تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي يبرر فيها سياسات حكومته باستمرار تهويد القدس، وإغراقها بالمستوطنات، استنادا إلى عدم ورود ذكر للمدينة المقدسة في القرآن الكريم .. تصرحات من الخطورة بمكان، لأنها لا تعبر عن رأي شخصي، وإنما تعبر عن سياسة رسمية، وذريعة دينية، أصبح معظم المسئولين والمفكرين الإسرائيليين يجاهرون بها في مختلف المحافل، كأنها مضغة في أفواههم ، أو وصية مشتركة فيما بينهم، الأمر الذي يوجب على أولي الأمر وأهل الذكر ، في بلادنا العربية والإسلامية الوقوف عندها، ووضع الوسائل المناسبة لتفنيدها، ودحضها، انطلاقا إلى فضاء أوسع، في حصارها فكريا، ومن ثم التمكين لحقنا المقدسي المهدور، والمُغتصب.
ما حدث تحديدا هو أن نتنياهو، في جلسة للبرلمان الإسرائيلي "الكنيست" الأربعاء 12مايو الحالي ، لدى الاحتفال بذكرى احتلال القدس الشرقية العربية عام 1967، أو ما اعتبره الاسرائيليون احتفالا بتوحيد شطري القدس تحت السيادة الإسرائيلية، قال إن القدس، واسمها العبري صهيون، وردت 850 مرة في العهد القديم، أو التوراة، وأضاف : "بالنسبة لعدد المرات التي وردت فيها القدس في الكتب المقدسة للأديان الأخرى أوصيكم بأن تراجعوا هذا"!
وعندما قاطعه نائب من عرب 48 في الكنيست قال : "لأنك سألت.. فإن القدس ذُكرت 142 مرة في العهد الجديد، ولم يرد في القرآن اسم واحد من بين 16 اسما عربيا للقدس. لكن في تفسير موسع للقرآن من القرن الثاني عشر يُقال إن هناك آية تشير إلى القدس"!
بالتأكيد، لابد للمرء من أن يتوجه بالتحية للنواب العرب بالكنيست على شجاعتهم في مواجهة نتنياهو، واحتجاجهم على تصريحاته تلك ، واتهامهم له بتزوير التاريخ ، وتأكيدهم أن القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، حتى طالبه النائب العربي طلب الصانع بالاعتذار، فتعرض للطرد إلى خارج القاعة.
لكن الاحتجاج والاتهام وحدهما لا يكفيان في مواجهة تصريحات نتنياهو، ذلك أنها ليست مجرد تصريحات، بل هي نظرية متكاملة وضعها الإسرائيليون من أجل إقناع قادة الأمم والرأي العام ، بعدالة باطلهم ، وسلامة موقفهم المستمسك بالمدينة المحتلة "عاصمة موحدة للدولة اليهودية"، وما كلام نتنياهو الذي ردده في هذا الصدد سوى رجع صدى لما يتم تلقينه للإسرائيليين جميعا ، ويتدارسونه ليل نهار ، حول القدس ، بدءا بالبيت، ومرورا بالمعبد ، وليس انتهاء بالمدرسة والمجلس المحلي أو حتى البرلمان.
وبدايةً كان لابد من الرد الواجب على أكاذيب نتنياهو، من قبل الساسة والمسئولين العرب ، لكن ذلك لم يحدث للأسف الشديد ، إذ اكتفى كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، بالقول إنه "لا يستسيغ استخدام الدين في بث الكراهية والخوف"، كأن معركتنا معهم ليست -في جانب منها- ذات أبعاد دينية!
في المقابل لم يتم التطرق إلى تلك التصريحات أصلا لدى زيارة الوزير المصري عمر سليمان لتل أبيب (الإثنين 24 مايو الجاري) إذ اكتفى فيها بالحفاظ على الهدوء والاستقرار!
الأمر يؤكد إذن أن المعركة حول القدس ليس مجالها فقط المواجهة الميدانية والدبلوماسية، وإنما -وهو الأهم- ساحة المواجهة الفكرية، والحضارية أيضا، فإذا تقاعس البعض في الأولى فلا ينبغي لبقية الأمة أن تتقاعس في القيام بالأخرى.
إن كلام نتنياهو يعبر عن مشروع صهيوني متكامل لا يختلف عليه إسرائيليان ، ولا صهيونيان ، مهما بلغ اختلافهما الأيديولوجي أو الفكري، كما أنه هو نفسه موقف التلميذ الإسرائيلي من الروضة حتى الجامعة، وهو الدعامة الأساسية أيضا للتنشئة الأسرية في كل بيت يهودي ، فضلا عن أنه القاسم المشترك الذي يجمع مختلف فصائلهم وتياراتهم الفكرية والإعلامية، حيث يستند المشروع الصهيوني لالتهام القدس إلى التوراة والتاريخ، ليجدد مزاعم الدولة اليهودية بشأن المدينة "الموحدة" -بزعمهم- تحت سيادتهم.
السؤال الآن: أين باحثونا ومفكرونا، وعلماء الدين لدينا، فضلا عن الإعلاميين، وأهل الاختصاص ، وأصحاب الرأي، من تجسيد نظرية عربية وإسلامية ، صلبة ومتماسكة ، تحدد رؤيتنا تجاه القدس، بشكل لا لُبس فيه: هل نطالب بها كاملة، أم بالجانب الشرقي فقط منها، وما وسائلنا وآلياتنا في دعم حقوقنا فيها، هل هي القرارات الدولية أم الحجج القانونية أم العوامل التاريخية أم الأبعاد الجغرافية ، ورابعا: ما الخطط التي وضعناها من أجل وقف التهويد، ووسائلنا في المواجهة والضغط ، ثم -وهو الأهم- أسانيدنا الفكرية في مواجهة ذرائع احتلالها وتهويدها أصلا؟
إنني أخشى من أن الاحتلال الغاصب يتحدث لغة واحدة ، ويوزع الأدوار بين مختلف أذرُعه، من السياسي، وحتى المزارع، انطلاقا من مشروع جمعي موحد ، يبرر للصهاينة جميعا التهام المدينة التاريخية ، في حين نقف نحن -أصحاب الحق المشروع- مُشرذمين ، متعددي اللغة، مختلفي الرؤى ، غير موحدي القوى.
هنا يحق لي التساؤل: أين القدس -ليس فقط في مساجدنا وكنائسنا ومظاهراتنا- بل أين هي في قلوبنا.. بحياتنا اليومية..على مائدة طعامنا..بين جدران مدارسنا، ومعامل أبحاثنا.... بل أين مشروعنا المشترك ، للعودة بها موحدة تحت السيادة العربية والإسلامية، من أقصى يميننا حتى منتهى يسارنا؟
إنه لابد -والأمر هكذا- من أن مُراكمة الجهد فوق الجهد، وإرسال الفكرة تلو الفكرة، لنصرة حقنا المغتصب ، والتبصير بجذوره ، وحجيته ، فإذا كنا قد خذلنا القدس بسواعدنا ، فلا يصح أن نخذلها أيضا ببرودة عقولنا ، إذ العاطفة وحدها لا تكفي، والمعركة طويلة، وبداية الانتصار تتحقق باستحضار الوعي، ورشادة الفكرة ، وقوة الحجة التي يجب أن يتسلح بها الجميع : عامةً ، وساسةً.
ولتكن البداية، إذن، برد الكرة في الملعب الإسرائيلي، وإغراق نتنياهو والمسئولين والمفكرين الإسرائيليين بمنطقهم ، انطلاقا من الإجابة عن سؤالهم : هل لم يرد ذكر القدس في القرآن الكريم، ولماذا ؟ هل هذا مبرر كاف -لو صح- للتجاوز عن حقنا المشروع فيها ؟ وبالتالي: ماذا تمثل القدس لنا ؟ ولماذا نطالب بها ؟ وكيف ننتصر برجاحة العقول -إضافة إلى قوة القلوب، ووحدة الجهود- في مواجهة التبجح الإسرائيلي الذي يستند -أول ما يستند- إلى إثارة البلبة، وبث الشكوك، ولي الحقائق، وإلباسها بالبطل؟
التعليقات (0)