نجاد والحجرة والشيطان
حتى قبل أن يرمي الرئيس الايراني، محمدود أحمدي نجاد، حجرته في وجه إسرائيل، عبر بوابة فاطمة الحدودية، كان قد رمى حجرة ثقيلة في بركة الاحتقان السياسي الآسنة في الداخل اللبناني، بمجرد إعلانه عن زيارته الرسمية، إلا أن مياه التخوف و الحذر الجارية ما لبثت أن استقرت تحت جسر العلاقات القوية، الذي يمتد الى الجنوب اللبناني، و التي عكستها قوة الرسائل التي تسلمتها أمريكا وحلفاءها في المنطقة عبر الهواء مباشرة.
هكذا انطلقت أصوات معارضة لقدوم الرئيس الإيراني، حتى دون فتح مجال لصوت العقل لعله يرشد إلى قراءة أكثر حيادية لأبعاد الزيارة وأهميتها على صعيد المنطقة العربية وبالخصوص لبنان، البلد الذي هبت عليه أخيرا رياح نصر مسحت إلى حد كبير اثأر الهزيمة العربية.
ولعل الكثير من الزعماء العرب، الذين لم ولن يجرؤوا مطلقا على اتخاذ موقف شجاع كالذي عبر عنه نجاد حتى قبل أن تطآ رجلاه بلاد الأرز، سخروا من هذه المبادرة، التي تعتبر خطوة كبيرة على طريق تحدي الكيان الصهيوني والاستخفاف بقدراته وتهديداته، فزيارته التي تتزامنت مع ذكرى حرب أكتوبر، تعكس وعيا كبيرا وفهما سياسيا عميقا لما يمكن أن يحققه هذا الاستثمار لمكاسب المقاومة من إظهار إيران كقوة حقيقية، ذات امتداد جماهيري عربي كبير، نجحت في تكثيف الضغط النفسي و السياسي على إسرائيل وتعمل على تقوية تحالفها وتصدير "ثورتها" الى الخارج ، وهو الشيء الذي لم يكن يوما ممكنا، لولا تحقيق المقاومة لانتصارها العسكري، الذي وفر مساحة إضافية للتحرك والاستثمار السياسي.
فهكذا، وعلى عكس الكثير من التوقعات، ألقى الرئيس الإيراني كلمته، على مبعدة كيلومترات قليلة من الحدود مع اسرائيل، أمام حشود كبيرة حضرت لاستقباله في الضاحية الجنوبية بلبنان تقدمتها شخصيات رسمية و قيادات للمقاومة اللبنانية و الفلسطينية ، و أطلق العنان لسيل من الكلمات المنددة بأمريكا و الكيان الصهيوني في تحد كبير و استعراض للقوة على ارض كانت حتى عهد قريب فضاء مستباحا للدبابات الاسرائلية.
اليوم تتحول لبنان إلى قاعدة متقدمة تمنح لإيران الفرصة لإطلاق رسائلها السياسية القادرة على نسف مشاريع الشرق الأوسط الكبير، حيث تعمل الكثير من الدول العربية خانعة على ترجمتها بالانصياع لسياسة واشنطن.
ففي حفل الاستقبال المخصص لأحمدي نجاد، الذي نظمته حركتا أمل وحزب الله، دافع زعيم المقاومة الإسلامية ، حسن نصر الله، في كلمته الافتتاحية عن الموقف و المشروع الإيراني و اعتبره منسجما مع مشروع اللاءات العربية التي أطلقت عام 67 في زمن عبد الناصر، في انتقاد مبطن لتنازل العرب عن التزاماتهم مقابل تشبث إيران بثوابتها.
صحيح أن رمي حجرة لن يستطيع تحرير أرض من قبضة إسرائيل، إلا أنها خطوة ترمز إلى دعم سلاح الانتفاضة والتعبير عن مقاومة الاحتلال و تعبد الطريق باتجاه تقوية مسار الممانعة الذي يقود حتما إلى إفشال خطط التطبيع كما أنها تنطوي على رسائل سياسية بالغة الأهمية، ليس بمقدور العرب أن يفهموا مغزاها، ببساطة، لأنهم قرروا، و منذ مدة، قراءة الإملاءات الأمريكية التي تحث على الاستمرار في المفاوضات بالرغم من إدراكهم أن لا ضوء في نفق المفاوضات التي فشلت في تحقيق أبسط تقدم وهو وقف مسلسل بناء المستوطنات .
فالأمريكيون يدركون مسبقا أن المفاوضات لن تقود إلى أي طريق للحل العادل والشامل، لكن الأهم بالنسبة لهم، كما للاسرائليين، هو قتل أمل الفلسطينيين بسيف الوقت ، وإغراقهم في اليأس على طريق المفاوضات الشاق. إنها المكاسب الحقيقية التي تنتظرها إسرائيل وهي تتوق لليوم الذي تتحقق فيه بشرى وعدهم بها مؤسس الكيان الصهيوني، بن غوريون حين قال: " الكبار سيموتون والصغار سينسون"
انتهت زيارة نجاد الرسمية للبنان دون أن يرمي حجرته ، إلا أن الأهم من ذلك كله هو أن كلماته ظلت منسجمة مع مشروعه الرافض لوجود إسرائيل على الخارطة، مشروع لم يجلب لإيران سوى الحصار والتهديدات المتواصلة منذ بدء تنفيذه.
فلو كانت إيران تسعى إلى اللعب بورقة الدعم الواضح لحركات المقاومة، سواء في فلسطين أو لبنان، في لعبة المصالح لمكنها ذلك من دون ادنى شك أن تصبح العضو المدلل في نادي الولايات المتحدة الكبير ، ولربما تحولت إلى الحليف الأول والأفضل لها في المنطقة العربية والإسلامية. إلا أن المواقف الإيرانية، على ما يبدو، تجاه إسرائيل، لم تتغير يوما واستندت دوما على مبدأ رفض الاعتراف بوجود إسرائيل.
فإذا كان موقفها المعادي للدولة الصهيونية هدد مصالحها الإستراتيجية بشكل كبير و حرمها من الدعم الأمريكي، كالذي تتمتع بها مصر، والذي بلغ العام الماضي 1.5 بليون دولار، جزاء على اخلاص قيادتها لمقاومة تيار الممانعة بالمنطقة، و سعيها الجاد لإعداد الظروف المناسبة التي تخدم المصلحة الأمريكية في تطبيع العلاقات العريبة مع إسرائيل ، إلا أن إيران، وبفضل صمودها وتحديها للهيمنة الأمريكية، جنت مكاسب سياسية أكثر أهمية وفعالية حيث أضحت قوة سياسية أكثر تأثيرا في العالم العربي والإسلامي، فضلا عن تحولها إلى قوة عسكرية مستقلة بذاتها، و بمقدوره، اليوم، أن تحمي حدودها دون حاجة للوصاية والحماية الأمريكية التي لا تمنح إلا مقابل الالتزام بدعم مبادرات واشنطن في المنطقة.
عندما نجح الخميني في تأسيس جمهوريته الإسلامية عام 1979 على أساس المذهب الشيعي، الذي يعتقد بصحته، لم يتراجع عن مشروعه في مواجهة أمريكا، ليتواصل بنفس القوة مع سلفه.
اليوم، وبعد 21 عاما على وفاته، يأتي رئيس جمهوريته الحالي، محمود احمدي نجاد، ليضع حجر عثرة في طريق التطبيع مع الكيان الصهيوني، ويرمي بأخرى في وجه مشروع أمريكا الامبريالي، التي وصفها وَليََُه الفقيه، ذات يوم، بالشيطان الأكبر.
التعليقات (0)