قاسية هي الوحدة... قاسية أبدا، أبدا، الريح تولول في الخارج و تعوي كقطعان الذئاب الجائعة، وحيدة بين التلال و يتعالى صفيرها شاقا طريقه في الصمت كالخط الدقيق حزينا منغما في فراغ الظلمات، هدا الصفير الذي حاد عن طريقه حاملا أخبارا من عالم آخر، أخبار اولئك الدين فضلوا بلاد الغربة عن ثرى الوطن و نداه الزكي، هدا الصفير الذي نفد إلى أداني لأسمع منه تأملات حزينة لنفس جريحة وحيدة تائهة في دروب الدجى، دروب الشكوك المعذبة لأسمع فيه شكايات لا وصف لها و لا لون، شكايات روح هدها الأملاق و الخوف، ترن بالآهات المغمومة، آهات قلب يشده إلى المدى نهم غامض، هدا المدى الذي سمينها ببساطة:حنين إلى أثير الوطن، هكذا الحياة في نظر المغترب كالماء العكر تنساب رتيبة بطيئة أو كدواء الزكام المر المذاق و لكني سمعت عبر هدا الصفير شيئا قد اداب فؤادي و مكن جسمي بعقال الحزن و الكآبة مثلما يمكن الصقيع مياه النهر بجليد الشتاء، فرشحت من أم عيني سيول من الدموع اللامتناهية كانت تنزلق على خدي مثلما تنزلق قطرات الندى على بتلات الزهور، لقد سمعت عبره نجوى جاءتني من قلب مفجوع و أية نجوى، نجوى حملتني الى عالم آخر فعشت حروفها و كلماتها ثم انبريت أترجمها بشعري فحملتها اليكم، حملت اليكم الحياة التي يعيشها المغتربون في هده الاسطر، حملت إليكم ما سمعت من صفير الرياح...
آه، ما هدا الشعور الذي يخالجني مد تركت بلادي، و ابتعدت عن أهلي و خلاني خلف حكاية من حكايا الف ليلة و ليلة في بلاد غريبة و بين أناس غرباء... أجل، إنها الغربة، إنها الوحشة، إنها الوحدة ...
آه، قاسية هي الوحدة... غربة مريرة لم تبلغ شهرا و لكن كأنها دامت دهرا، قلوب و وجوه و ضمائر جعتها الآلام بعيدا عن تراب الوطن و صبغتها أنفاق الأرض لونا أسود...
رباه، رباه! من علم الناس في ارضي حروف و كلمات تلك الحكاية، حكاية تقول إن خلف البحر الأبيض زمردا و ياقوتا و أكداسا من دهب، هده الحكاية التي بدأت من شطوط الوطن و انتهت في سراديب الغربة و أنفاقها...
آه، ليتها ظلت خرافة تتناقلها الأجيال عبر الزمن أو أسطورة يتلهى بها شبان الجبال حول مواقد النار في ليالي الصقيع و لكنها ظلت في الحكايات أكذوبة من أكاذيب هدا البحر العميق الكبير، هده الأكذوبة التي دفعتي و غيري إلى هده النهاية المريرة...
آه، ليت الخشبة الأولى التي خاضت عباب البحر، تكسرت في عبه بين رياحه و أمواجه فضرب بينه و بينهم سورا من حديد فلا يجتازه بعد اليوم زورق في سبيل الحصول على هده الكنوز المرصودة...
آه، يا بحر ليتك ناديتني عندما كنت أرنو إلى آفاقك البعيدة حيث اختلطت زرقة سماك بمياهك، كنت أرنو إليها لعل فيها زورقا يعيدني إلى وطني الحبيب، يبعدني عن هده المعاناة الطويلة...
الأيام تنزلق يوما بعد يوم كحبات السبحة و يمر النهار طويلا بطيئا و يجيء في أعقابه ليل مؤرق و نهار أشد طولا، و كنت أرجو أن يلم بي خلاله أحد و لكن أحدا لم يأتي، هكذا حياتي... فالنهر ينشط من عقاله الذي مكنه الصقيع و يعود مرنما بحلول الربيع و الحياة تستفيق بعد هجوعها و الأحياء تنشط بعد ركودها سواي... لقد علمتني هده الغربة شيئا لم أعرفه من قبل علمتني الشوق إلى الوطن، و ارتني لون الحياة بدون الوطن و لكن القدر اختار لي هدي الطريق...
و هكذا حياتي...
التعليقات (0)