نجاح
ــ 1 ــ
حالما استفاق من غيبوبته، امتدت يد الأستاذ جلّول المعروفي إلى أنبوب سيروم سارع إلى إنتزاعه من أنفه ثم شخص ببصره الكليل نحو شاشة تلفزيون ضبطت على قناة "الجزيرة الرياضيّة بلاس وان"، حيث ظهر معلّق رياضي معروف بركاكته و كثرة لغوه، و هو يستجوب أحد أحباّء بيارن مونيخ.
حين تمكّن الأستاذ جلول المعرفي من تبيّن نتيجة المباراة النصف مصيريّة التي علق عليها نصف آماله و رصد للرهان عليها نصف ما يملك من دينارات، شرع ينادي بصوت أنهكه المرض و أضعفه الألم:
ــ سماح اين أنت يا سماح؟
حين لم يظفر بجواب، أعاد النّداء بصوت خافت أضاعه صراخ المعلّق الرياضيّ المهذار:
ـــ سماح أين غبرت؟
كان صدر جلول المعروفي يعلو و ينخفض بعد المجهود الذي بذله، حين بلغه صوت زوجته سائلة عن حاله.
بصوت واهن أنهكه السّقام، تمكّن الأستاذ جلّول المعروفي ــ وهو يرجو تكذيبا مريحاــ، من سؤالها عن نتيجة مباراة برشلونة و بيارن مينيخ.و لكنها أخبرته بأنّ رهانه قد ضاع بعد خسارة برشلونة!
كان الأستاذ جلّول معروفي يستجمع قواه الكليلة و ذاكرته العليلة للعن حظه قبل السّؤال عمّا اذا قد تمّ العثور على نظارته الطبيّة، حين غيبت وعيه موجة ألم عاتية.
حين تأكدت من غيبوبته، أقدمت سماح على دسّ أنبوب السيروم في أنف زوجها، قبل أن تغادر الحجرة دون أن تنسى إطفاء الأنوار.
ـــ 2 ــ
بمجرّد استعادة الأستاذ جلّول معروفي رشده، سارع إلى انتزاع أنبوب السيروم من أنفه، ثم بادر ولده سائلا:
ـــ ماذا فعلت ريال مدريد؟
ردّ ولده الناشئ:
ـــ لقد انسحبت منذ قليل.
كان الأستاذ جلول المعروفي يلعن حظه السيئ حين واصل ولده:
ـــ بعد إهدار رونالدو و كاكا و راموس ثلاث ضربات ترجيح متتابعة.
سأل الأستاذ جلول المعروفي بصوت واهن، و قد تأكد من خسران نصف رأس ماله الآخر:
ـــ النجوم الثلاثه؟ و في نفس الوقت؟
ــ أجل.
بعد سكوت طويل و حين وجد من نفسه نشاطا لم يعهده منذ مرضه طفق الأستاذ جلّول المعروفي يقول لولده الناشئ، و كان يعاني عرجا لا تخطئه العين:
ـــ أي بنيّ، يبدو أنني سأفارق الدنيا التّعيسة، و أدعك من بعدي و أنت أفقر من فأر كنيسة. فخذ بنصيحتي تكن من الفائزين، فرضا الله من رضا الوالدين.
بعد تجاوز نوبة سعال حادة واصل الأستاذ جلول المعروفي :
ـــ أي بني.. إذا تزوجت ثم رزقت بولد، فسارع الى تسجيله قبل بلوغ سبع سنين في الترجيّ الرياضيّ، و أحمله قسرا على حضور تمرينه اليوميّ، و لو على حساب دوامه المدرسيّ!، فقد
ولّى زمن العلم و العلماء، و المهندسن و الأطباء، و أهل الأدب و
الشعراء، و حلّ عصر بوتريكة و مارادونا و نجوم المستديرة الميمونة، و لا تقل تخلّف ولدي عن التعليم، فانّ العبرة بالخواتيم. و قيمة المرء بما في رصيده من ملاليم!، فالشاطر من كان إلى النجاح من السبّاقين، و أدرك من أين يوكل لحم الكتفين! ثم تأمّل حصيلة كريستيانو رونالدو وليونال ميسّي من الدولارات، ولا تقل لي ثقافة و أدب و ترّهات، فقد رأيت كيف آل بي الحال، و أنا أستاذ عربيّة، بعد طردي من الكليّة، بتهمة صلاة لم أهمّ بأدائها طول عمري، بل نتيجة وشاية غادرة من أحد زملائي الأوباش، فصلتني من عملي، و حرمتنا المرتّب الشهريّ مع المعاش.. فلو سمعت نصيحة الوالد حين أخذ بيدي ليسجلني ضمن فريق الترجيّ الرياضيّ، و خالفت خالي الشقيّ لا رحمه ربيّ، لما أصابني ما أصابني. فالله الله في السّاحرة المستديرة، فنحوها اشرأبت الأعناق، و عليها الإتكال بعد الخلاّق.
ـــ ...
ـــ أي بني، مر ولدك بلعب الكرة إذا بلغ ثلاث سنين، و أضربه على تركها اذا بلغ الخامسة بلا تهوين!، و أبحث عمن يدّربه لك في الصّبح و المساء، و لو على حساب الألف و الباء!، و حفظ الفاتحة و نصر الله إذا جاء، فلا داعي للتسرّع في تحصيل ما يقدر الولد على تحصيله في قادم الأيام، و لكنّ إضاعة وقت صغره الذي فيه تعلّم ترويض الكرة و تمريرها كنقش على حجر، هي عين الآثام! و لتكن ألوف المقاهي التونسيّة التي تعجّ بالبطّالين من أصحاب الشهادات الجامعيّة، أشدّ ما يزّهد ولدك في شهادة علميّة! فما نفع شهادة جامعيّ مع رصيد بنكي أفرغ من عقل سلفيّ!؟
ـــ ...
بعد شربه نصف كأس ماء ، واصل الأستاذ جلول المعروفي ناصحا:
ــ أي بنيّ, إن منّ الله عليك بشغل، فلا يشغلك عن كرة القدم شيء! أي بنيّ. أحرص على اقتناء رزنامتك السنويّة و لا تكن من الغافلين عن المواعيد الكرويّة. و خذ لعينيك نصيبها من الكرة الأنجليزية! و أعرف فضل بريطانيا في براءة ابتكار اللعبة العالميّة.
ـــ ...
ـــ أي بني إن أكرمك الله بالمال و الوظيفة، فبادر بحجز تذاكرك في الترجي الرياضي، فانه أضمن للتمتّع بشهود كلّ لقاء، و تجنّب السّوق السّوداء.
ـــ ...
ـــ أي بني بكّر الى الملاعب تخطئك الزحمة و المتاعب، مع فضل حجز المقدّم من الصفوف، و التمتعّ برؤية نجوم الكرة على المكشوف. و ليكن حرصك شديدا على دوام المراهنات الرياضيّة، فقد تصبح في رمشة عين غنيّا, وأحرص على إقتناء بطاقة مراهنتك الأسبوعية، و لو على حساب قوت الذريّة، فربّ دينار حقير رصدته للمراهنات، أكسبك الملايين و جعلك من الأعيان و الذّوات. و لا تشغل بالك بمن قال بحرمة القمار، و قد سمّاها أولياء أمورنا "بروموسبور"يعني تنمية رياضية، و هل في تنمية المرء أمواله حرمة يا بنيّ؟. ثم إعتبر بسكوت فضيلة مفتيّ الجمهورية، و السكوت علامة الرضا، و قد غنم من ترك المراء!
بعد تجاوز نوبة سعال حادة واصل الأستاذ جلول المعروفي نصيحة ولده الذي ظل صامتا:
ـــ ثم إذا صحّت حرمة البروموسبور فالله غفور، و يكره لعبده الفاقة، و لا يسّره أن يراه مقلاّ، لا جمل، ولا ناقة!
ـــ ...
ـــ أي بنيّ أستعن على ملء شبكة المراهنات الأسبوعيّة، بكلّ خبير شابت ناصيته في متابعة اللّقاءات الكرويّة. و لكي لا تكن كأطرش في زفّة، و على بيّنة من إستعداد الفرق، و تلك أجدى الطرق لصحة التنبؤ بنتائج اللقاءات بإتقان، فعليك بمتابعة التطورات الكروية في الإبّان، بشهود التمارين اليوميّة، للوقوف على إصابات اللاعبين المؤثرين،مع متابعة مركادو الصيف و الشتاء، للتعرف على جديد الإنتدابات، و حديث الإنتقالات من نادى الى ناد، وهبت التوفيق و السّداد !
ـــ ...
ـــ أي بني إن أكرمك الله و منّ عليك بولد موهوب، كزين الدين زيدان أو موحا يعقوب، فألحقه ببرشلونة أو ريال مدريد، وجنّبه البطولة الرّوسيّة، فهي بعد تفكك الإتحاد السوفياتي أفقر من الرابطة الأثيوبيّة!، و جنّبه بطولة السيريا أ الإيطالية التي أفلستها الأزمة العالميّة، و ليكن وكيل أعمالك بريطانيّ الجنسيّة، و لا تتكل قطّ على ناطق بالعربيّة!
ـــ ...
بعد تناول حبة دواء أحضرتها زوجته طفق الأستاذ جلول المعروفي ناصحا:
ـــ أيّ بني، أحرص حرصك على الحياة، على تأمين رجليّ ولدك الموهوب، و لا تقل" حرام و المؤمّن عليه مغضوب"، و تعلّم من الإخوان مرونتهم، و خذ عنهم براغماتيّتهم و أعتبر بميكافيليتهم، فالغاية تبرّر الوسيلة، و النجاح ينال بالرأي و الحيلة، و أعتبر بدخول الغنوشي في التشكيلة الحكوميّة، على ما عرف عنها من إقصاء الشريعة الربّانية، و رضوخ للإملاءات الأمريكية المخالفة للمائدة و آل عمران، و ما أوصى به نبيّ عدنان. فالشاطر من حرص على نيل المراد و من الفرص قد إستفاد، فكن أردوغانيّا في إقتناص الفرص، و لا يوقفّنك تحريم أو صريح نصّ. و قد قال من صدق،" من سبق أكل النبق"!, ثم لست أعلم من العلاّمة يوسف القرضاوي، و قد أحلّ للمرأة المسلمة التمثيل و الغناء، و سمح للنصرانية التي أسلمت على زوجها الكافر الإبقاء، حفظا على أسرتها من تشتّت الأجزاء، كما أفتى للمجندين المسلمين في جيوش الغرب، بوجوب قتال اخوانهم في الدين اذا ما شنّت الحرب، و عدم التردّد في سفك الدماء، اذا ما أرسلوا الى كابول أو صنعاء، و قد برّر العلاّمة الفاضل فتواه، بضرورة محافظة هؤلاء الجنود المسلمين على جنسياتهم وأوراق إقامتهم في بلاد الغرب فاعتبر يا ولداه. فالضرورات تبيح المحظورات، فافهم رزقت نيل الغايات، و لا تكن من الحرفيين في قراءة الآيات. ثم هل أنت أغير على دين الله من مفتي الجمهوريّة؟، و قد أثنى فضيلته على رئيسنا، و هو فيما يبدو، ألعن من حمّالة الحطب القرشية؟، فلا شكّ يا بنيّ أنّ لفضيلته من الأدلّة الشرعيّة، ما خولّ له مدح رئيس الجمهورية.. فأحذر من الإضاعة و ألزم الطاعة، و لا تتعالم على العلماء، و أعرف قدرك من بين الدّهماء، ولا تكن أشدّ ملكيّة من ملك، فتهلك فيمن هلك، و حتى إن وجبت عليك النار الولاّعة" فالشنقة مع الجماعة خلاعة"! وستسبقك الى لهيبها نانسي عجرم و باسكال مشعلاني، و وديع الصافي و الأخوان رحباني!، هذا بالإضافة إلى السّاحر دياغو مارادونا، و برناردو جيد، و كامل تشكلية ريال مدريد، إذا حذفنا منها خضيرة و بن زيمة كريم وهما من أهل التوحيد!
ـــ 3 ـــ
حين أفاق الأستاذ جلّول المعروفي من غيبوبته و لم يجد أحدا بجانبه، أحسّ في قلبه هبّة ايمانية طفق يدعو بحرارة:
" اللهمّ أطل عمري حتى تبلّغني دربي ميلانو و روما، و لا تجعلني شقيّا و لا محروما!
اللهمّ زد الترجي الرياضي و لا تنقصه، و أعطه و لا تحرمه. اللهمّ زد في نقاطه و أهدافه المقبولة، و أنقص من إقصاءاته و أعطه الكأس و لا تحرمه البطولة.
اللهم جنّب لا عبي الترجي تمزّق أربطتهم الصليبية و قلل من أمراضهم المانعة من اللقاءات ذات الأهميّة.
اللهمّ يا مجيب المضطر اذا دعا، أرزق الترّجي الرياضيّ رأس حربة و قلب دفاع!، فإن فريق باب سويقة أحوج ما يكون إليهما و أمامه دربي العاصمة. و جنّب المكشّخة كلّ قاصمة.
اللهمّ بحقّ النبيّ و المرّبع الذهبيّ، أبي بكر و عمر و عثمان وعليّ، أخرج من صلب ولدي موهوبا كالجوهرة السّوداء بيلي، ، ينفي عن سلالتي الفقر بشكل أبديّ، أو حارس مرمى كجورج بانياك لا تهزّ له شبّاك!
اللهمّ جنّب ذرّية ولدي الضبّاط و الأطباء و المهندسين، و أجعل منهم حرّاس مرمى و هدّافين، و صانعي ألعاب و رؤوس حراب، ممن يشترون بمئات الملايين، فان الضابط و المهندس و الطبيب، تكاد تحلّ عليهم الصدقة في بلاد الأعاريب!. و أمّا إن أخرجت من صلب ولدي مثل جوزي مورينو المدير الفنيّ لريال مدريد، أو كارديولا ممرّن برشلونة العجيب، فتلك غاية الآمال، لأنّ اللاّعب ظلّ سريع الزوال، و مآله إذا ما بلغ الثلاثين الإعتزال، أما الممرّن فقد يدرك الخامسة و السبعين و هو من المطلوبين!.
ـــ 4 ــ
قبل أسبوع من دربي روما، شيّعت جنازة الأستاذ جلّول المعروفي. و بعد يوم واحد من دفنه، صدح جوّال الفقيد الذي لم يمسّ بعد رحيل صاحبه، بمطلع الأغنيّة الكلاسيكيّة الشهيرة: " سنطر يالله و خذ لك مطرح! أنا ح ادّيلك و أوعاك تسرح! فيها جول فيها جول فيها جول .. سجّل خلّي الجمهور يفرح.. فيها جول... فيها جول. جووووووول" مفصحا عن مكالمة هاتفيّة من قبل الجامعة التونسيّة لكرة القدم ( فرع برومسبور)، تبشرّ بفوز المواطن جلول المعروفي برهان العمر! وقد حدث ذلك على خلاف توقّعات الفقيد الذي أخطا في تحديد الخانات المناسبة للتصليب عليها، بحكم إختفاء نظارته الطبيّة التي أحضرتها قريبة له في يوم وفاته معتذرة بأن صغيرها قد أخذها معه في آخر زيارة للمرحوم! وقد سرّت الأم سماح حتى سألت عبرات الفرح من مقلتيها المورّمتين، حين اقترح عليها ولدها الناشئ، توزيع كلّ قيمة الجائزة على الفقراء و المعدمين، و قد كانت إستفتت ــ دون علمه ــ، أحد الصالحين فنصحها بعدم ردّ قيمة الجائزة الى الجامعة التونسية أو الاستفادة من مالها الحرام، و قد عدّت الأمّ اقتراح ولدها الناشئ أعظم بشرى يمكن لأمّ صالحة أن تتلقاها.. بشرى عظيمة جعلتها تطمئن، بأن ولدها لم يكن قطّ سرّ أبيه، بعد إظهاره على صغر سنه و فساد قدوته، نجاحا خارقا في أقسى اختبار يتعرّض إليه صاحب دين و شرف، ألا وهو المال.. إختبار سقط فيه الفقيد جلول المعروفي، كأقبح ما يكون السّقوط!
أوسلو 4 ماي 2012
التعليقات (0)