نحن على الخارطة الدولية
لن نتجاوز حقنا الطبيعي ولا الحقيقة الى الخيال لو صحنا بأعلى الصوت نعم نريد عالماً تسوده عدالة اجتماعية، ولكن ندخل في السفسطة التي لا طائل تحتها لو ألححنا على أن يتحقق ذلك في عالم مثل عالمنا الذي استبد به من لا يؤمن إلا بميزان القوى الشائل لمصالحه فقط. عالم يقدس الحضارة ويدّعيها ويؤمن بالثقافة ويرعاها. يتفق مثلاً مع مبدأ أفلاطون بأن العدالة أساس الجمهورية. فلا يتبناها كما تتمنى الشعوب "هي أن يرد لكل ما له" بل يتبنى المقولة الأخرى "العدالة هي فائدة الأقوى".
إن ما يصيب العالم من مصائب وكوارث إنما يتطلب وقفة تأملية طويلة بعيدة كل البعد عن هذا الذهول الذي أصاب العقول بالكلال، فلم تعد أسباب تلك الانهيارات سرا حتى على رجل الشارع، ونحن غافلون مع أننا في حقيقة الأمر في عين الفاجعة شئنا أم أبينا. فالدول الرأسمالية تشدنا لمعسكرها بدعوى أن الابتعاد عنها يعني تشريع أبوابنا وحمانا وديننا لغزو فكري شيوعي، فلنبق في حماها، بينما دعاة الدعوة المضادة كانت تعمل بلا هوادة لشدنا للمعسكر الآخر بدعوى حمايتنا من الاستغلال والاستعمار والتلويح بشيء من عدالة وتحرر.
كأن المعركة المفروضة علينا والمؤامرة التي ابتلينا بها هي النزاع بين الرأسمالية والماركسية، وليست في صميم هيكلنا الاجتماعي هربنا من مشاكلنا وانجرفنا تارة لهذا التيار وأخرى لذاك، فها قد طاشت سهام الجميع وارتد كل على أعقابه يلعق جراحه، وما زالت جراحنا تنزف من الطرفين وما زالت حمانا تنتهك ومقدارتنا تنتهب.
إن كل أزمات العالم أفرادا ومجتمعات سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم روحية محركها الأساسي والمعول الذي يهد كل بنيان من حولها هو العامل الاقتصادي. فالاقتصاد الشيوعي الذي ادعى الكمال تداعى والنظام الرأسمالي تضعضع، مما يؤكد أن النظريات والمناهج الوضعية قاصرة عن الإلمام بكل جوانب الحياة الانسانية حتى ولو افترضنا فيها حسن النوايا وبعد النظر.. فإنها لن تخلو من ثغرات تنفذ منها غايات أهل الحل والربط والسلطة والمال، ولن تكون منزهة تماما عن هوى واضعها ومرهونة ببقائه أو زواله، فكيف نأمل بأن نحظى بشيء من العدالة.
لقد انهارت الماركسية وشيعت بقاياها كأسوأ ما يكون التشييع. وخرجت شعوبها بجرأة وفرحة تعبيراً عن عودتها لممارسة الحياة بشكل سليم والتخلص من أفكار فرضت عليهم حقباً متتالية كشيء مقدس، فسياسة الإنغلاق وسباق التسلح وعدم اتاحة الفرص للأفراد لم يحقق عدالة، فانتهى المجتمع الى مزق واغتراب بعد تحطيم التناقض الاجتماعي الطبيعي والضروري بين البشر لأنه وحده الذي يخلق في النفس البشرية الحافز لمواصلة الجهد والدفع به الى المزيد من العمل، علاوة على عودة ظهوره متمثلاً في طبقة الحكام والحزب.
إن العلاقة جدلية بين الفرد والمجتمع وبين ما هو خاص وما هو عام. لا يمكن لأحد حسمها. فمقولة ماركس الشهيرة "من كل حسب طاقته لكل حسب قدرته لكل حسب عمله" علاوة على أن كل مبدأ لاقى استحسانا أو قبولاً كان قريباً من قوانينا السماوية ولكننا نخجل من طرحها لئلا يقال إننا رجعيون روحانيون، ونتهم بالبعد عن المنهج العلمي والعملي والاشتراكي و.. و...
إن معاناة البشرية تكمن في الفقر، والتخلف، والبيئة، والصراعات القومية، فهل حلت لنا الدول الشيوعية شيئاً منها. أم أن الدول الكبرى المسيطرة على مقدرات العالم وجدت لها مخرجاً؟
إن الدول المسماة بالرأسمالية قد تفردت بالسلطة الدولية، مع كل ما تعانيه من نظامها من التفاوت والبطالة والاستغلال. والملكية الفردية الخاصة المستغلة المطلقة التي تتحكم عن طريق احتكار السوق الاقتصادي العالمي ومن ثم بالسياسة الدولية. نظام يقف عند أهبة السقوط مهما أخرت تلك الساعة فهي لا محالة قادمة مهما شغلوا العالم بمؤامرات وحروب تستنزف الشعوب المقهورة لتدر الأرباح وتدور المصانع لتقلل من البطالة وتنقذ اقتصادها.
إن كل ذلك يؤكد على وجوب ايجاد نظام بديل شامل للعالم كله يقوم على الحرية والعدالة ويردم الفجوة الحضارية بين الأمم ويضمن حماية البيئة من الدمار وينهي سيطرة الاحتكارات من السوق العالمية ويوقف نهب ثروات العالم النامي وإعطائه الفرصة للدخول الى الحضارة القائمة على قدم وساق يقدم لها الوقود ولا يناله منها إلا فتات.
العالم كله يغلي.. وأمم الأرض تفكر به وتحاول أن تدلوا بدلوها فيه إلا نحن نتفرج بشكل مخيف وببرود. لا نقيم وزناً لما نملك من مقومات النفس البشرية الروحية والفكرية والحيوية. ومقومات الحياة البشرية المعنوية والمادية. فالفكر الإسلامي ككل، والاقتصاد الاسلامي المحكم رغم اتهامه بالقصور، بديلاً رائعاً لو قيض له من يبسطه ويناضل لرفع شأنه. المستقبل لمن يستطيع أن يربط الحياة بالواقع بلا أوهام ولمن يمتلك القدرة على الدفع بالتاريخ للأمام، وإغناء البشرية ماديا وروحيا، وتوسيع العدالة بين الناس، فهل هناك من منهج يعتبر أي عمل سواء أكان في المجال الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي يسبب ضرراً لفاعله أو يولد ضرراً لغيره يعتبر عملاً محرماً سوى ديننا. فاعتبروا يا أولي الألباب.
التعليقات (0)