دأب الحكام العرب, من بقي منهم ومن ذهب. على ترديد أنهم حماة الأمن, وناشرو الأمان والاطمئنان في الجهات الأربع للأوطان. وحدهم مقاومة, وحدهم ممانعة, وحدهم ضرورة تاريخية, وحدهم خُلقوا ليحكموا, يرثوا ويُورّثوا, وحدهم مصدر السيادة وحدهم اصطحابها, تُسمى الدول بأسمائهم, بهم بداية التاريخ الحديث وبنهايتهم نهايته. بعدهم التقسيم والفوضى والطوفان: فراغ سياسي, احتراب طائفي, خراب, مجاعات, سلفية, قاعدة, وفي أحسن الأحوال حكم الإخوان. عودة الاستعمار والامبريالية, وربما الحروب الصليبية.
تهويل وتهويش وتخويف لا يصدقه إنسان, إلا إذا كان صينيا أو إيرانيا (سياسيا) أو دبا روسيا.
كلام ليس للداخل فقط وإنما كذلك مُصدّر للغرب العالم بالظواهر والبواطن, غرب,مع ذلك , يصم الآذان, يساند الدكتاتوريات والاستبداد والفساد, وكأن ليس بالإمكان أفضل مما كان, ويدّعي مع ذلك الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان دون تمييز, ودون اعتبار لجنسه وأصله, وموقعه في الزمان والمكان . يا لغطرسة الغرب الرسمي!!!. ويا لقيمه المرفوعة عاليا بإعلانات وبيانات وتصريحات, ( لا تغطي, مهما جهدت, كل عنصرية وكل غطرسة قومية ) والمنسية, سهوا, حين يكون غير إنسانه الإنسان.
كعادته في الخداع السياسي, أعلن بعض الغرب الرسمي, ليس لتوبة وصحوة ضمير, أنه اخطأ السياسة حين اعتقد أن الأفضل له ولمصالحه مساندة الدكتاتوريات وحماية طغاتها, ( لأن في ذلك تحقيق ما يسميه الاستقرار, استقرار متولد عن الاستبداد يضمن للغرب دون منغصات مصالحه الحيوية في منطقة بالغة الأهمية ) وليس التشجيع على الديمقراطية وتعقيداتها, فتعامله مع دكتاتوريين أفراد أفضل لمصالحه من مجالس, وبرلمانات, ومداولات, ورفض وموافقات. مصالحه الحيوية لا تبحث عن مشروعية.
الغرب الرسمي نفسه, بمصالحه نفسها, يعلن اليوم على رؤوس الأشهاد,بعد مرور عقود,
وبعد أن :
ـ استشرى الاستبداد والفساد فأفسد الإنسان والأوطان.
ـ تحول الطغاة إلى قتلة ومافيات تعمل على نهب ثروات البلاد وتحويلها, مليارات من الدولارات, إلى البنوك الخارجية, والاستيلاء "المباح" على كل الفعاليات الاقتصادية.
ـ أصبح رجال الأمن يجلدون الناس, ليس فقط في أقبيتهم المظلمة, وإنما كذلك في الشوارع والأماكن العامة والمكشوفة, وتوجيه الإهانات للصغير والكبير ودوس المعتقدات والقيم والكرامات.
ـ تخلى الحزب, المتضخم عدديا وماليا, قائد المجتمع والدولة , عن العمل المفترض انه لتلبية احتياجات المجتمع والدولة, ليتفرغ نهائيا لإفساد المجتمع ونهب الدولة, دون أن يستقيل منه صغير أو كبير أو تتحرك في أحده أعضائه وطنية أو صحوة ضمير وهو يرى الكبائر ويساهم فيها, ويرى تحول عقيدته الهابطة مع الأيام, إلى عبادة الرئيس و"نضاله" لبناء مجد للرئيس. ومع ذلك لم يكف يوما عن صراخ المهووسين: بالروح بالدم.
ـ أصبح القضاء خارج العدالة, يلاحق ويحكم ويدين باسم أجهزة الأمن. يعلق القضاة صور الدكتاتور في مكاتبهم وتماثيله في منازلهم, ولا يحتج احد منهم على انتهاك الحريات, وقتل الأبرياء في ظل قوانين الطوارئ. وتنتزع محاكم الاستثناء الولاية العامة من القضاء العادي المختص لتترك له الاستثناء.
ـ تحولت مهنة المحاماة من الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان, إلى مهنة تجارة رخيصة على حساب أصحاب الحقوق, و تحول بعض المحامين إلى شبيحة يعتدون على زملائهم الشرفاء ليس فقط بالوشاية بهم للأمن, وإنما كذلك الاعتداء عليهم بالضرب وفك اعتصاماتهم الهادفة لإعلاء كلمة العدالة, وقول كلمة حق في حاكم ظالم ونظام فاسد.
ـ نزل التعليم والثقافة والتربية, في كل المراحل, من تزويد بالمعارف والبحث عنها, إلى معارف مقننة وموجهة ولا تتعدى حدود المؤسسة التعليمية, ومن ثقافة مفتوحة على الأفكار المتعددة الحرة والنيرة إلى فكر باتجاه واحد, معمم كمرايل التلاميذ وبذلات الطلائع, في عسكرة للفكر والسلوك, والى تربية على الطاعة العمياء والتفاني بها, وعبادة الشخصية. تعليم و ثقافة وتربية خارج العصر ومسيء للإنسان ومؤذ للعصر.
ـ تمادى الأئمة في المساجد, والقساوسة في الكنائس, دون رادع من دين وأخلاق, بتضمين خطبهم وعضاتهم تقديس الدكتاتور والدعاء له, من أعلى المنابر والمحارب, بالنصر على أعدائه الذين ليسوا إلا الأحرار من أبناء شعبه, يخطبون وينشدون ويعضون, وهم يرون ما يرون. يحللون الطاعة العمياء, ويحرمون الاعتراض والاحتجاج وقول كلمة ضده علنا أو في الخفاء. يمارسون التقية, في وقت يدفع فيه الشباب من مواطنيهم (الأقل علما منهم بالأمور الدنية ولكن الأكثر صدقا وسلامة طوية) أرواحهم للجهر بالحق وطلبا للخلاص والحرية.
ـ بات يقاسم المسؤولون الفاسدون المواطنين علنا لقمة عيشهم عن طريق الرشاوى وابتزازهم
لانجاز معاملاتهم, وكأن القانون جعل لهؤلاء على جيوبهم حق جباية.
ـ سدت الأفاق أمام ملايين المواطنين في الحياة الكريمة, فأخذت البلاد تلفظ مئات الآلاف من شبابها في هجرات غير شرعية, بحثا عن لقمة عيش وحرية وكرامة إنسانية.
ـ خيم اليأس ليدفع البعض لإحراق النفس كسبيل وحيد للخلاص الأبدي من أعباء الحياة وسوادها.
عندها كانت بداية الحريق الكبير المنطلقة شراراته الأولى من جسد محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد, وكان أول المحترقين بها من الطغاة زين العابدين بن علي.
وعندها بدأت الثورات السلمية تنذر بان ساعة الحقيقة دقت, وان رياح التغيير هبت, وان الاستبداد والفساد إلى زوال. وانه لم يعد شيء من المحال. فنزلت ملايين المصريين للساحات والميادين. وملايين اليمنيين تهتف ارحل. ويهتف الليبيون في ملاحقة القذافي: نحن شعب إما نموت أو ننتصر. وأخرجت حوران أثقالها وأبطالها لتنتقل الثورة إلى مناطق سوريا التي لا تعلو التجارة فيها على الكرامة, وتفضل الموت على المذلة.
عندها, وعندها فقط, أدرك بعض الغرب الرسمي انه لم يعد بإمكانه مساندة الاستبداد والطغاة. وان سياسة الدعم السري والعلني للدكتاتوريات لم تعد مضمونة النتائج, ولم تعد تنتج استقرار مصالح. وان "مساندة"حراك الشعوب أصبح مطلوبا, ليس لأنها تنزف دما, فقد نزفته منذ عقود ولم يعبأ أحد برائحته, وإنما لان الأمور أفلتت من صناعها, والحصيف من يجاري رياح التغيير ويقف مع صناع الغد. حينها, وحينها فقط, أعلن بعض الغرب أنه يؤيد الربيع العربي, ويوحي بأنه يشارك في صنعه!!!.
بعض الغرب, كما اشرنا , صرح بخبث انه أخطأ في سياسة إقامة الدكتاتوريات ودعمها ضد الديمقراطية, واعتبارها عامل استقرار في المنطقة, واستقرار لأمن إسرائيل, ولكنه مع ذلك, لم يعترف بما سببه هذا الخطأ لشعوب المنطقة من مآس وجرائم على مدى العقود التي امتدت عليها أخطاؤه تلك, وهي في حقيقتها جرائم وليست مجرد أخطاء. ولم يعتذر للشعوب العربية, ولا حتى لشعوبه لما ألحق باسمها وباسم الديمقراطية وحقوق الإنسان, من أذى شامل وأذية, طيلة عقود استعماره المباشر للمنطقة العربية, وإلى يوم وضعها تحت الهيمنة باستعماله عليها أزلاما "وطنية".
ومع ذلك, ورغم ذلك, يبقى من الدول من لا يهمها كثيرا تغطية مصالحها بأية قيم, ولا يهمها المستقبل غير المضمون بقدر الحاضر, ولا يهمها الإنسان وحقوق الإنسان, فهو أساسا في اقليهما وطيلة تاريخها السياسي مهان. دول على رأسها روسيا التي لا تملك أشياء كثيرة, غير الأسلحة وأدوات القمع, للتصدير, ولا يعنيها في شيء إن كان مستوردها سفاحا أو طاغية, وان هدفها حماية نظامه من شعبه. انه الدب الروسي بامتياز.
هذا الدب يتبنى, ليس عن عميق اقتناع وحسن نية, ما يقدمه الطغاة, على أنهم عامل استقرار في عالمنا هذا, وبأنهم ضرورة للسلام والتوازن الدولي. وقف مع طاغية ليبيا إلى اليوم الأخير من طغيانه, وتحدث بعد سقوط القذافي والرهان عليه, عن عقود وإمكانية تجديد عقود, دون احمرار وجه, إن كان للدببة وجوه لتحمر.
يقف اليوم نفس الدب نفس الموقف ضد طموحات الشعب السوري, لان في الأمر سلاح وعقود وقواعد حمايتها تتطلب حماية النظام بكل الوسائل, لا تهمه حماية الدولة ومصالحها, ولا تحرك فيه شيئا الدماء المسفوحة, والحريات والكرامات المهدورة, والسير بالدولة إلى الاقتتال الداخلي.
هل لا يعلم الدب حقا أن النظام ابتلع الدولة؟. وأنه أغرقها في الفساد؟ وان الشعب انتفض انتفاضة لا رجعة عنها؟. وان الدماء المسفوحة دماء أحرار مسالمين تُدفع ثمنا للحرية؟. هل عجزت أجهزته ومخابراته, وهي ذات الباع الطويل في التجسس ومعرفة خفايا الأمور, عن معرفة أن العصابات المسلحة المزعومة التي تقتل الآلاف هي عصابات النظام وقوات أمنه؟. وان الدبابات التي ترفع أعلاما سورية هي حقا سورية, و ترفع صور الرئيس لزيادة التأكيد على الهوية, وإنها تنفذ مهامها بامتياز, وبقدرات قتالية في غاية المهنية؟. هل فقدت الأجهزة الروسية القدرة على الرؤية والتمييز, فتطلب الأمر من الزعماء إرسال بعثات استطلاع وتقصي "حقائق"؟. وهل أقصى ما توصل إليه تفكير الدب هو الدعوة والإلحاح على الإصلاح !!!, والعمل في الوقت نفسه, وبمراوغة "دببية" على شق المعارضة السورية, عن طريق التشكيك بمواقف البعض منها, وحث البعض الآخر على عدم معاداة النظام؟. لا نعتقده دبا إلى هذا الحد رغم التسمية التي تُطلق عليه ويطلقها على نفسه, ولكن مع ذلك, وفي مواقفه الحالية يتبع سياسة الدب الحقيقي.
لم يعلن ــ ولن يعلن, إذا ما أخذنا بعين الاعتبار سياسته قديمها وحديثها وطبيعة ثقافته ــ بأنه ارتكب يوما, ويرتكب دوما, أخطاء سياسية وخطايا لا تغتفر ولا تبرر ضد طموحات الشعوب العربية الثائرة, وبان دماء الأبرياء لا يجب أن تكون مصدر دخل. ولا أورقا سياسية لتحسين مواقعه في الساحة الدولية.
التهويل والتبشير من قبل الطغاة ومؤيدهم في الداخل والخارج, بان بديل أنظمتهم الاستبدادية , وبديل طغيانهم هو الفراغ الفوضى وسقوط الدولة, ليس في واقعه إلا تخويف وابتزاز وتشبيح.
البديل لكم ولأنظمتكم ليس أنظمتكم نفسها مرممة ومعدلة, ولا الفوضى التي تدعون , ولا الفراغ لأن هذا في رؤوسكم فقط. البديل هو دولة تستحقها شعوبنا, دولة القانون والديمقراطية, دولة والمؤسسات, والحريات الأساسية وحقوق الإنسان. دولة لا يُقتل ولا يُذل فيها أبناؤها, دولة تقوم على المواطنة والمواطنية.
هل هو قليل هذا البديل؟.
د,هايل نصر.
التعليقات (0)