نثر الفوارغ والمليان في إنتخابات السودان
كما توقع كل مراقب محايد نزيه خلال الحملة الانتخابية التي سادت البلاد فقد فاز عمر البشير بمنصب الرئاسة كأول رئيس منتخب وفق نظام التعددية الحزبية بعد إنقلاب الأخوان عام 1989م وذلك بغض النظر عن مزاعم الأحزاب المعارضة بوجود حالات تزوير وغيرها .... وحيث لا يتوقع من أحزاب معارضة في دول العالم الثالث أن تقول الحق وتعترف بهزيمتها ... وهي في هذه الحالة وبالتضامن في الممارسة المماثلة في مواقف سابقة شبيهة أو الشراكة في الحكم مع الحزب الحاكم إنما يسري عليهم المثل القائل : "لا تعايرني ولا أعايرك ... الهم طايلني وطايلك" ..... و "كلنا في الهمّ شرقُ".
على أية حال فإن الأغلبية الصامتة لن تستمع إلى دفوع الحزب الوطني المنتصر بالنزاهة أو إلى إتهامات معارضيه الخاسرين بالتزوير ؛ بقدر ما ستصغي وترهف السمع إلى "الملائكة الخواجات" و "أبناء كارتر" من المراقبين الدوليين الذين وفدوا للبلاد وانتشروا في ربوعها الشاسعة ولم يسمع منهم أو تصدر عنهم تقارير بوجود تجاوزات جوهرية في العموم غيرت من نتيجة الإنتخابات أو أن التزوير قد ذبحها من الوريد إلى الوريد ......
ولا ننسى أن المرافبين من الإتحاد الأفريقي من جهة ؛ وجامعة الدول العربية من جهة أخرى ، قد أعربوا عن رضاهم بمجريات سير العملية الإنتخابية . وأنها جاءت نزيهة وفق المعايير العربية والأفريقية التي تأخذ في الإعتبار تخلف المجتمعات وضعف الإمكانات وعدم توافر أجهزة وقواعد تسمح بالرصد الألكتروني ، وتفشي الأمية وسط الأغلبية.
ومن ثم فإن السلبيات المتعلقة بالأمور الفنية والإدارية واللوجستية التي شكى منها مراقبي الإتحاد الأوروبي ومركز كارتر ، فلا مراء أنها جاءت نتيحة طبيعية لتخلف نظم الإدارة والكفاءات في منظومة دول العالم الثالث والمتخلف بوجه عام ..... والمجنون أو من يدعي العبط وحده هو الذي يشترط تطابق معايير دول العالم الثالث مع معايير دول العالم الأول....
ولكن عادة ما تعتمد المعارضة المهزومة على تعاطف عامة الشعب في بداية إعلان النتائج مع ضعفها وهزالها ؛ والإنطباع المبدئي بأنها مغلوبة على أمرها ومفلسة الوجه واليد واللسان ، ومن ثم وإنطلاقا من هذه الفرصة السانحة لن تفتأ تشن الحملات الإعلامية وتلطم الخدود وتشق الجيوب، علها تسجل موقفا إيجابيا تجاه غريمها الحزب الحاكم أو تسجل نقاطا تحسب لها في مقتبل مسيرتها.
ومن جملة المضحك المبكي أن الحزب الإتحادي الديمقراطي الخديوي الأصل قد علل فرضية تزوير الإنتخابات بتساؤله : "وأين ذهبت حشود كسلا عند إستقبالها لزعيمة محمد عثمان الميرغني" ؟...... وهي بالطبع فرضية في غاية السذاجة أن يعتقد هؤلاء أن كل من حضر إنما جاء مؤيداً مبايعاً .... وحيث لا شك أن نصفهم إنما جاء به حب الإستطلاع . وأن ربع النصف الثاني ينتمي إلى أحزاب أخرى وأما ثلاثة أرباع النصف الآخر المتبقي فهو إنما يسعى للصلاة خلف قفطان وعمامة الختمية الفاطمية ، ثم المغادرة للأكل والمبايعة والتصويت على مائدة المؤتمر الوطني الحاكم المترفة بأشهى أطباق الطعام ولذيد الشراب وأغلى أصناف الفاكهة.
.............
ولا أدري منذ متى أصبحت "إذاعة هنا أمدرمان" وأخواتها العجاف ، ثم التلفزيون القومي الكئيب ... لا أدري متى أصبحوا بقدرة قادر قبلة لأهل السودان حتى يتعلل الخاسرون بأن عدم منحهم الفرصة للإطلالة من خلالها هو سبب خسارتهم ؟ ....
جميعنا يعرف أن هنا أمدرمان والتلفزيون القومي وقنوات صغيرة أخرى مثل الشروق والنيل الأزرق وهلم جرا ، لا يستمع إليها أو يشاهدها سوى المغتربين الآباء والأمهات شوقا منهم لديارهم وربوع نشأتهم ليس إلا ..... وأما أهل السودان في الداخل والجيل الصاعد من أبناء المغتربين فإن آذانهم تصغي لراديو سوا ... وأعينهم ووجوههم دائما ما تكون مركزة على قنوات عربية وأجنبية أخرى مثل ألـ LBC و mbc و الجزيرة و Spacetoon و cartoon-network وغيرها من قنوات تضيف ولا تخصم أو ترفع من معدلات السكري وضغط الدم.
......................
وبرغم ذلك فإنه ما من أحد من شرائح الأغلبية الصامتة إلا ومنح صوته في الأغلب الأعم إلى الرئيس عمر البشير وحزبه الحاكم.
كاتب هذا المقال وكثير من أهله ومعارفه منحوا أصواتهم طواعية ولوجه السودان لعمر البشير وحزب المؤتمر الوطني رغم أنهم ليسوا من أعضائه أو منسوبيه أو مستفيدين منه .....
كانت الرغبة في تأمين الإستقرار والحفاظ على مكاسب كرسها الأجداد بالعرق والدم والدموع ، وحتى لا تضيع هيبة الشمال وحضارة وثقافة الشمال أو يتفرق أبناؤه أيدي سبأ ، هي المحفز والتحدي الذي أخرج المواطن الحر الشريف من بيته وتوجه به إلى صندوق الإنتخابات للفصل بين الزبد وبين ما ينفع الناس ؛ ووضع الحد بين الجد واللعب في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ الوطن الغالي. والجنوب على شفا حفرة الإنفصال ؛ وحيث لوحظ إرتهان الطائفية والأحزاب الشمالية التقليدية لهيمنة الحركة الشعبية الجنوبية وإرتمائهم في أحضانها نتيجة ضعفهم وهزالهم وعدم قدرتهم على التجديد ومواجهة نظام حكم الإنقاذ في الساحات المكشوفة.
.....................
ربما كان لكل فرد أو فئة أسبابها وفلسفتها . حتى بائعات وجبات البلدي والشاي والقهوة السودانية المميزة قلن أنهن منحن أصواتهن لعمر البشير وحزبه الحاكم .....
بائعة شاي وقهوة ... صور شعبية سودانية حية مُحبّبة
والطريف أن هؤلاء البائعات اللاتي أعرضن بوجوههن وأجفانهن وفناجينهن عن ياسر عرمان ومغازلاته لكسب أصواتهن ؛ قلن أن سبب منحهن أصواتهن لحزب المؤتمر الحاكم إنما كان لقناعتهن بأن الأخوان قد أكلوا وشربوا وشبعـوا وايتنوا القصور وامتلكوا الأبراج في الداخل والخارج وحازوا الأراضي ، وتزوجوا مثنى وثلاث ورباع واستقروا وتشبعوا جنسيا وعاطفيا بما فيه الكفاية خلال السنوات ألـ 20 الماضية .... وأن المتوقع منهم الآن أن يلتفتوا للعمل من أجل مصلحة الشعب وتحقيق رفاهيته ......... وحاكم غارق في الرفاهية متمرّغ في المال متقلب في النعمة مليان العين ممتليء البطن شبعان ، خيرٌ من حاكم جائع مستجد نعمة زائغ العينين شرفان ....
....................
وأضح أن البسطاء من عامة الشعب السوداني قد حصلوا على العديد من الخبرات خلال الفترات التي تقلب فيها الحكام وسدنتهم ووزرائهم وأركان أحزابهم وطوائفهم على بساط وتراب خيرات الوطن منذ الإستقلال ....
هناك العديد من الأمثلة التي خبر فيها الشعب تطلعات الحاكم المستجد من خلال فترات تولي فيها الجوعى واللقطاء وأبناء السبيل والسكارى زمام الحكم في البلاد متسلقين هرم السلطة في عهد جعفر نميري ، وكيف إنتشر الفساد بهم وأصبحت السرقة هي الشرف التليد المنشود وجنة عدن المفقودة وديدن الحكم وديانته الأرضية الراسخة . والتي طالت حتى أموال وثروات وممتلكات المواطنين من تجار جملة ومستوردين وأصحاب فابريقة وصناعات خفيفة تحت ظل المصادرة والتأميم وقانون القطاع العام ...
ثم كيف عادت الطائفية والأحزاب السياسية الليبرالية بعد إنتفاضة أبريل 1985م ولا هم لها سوى إعادة وإستعادة قيمة ممتلكاتها وأموالها المصادرة والمسروقة والمغتصبة منذ عام 1969م والحصول على التعويضات السخية من أموال الشعب في خزينة الدولة.
وفي جانب الفساد الرخيص للديمقراطية الثالثة ؛ لا تزال ذاكرة الشعب تستحضر بقوة منظر صفوف النمل والرائحة الكريهة التي كانت تصدر من مخازن في أمدرمان بعد أن بادر أحد "المحترمين" من أعضاء مجلس السيادة في عهد هذه الديمقراطية بإخفاء معظم ما حصل عليه الشعب السوداني من إغاثات عاجلة على هيئة وجبات طعام جاهزة أرسلها الملك الراحل فهد بن عبد العزيز بعد الأمطار الغزيرة والسيول التي تعرض لها السودان عام 1988 م. والتي لم يكن يخطر في بال هذا العضو السيادي "المحترم" أنها تحتوي ضمن ما تحتويه على سندوتشات ووجبات همبرغر ساخنة فقام بتخزينها مع ما حصل عليه من أنصبة شملت الخيم والملاحف والبطاطين وأكياس السكر والدقيق وعلب الصلصة ومواقد وأنابيب الغاز وعلب الكبريت .. والتي ولله الحمد لم تنفجر وسط الأحياء السكنية وقد سلم الله وستر.
ومن طرائف ما يحكى عن نهم النواب المستجدين الجوعى ، وإنشغالهم بعد إنتخابهم بالركض خلف أرزاقهم الخاصة. وملء البطون والعيون الفارغة والخزائن الواسعة وملء أيدي نسائهم وحريمهم بالغوائش وتزيين صدورهن بالحلى الذهبية. أن زوجة أحد النواب البسيطات كانت كلما سألها الناس عن الحلى الذهبية التي كانت تتزين بها أجابت ببراءة وعفوية يحسد عليها زوجها :
- جابو لي راجلي بعد ما بقى نائب في البرلمان.
ناشطون جنوبيون خلال تظاهرة إحتجاج في جوبا
ويحكى أن جنوبيا إنتخبه أهله لعضوية الإتحاد الإشتراكي خلال فترة حكم نميري. فغادر بعدها قريته وجاء إلى الخرطوم فلبس واستتر وإختتن وأكل وشرب وركب وإحتسى وزنى وتزوج وحشا وارتشى وباع وإشترى وإقتضى طوال أربع سنوات إنشغل فيها عن أهل دائرته بحصد الخيرات وجمع الغنائم والحصول على رخص الإستيراد والتصدير وبيعها للتجار.
وخلال فترة غياب هذا النائب ، تصدى شخص آخر لحشد الناخبين في دائرته فجاء إلى هذا الجنوبي في الخرطوم بعض من أقاربه ينذرونه بأن هناك من يحشد ويجمع الأصوات حوله. وأنه لا محالة فائز عليه في الانتخابات المقبلة . فسارع هذا النائب الجنوبي بالعودة إلى أهل دائرته وحشدهم في ليلة سياسية وقال لهم بمنتهى الصدق والشفافية:
"شوف ... أنا صحي مشيت خرطوم ونسيتكم . لكن أنا ما نسيتكم عشان أنا بكرهكم .. أنا نسيتكم عشان كنت مشغول في روحي أنا ... لكن أنا هسع بقيت نضيف وشبعان وعملت بيت وعربية وطاحونة وبقر و ثلاثة نسوان ..... شغل بتاع أربعة سنين داك كله كان عشاني أنا .... إنتوا تنتخبوني تاني عشان شغل بتاع أربعة سنين جايي دا كله بتاعكم إنتوا .... لكن تمشوا تنتخبوا واحد جيعان تاني. برضو حيمشي خرطوم داير يلبس وينضف ويشبع ويسوي بيت وعربية وطاحونة وبقر ونسوان .. يعني كده يروح عليكم أربعة سنين تاني كمان"
وقد قيل أن جماهير دائرته الإنتخابية صفقوا له بحرارة على هذه الصراحة وأعادوا إنتخابة بأغلبية ساحقة وظل مقعد الدائرة مقصوراً عليه حتى الانتفاضة ....
....................
نرجو الله أن يرزقنا خلال الأربع سنوات القادمة بنواب وحكام شبعانين بل ومتخمين وأصحاب عيون مليانة ، ولديهم من النساء مثنى وثلاث ورباع حتى يتفرغوا لخدمة الشعب وتلبية مطالبه ، بدلا من التركيز على جمع الغنائم والسبايا لأنفسهم ومتعتهم .... ولا نخشى من بعد كل ذلك إلا أن ينطبق على هؤلاء الشبعانين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب].
التعليقات (0)