعل , وتقليل أو تغيير الضغوط الخارجية.
ومنع التفاعل استراتيجية تستخدم عندما تشتد الانفعالات. حيث تتم السيطرة على الخلاف بالفصل بين طرفيه على الرغم من وجود الخلافات لنعطي الفرصة للأشخاص المعنيين لتهدئة الخلافات والتفكير في حلها بطريقة بناءة. وقد تكون هذه الطريقة وسيلة مؤقتة وتكون المواجهة المحتملة أكثر تفجيراً للخلاف.
ويمكن استخدام استراتيجية بناء أشكال التفاعل إن لم يمكننا الفصل بين الطرفين. وفي هذه الحالة يمكن تطوير اللوائح الأساسية للتعامل مع الخلاف عن طريق توصيل المعلومات بين الطرفين أو التعامل مع المشاكل القائمة. وقد تكون هذه الاستراتيجية وسيلة مؤقتة أيضاً إذا تم كبت الآراء المختلفة بدلاً من التوفيق بينها.
أما عن الاستشارات الشخصية فهي عبارة عن استراتيجية لا تركز على الخلاف نفسه بل تركز على تفاعل الطرفين - وهذه الاستراتيجية تفسح المجال لهما لإخراج التوترات الحبيسة وتشجيعهما على إيجاد طرق جديدة لتسوية النزاع ولكنها لا تركز على الطبيعة الأساسية للخلاف وهي العلاقة بين الطرفين. لذلك فإن المواجهة البناءة تقدم الأمل الأفضل لتوفير الحل الأبدي للخلاف.
المواجهة البناءة :
المواجهة البناءة أسلوب للتقريب بين طرفي الخلاف وغالباً ما تتم بوجود طرف ثالث يكون دوره هو خلق مناخ من التفاهم والتعاون بينهما. فهذا الأسلوب يساعد أيضاً الطرفين للتعرف على وجهات النظر المختلفة لكل منهما. وهو عملية لتطوير التفاهم المشترك بينهما بهدف الوصول لحل يرضي الطرفين فتتم مواجهة المشاكل على أساس التحليل المشترك لهذه المشاكل بمساعدة طرف ثالث وتحليل الحقائق المتعلقة بالموقف والتصرف الفعلي للطرفين. ويتم التعبير عن وجهات النظر وتحليلها ويتم أيضاً تحليلها بربطها بأحداث وتصرفات معينة وليس عن طريق ربطها بالاستنتاجات أو بدارسة الدوافع. أما عن الطرف الثالث فله دور رئيسي في هذه العملية وهو دور صعب. ومسؤولية هذا الطرف هي ضرورة التوصل لاتفاق حول القواعد الأساسية للمناقشات التي تهدف لإظهار الحقائق وتقليل السلوك العدواني. ومن واجبه أيضاً مراقبة طرق التعبير عن وجهات النظر السلبية أثناء المناقشات وتشجيع الطرفين على تحديد المشاكل وتحديد أسبابها ودوافعها للوصول لحل مرضي للطرفين. كذلك فإن من واجب الطرف الثالث عدم التحيز لأي طرف من طرفي الخلاف , ويساعد الطرفين على تطوير الخطط التنفيذ وتوفير المشورة والمساعدة في حالة طلبها.
الخلاف في حد ذاته لا يمكن إنكاره , فالخلاف مصاحب للتقدم والتغيير. وما يستحق أن نأسف عليه هو فشلنا في استخدام الخلاف بطريقة بناءة. وليس هناك من شك في أن الحل العملي للمشاكل والمواجهة البناءة لها يساعد على حل الخلافات وفتح قنوات للمناقشة والسلوك التعاوني.
ومن أساليب إدارة الصراع :
1 - التناول التقليدي للصراع : وهو تناول ينظر إلى الصراع على انه موقف يتميز بحدين متناقضين أحدهم الربح والآخر الخسارة , وهنا ينظر للمتنافسين أو المتصارعين على أن ميولهم متنافرة وان اهتماماتهم متغايرة . بحيث لا يبقى مجال لأي حل وسط ، وانه لا بد من فشل احدهم على حساب نجاح الآخر . فالموقف لا يحتمل سوى الربح أو الخسارة . لذا فان توجيهات حل الصراع من خلال مفهوم الربح - الخسارة من شانها أن تقود على المدى البعيد إلى اختلال في السلوكيات الوظيفية للعاملين في النظام مما يشكل انحداراً في المناخ الذي يسوده وفي إدارته وبالتالي في الصحة العامة للنظام .
2 - التناول الاحتمالي للصراع : يعتمد هذا التناول على المفهوم القائل بان تشخيص الموقف وتحليله يعتبر أمرا ضرورياً للعمل والأداء . وبالتالي فان أفضل سبل التعامل مع الصراع يمكن أن تتم عبر تشخيص دقيق للموقف بهدف التعرف على انسب احتمال للتعامل معه ضمن معطيات ظروف الموقف . لذا فانه من الأمور ألهامة التي يجب اعتبارها عند التعامل مع الصراع ، ضرورة البحث عن بدائل لأداره الصراع ومن ثم دراسة الموقف الأكثر مناسبة وملاءمة لكل من هذه البدائل التي يمكن أن تحقق فيها أقصى كفاية .
بحيث لا تعالج فقط المشاكل ألحرجه - مصدر الصراع - ولكن أيضا وفي الوقت نفسه تحافظ على النظام وتقويه وتجعله اقدر على الاستمرار والإبداع.
التعليقات (0)