نبّليّات 2
التراب .. التراب
لطالما كنت أتساءل عن السبب الحقيقي الذي يدفع كثيرا من الناس ليذكروا في وصيتهم بندا خاصا مفاده ، أن الموصي يرغب ـ وبكل تأكيد ـ أن يوارى الثرى في تربة بلدته أو قريته أومدينته ....إلخ
قبل سنوات كنت برفقة صديق عزيز ، نتأمل دمشق ليلا من أعلى قاسيون ،وهي تتلألأ كصفحة ماء رقراق تداعبها أشعة شمس ربيعية ، حتى ليزوغ البصرمن لألائها الأخاذ ..
وفي لحظة شعورية مفعمة بنشيج خافت ، سألت الله أن لا ينقضي أجلي بعيدا عن هذا الثرى ، وطلبت من صديقي أن يُحمَل جثماني في طائرة هليوكبتر ويطاف بي في سماء الوطن قبل المواراة .. واعتبرت ذلك وصيتي الوحيدة له ، على أن يعمل جاهدا لتحقيقها قدر المستطاع ..
وبعد فترة قصيرة صدر مرسوم رئاسي اعتبرته من أهم المراسيم التي صدرت في سورية في مطلع الألفية الثالثة ،
مرسوم يلزم شركة الطيران العربية السورية بنقل رفات المواطنين السوريين الذين يتوفون خارج البلاد ، مجانا إلى أرض الوطن ..
ولقد سررنا كثيرا بصدورهذا المرسوم ، لما فيه من لفتة إنسانية رائعة ، تستهدف تكريم عطاء الإنسان الذي يوافيه الأجل خلال عمله في أرض الاغتراب على اتساعها ... لاسيما أن كثيرا من العاملين في المغترب ، لا يكون حالهم أفضل من حال مواطنيهم ، إضافة إلى أن تكاليف نقل الجثمان باهظة ، ولا يقوى كثير من المغتربين على تحملها ...
من هنا تأتي أهمية صدور مثل هذا المرسوم ..
وكنت أنقل الخبر بفرح ظاهر لصديقي الأستاذ عدنان ونحن نتسامر على شاطىء البحيرة في الشارقة ، فلم يكترث للأمر كثيرا ولم تأخذه الفرحة التي انتابتني ، وكنت أظن أن هذا المرسوم سيثلج صدر جميع المغتربين وذويهم ، إلا أن الأستاذ عدنان لم يقلل من أهميته ، ولو أنه يرى عدم ضرورة نقل المتوفى من بلد الاغتراب ليدفن في موطنه ..
وهو شخصيا ـ كما قال ـ لا يرى مانعا من أن يوارى الثرى في المكان الذي يوافيه الأجل المحتوم فيه !!!
تأملته مليا ، فيما كثير من الهواجس والأفكار بدأت تتناوشني ..
فسألته : ما مقتضى الأمانة يا صديقي ؟
قال : أن يحافظ المؤتـَمن على الأمانة حتى يردها إلى صاحبها بالتمام والكمال ..
قلت : حسنا .. وما مقتضى الوفاء ؟
قال : المحافظة على العهد ، وتجنب التفريط بحقوق من له حق عليك ، وعدم الغدر ..
قلت : حسنا .. وما مقتضى المروءة ؟
قال : الإيثار، والإقدام ، وإغاثة الملهوف ..
قلت : حسنا .. وما مقتضى الكرم ؟
قال صديقي : غاية الكرم أن يجود الإنسان بروحه في سبيل وطنه ..
قلت : ما قولك في قول أبي تمام :
كم منزلٍ في الأرض يألفـُه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
قال : هذا من طبيعة الجِبِلّة الإنسانية ..
قلت : أليس من الأمانة والوفاء والمروءة والكرم والجِبِلـّة أن يعود التراب إلى الأرض التي جُبل وتشكل منها ؟؟؟
كدت أروي له وصيتي التي أودعتها في عهدة صديقي قبل سنوات ، لكني آثرت الصمت لأنه الأبلغ في هكذا مقام ......والسلالالالالالالام
التعليقات (0)