(ملحوظة : لا ينتمي هذا الموضوع للمقالات المنشورة سابقا والتي تحمل عنوان : نبليات 1و2و3...)
منذ أن عدتُ قبل أيام قلائل من الضيعة ، إلى منفاي الحالي ، وهذا العنوان يقضّ عليّ مضجعي ليل نهار ، ولم يسبق أن حصل معي ذلك وبهذه الحدّة، كما هو حاصل حاليا ، ولست أعرف سببا وجيها لمثل هذا الأمر، سوى أن بين التل وفيروز( مع حفظ الألقاب كما يقول أشقاؤنا اللبنانيون ) قاسما مشتركا أعظمَ ـ حسب ما أزعم ـ ، وإن كان الفارق كبيرا جدا بمنظور شخص حيادي ، لكني مع التل وفيروز لست حياديا أبدا ، ولي أسبابي في ذلك ، ربما تتوضّح من خلال ما سيأتي ...
من أين أبدأ ؟؟ هل أبدأ من عند فيروز، أم من عند التل؟؟
لعل البداية من عند التل أيسر وأسهل ، فهو : ( القديم ،العالي ، الضخم ، الأجرد ، المسكين ، المستكين ، الراسخ ، الهادئ ، الأبكم ، الباقي ) ..
هذه صفات عشر للتل العزيز ، ربما يستطيع غيري أن يصفه بعشر أخرى أو بعشرين أو أكثر ، لكني سأحاول أن أفصّل بعض الشيء في هذه الصفات ...
فهو القديم حقا ، ولا أعرف تاريخا لهذا القِدم ، والذي ربما كان فيما مضى متراسا يصد هجمات المعتدين عبر العصور المتتالية ، ويحتمي به القاطنون وراءه وحوله وفوقه ، ويصعد إليه الحراس ليراقبوا الأفق من حوله ، قبل أن تدهمهم هجمات غازية مفاجئة ...
ولو لم يكن للتل مثل هذه الوظيفة ، لما كان للقِلاع المنتشرة في بلادنا تلك الأهمية العسكرية الفريدة ، التي استفاد منها كل من سيطر عليها ، سواء الأعداء أوالأصدقاء ...
وهو العالي الذي لا يخبئ نفسه ولا يمكن أن يخبئه أحد ، وإلى وقت قريب مضى ، لم يكن يعلوه إلا مئذنة الجامع الكبير القريبة منه ، وهي ترنو إليه كأنها تتبادل معه ترانيم وابتهالات وآهات حرّى ، لا يسمعها أحد ، ولا يفهمها أحد وإن سمعها ، لأن لغة الكبار ليست كلغتنا ، وأحاسيس الكبار ليست كأحاسيسنا .. إنه العالي بنفسه ، المتعالي على الصغائر والمحن والإحن والحزازات والرياء والنفاق والغدر والنميمة والكذب والنهب والسرقة والعدوان والغصب ...
وهو الضخم ، بل الأضخم بين كل أشياء الضيعة ، نحس بضخامته عندما نرمقه من الشرق والشمال ، ونراه مطواعا حين نقترب من سفحه جهة الغرب ، فهو الرابض كما لم يربض أبو الهول ، وهو الثابت الوحيد في الضيعة ، وكل ما عداه متغير متحول ..ولأنه الأضخم ، فهو الأرسخ في حياتنا قديمها وحديثها ، وهو الذي لم يتغير فيه شيء ، لولا نقصان حجمه قليلا على مر العصور ، لكن الجوهر باق : إن التل ما يزال تلا ..
وهو الأجرد ، إذ لا تكسوه الأشجار كما يجب أن يكون ، وليس فيه من الظلال ما يمكن أن يقي من شمس حارقة، وكأنه لا يرغب أن يلجأ إليه أحدٌ ما ، إنه الأجرد من الدفء والحنان ، الأجرد من المحبة والمودة ، الأجرد من كل شيء ، إلا من بعض الأعشاب التي تقضمها الأغنام والماعز حين يعزّ العشب في مكان آخر ، كما يمكن أن يلجأ إليه نفرٌ من المتسكعين الذين يتوارون فيه بعيدا عن عيون مرتابة أو مراقبة..
وهو المسكين الذي لا حول له ولا قوة ... لا يستطيع أن يدافع عن نفسه ولو أمام طفل يتبول فوق أديمه ..
ولا يستطيع أن يردع أولئك المتسكعين فوق بعض حشائشه مهما فعلوا .. كما لا يستطيع أن ينتصر لمظلوم اعتـُدي عليه أمام ناظريه ، وربما في وضح الظهيرة .. إن كل ما يفعله ذلك التل الوديع أنه يرمق أولئك بنظرة استهزاء ، تاركا للعقلاء منا قدرة التحرك والردع والعقاب ..
وهو المستكين الذي دأبت النسوة من ضيعتنا على تقطيع أوصاله وتشريحه كالشاة المذبوحة بلا شفقة ولا رحمة ، منذ أن بنى الناسُ بيوتهم الطينية حوله .. فلطالما انتـُهكت حوافّ التل وجوانبه ، وحُمل ترابه إلى أنحاء الضيعة ، لتطريَ به النسوة القبابَ والجدرانَ بعد مزجه بالقصرين أوالتبن ، استعدادا لمطر الشتاء أو تمهيدا لموسم فرح آتٍ .. إنه المستكين الذي لم يصرخ ألما ولم يعترض على أحد ولم يستنجد بأحد ولم يردّ محتاجا أراد أن ينحت أطرافه ليطري بيته ويحسنه ويجمله ولو على حساب هدوئه وراحته وأمنه وسلامة أراضيه .. إنه المستكين حتى للزواحف والحشرات والديدان والكلاب الضالة .. إنه المستكين للعصافير والسنونو والطيور البرية التي نخرت جسده وبنت فيه بيوتها وأعشاشها ، واتخذت من الجرف الشرقي للتل ملاذا آمنا لها ، تأوي إليه مع الغروب ، فإذا تصادف مرورنا مع ذلك الوقت ، كان الفضاء يضجّ بأروع وأجمل وأحلى سيمفونية موسيقية تعزفها آلاف الطيور والعصافير ، فتتناغم مع أشعة شمس الغروب الحانية لترسم أبدع لوحة سمعية بصرية حسية ، يتجلى فيها بديع صنع الخالق جلّ وعلا.. حتى لكأن التل ينتشي لتلك السيمفونية ، فيغدو هينا لينا وديعا ، منسابا مع عذوبة الألحان ورقتها ..
وهو الراسخ الذي ما غيّر مكانه ولا بدّله ، ولا استطاع أحدٌ أن يغير له مكانه أوينقله أو يزحزحه .. إنه الراسخ العنيد الذي صمد في وجه جميع العوامل الجوية منذ ولادته ، وما تزعزع ولا خارت قواه أمام جميع الحملات والحروب والغزوات التي تعرض لها عبر آلاف السنين .. إنه الأشم الذي لم تهزمه سيوف العدوان ومدافع المعتدين ، وإنما هزمناه نحن ، حين صار ملاذا للمقامرين والعابثين والهاربين والشذاذ .. و .. و ..
وهو الهادئ الذي ما ثار يوما على أحد ، ولا غضب من متبول فوقه ، ولا تصرف برد الفعل مع أي من الذين داسوا فوقه وأهانوه ، سواء بالمقامرة أو بالمغامرة أو بالاعتداء أو بالنصب والاحتيال أو بالمجازفة أوالاستهتار من هيبته ووداعته ... لقد ظل هادئا عبر تاريخه الطويل ، ولم يُسَجّل أنّ بركانا ثار فيه وفاضت حِمَمُه على من أهانوه وحقروه .. ولم يعرف أحد عنه أن حالة عصبية انتابته قط .. ولم يره أحد وقد تملكه غضبٌ جارفٌ ، أو هيجان أرعن ، ولم يذكر أحد شيئا عن نخوة ثارت في رأسه ليدفع ظلما وقع على مظلوم فوق أرضه ..
وهو الأبكم الوحيد في ضيعتنا منذ خُلقا .. فقد وُلد التل هكذا .. إنه يسمع حتى دبيب النمل وآهات المعذبين وصراخ المستنجدين وكل شيء ، يسمع ويسمع ويسمع .. كما أنه يرى كل شيء فوقه وتحته وحوله وما بين ذلك ، ويفهم كل ما يسمع وكل ما يرى ، لكن أنى للأبكم أن يتكلم ؟؟؟؟؟ هل ترون ذلك من حسن الطالع أم من سوء الطالع ؟؟!!! ترى لو كان التل ناطقا ، ماذا سيقول لنا عنـّا ؟؟؟ لا أريد أن أخمّن أو أتوقع شيئا ، لكني سأحمد الله أنه أبكم ...
وأخيرا .. إنه الباقي ، الباقي الوحيد منذ وجوده إلى أن يشاء الله تعالى .. كم دالت دول وزالت !! كم تتالت الحروب والغزوات والهزائم والانتصارات !! كم تغيرت أماكن المقابر من حوله !! كم ورث الأبناء عن آبائهم وأجدادهم !! كم أنجبت النسوة وأرضعت وأنشأت ودفعت بفلذاتها إلى الحتوف !! كم تغير الزمان والمكان والناس والزرع والضرع !! كم امتلأ الفضاء حزنا وفرحا وعشقا وألما وحبا ومحبة ، كم تناوشنا النصر والهزيمة ، كم ضحكنا وبكينا ونمنا وأكلنا وقرأنا وعشقنا وأخفقنا ونجحنا !! كم لعبنا وركضنا وتسابقنا إلى الكروم والبيادر !!
أيها التل : هل وفيتك بعضا من حقك عليّ؟ ألا تعلم أني أحد أبنائك العاقين الجاحدين ؟! إني سأعترف لك بأني حاولت مرارا وتكرارا أن أزورك ولو لمرة واحدة عبر نصف قرن مضى ، لكني لم أفعل .. أتعرف لماذا ؟؟؟ أجزم بأنك لا تعرف ، ومن أين لك أن تعرف يا صديقي التل ؟!! لكني سأقول لك الآن ما لم أقله مسبقا ، وهنا بيت القصيد ....
لذااااااااااااااااا سأروي لك يا صديقي جانبا من حكايتي مع السيدة فيروز ...
فمنذ أواخر الستينيات عندما كانت حفلاتها الفنية تترافق مع معرض دمشق الدولي في أيلول من كل عام صادحة :
طالتْ نوىً وبكى من شوقه الوترُ خذني بعينيكَ واهربْ أيها القمرُ
هنا الترابات من طيبٍ ومن طربٍ وأين في غيرِ شامٍ يطربُ الحجرُ؟!
شآم أهلوكِ أحبابي وموعدنا أواخر الصيف آنَ الكرم يُعتصَرُ
يا طيبَ القلبِ يا قلبي تُحَمّلني همّ الأحِبّة إنْ غابُوا وإنْ حَضَروا؟!
خذني آآآآه خذني ، خذني بعينيك واهربْ أيها القمرُ
وقتذاك ، كان عندي مذياع ترانزيستور صغير ، هو ما تبقى من أشياء المرحوم الشهيد فتح الله ، أضمه إلى صدري وأذني أحيانا وأنا أستمع صوت فيروز عبر حفلات المعرض التي تبثها إذاعة دمشق مباشرة :
شآم يا ذا السيف لم يغبِ يا كلامَ المجدِ في الكتبِ
قبلكِ التاريخُ في ظلمةٍ بعدكِ استولى على الشّهُبِ
و
قرأتُ مجدكِ في قلبي وفي الكتبِ شآم ، ما المجد؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ
إذا على بردى حَوْرٌ تأهّل بي أحسستُ أعلامكِ اختالتْ على الشّهُبِ
هذي لها النصرُ لا أبهى فما هُزِمَتْ وإن تـَهَدّدَها دهرٌ من النّوَبِ
شآم ، لفظ الشآم اهتز في خَلدي كما اهتزازُ غصونُ الأرْز في الهُدُبِ
تلك غيض من فيض كان يتدفق كل أيلول من كل عام ، وكانت هذه الأشعار وألحانها والصوت الشجي الذي يصدح بها ، جواز سفر إلى قلبي وعقلي كما الملايين ،
فنشأت بيني وبين صوتها ، وكلمات الرحابنة وألحانهم ، علاقة خاصة جدا جدا ، لم تنقطع ولم تهتز ولم تتوقف ولم تتأئر ، رغم أني لم أحضر أي حفل من حفلاتها في دمشق ، ولم يكن ذلك عسيرا عليّ آنذاك ، إلى أن جاءت فيروز إلى قلعة حلب في أواخر السبعينيات ، ولاقتها المدينة بترحاب مشوب بالحذر جراء الظروف الأمنية التي كانت تعيشها المدينة وقتها ، ومع ذلك وقفتُ أمام شباك القلعة في طابور طويل لأحصل على بطاقة للحفلة التي طالما كنت توّاقا لها في أي مكان من العالم ، وها هي الآن قاب قوسين أو أدنى ، كنت شغوفا حقا بأن أحضر حفلا كهذا قد لا تسمح لي الظروف لمرة أخرى ، وانتظرت طويلا حتى تناقص الطابور أمامي ، وكنت كلما اقتربت من الشباك أضطرب وأرتبك كما العاشق في اللحظات التي تسبق لقاءه الأول بمعشوقته ، وأحس بثقل كبير يضغط على صدري ورأسي ، وكأن شيئا ما ، لا أعرفه يريد أن يعيدني إلى الوراء ، وأن يمنعني من الحضور .. كنت أتلفت حولي فلا أرى سوى إقدام الناس وشوقهم للحضور والتزاحم على الشباك ، وكانت ندرة التذاكر خلقت سوقا سوداء لها ، فصارت تباع التذكرة بأضعاف ثمنها الحقيقي ..
وحين وصلت للشباك ، كان العرق يتصبب مني غزيرا ، وفقدت بعض أزرار القميص ، وانخلعت فردة حذائي اليمنى من قدمي ، وشعرت بألم فظيع في خاصرتي من شدة التزاحم ، فلم أسمع ما كان يقوله لي قاطع التذاكر ، كان المكان حولي صاخبا جدا ، لكني وغي غمرة اضطرابي وارتباكي غير المعهود ، أدركت بوضوح وعرفت الثقل الذي كان يحاول أن يعيدني إلى الوراء ، وفورا قررت ـ وأنا أشق الزحام متراجعا عن الشباك ـ بأنني غير قادر على أن أرى فيروز أمامي متجسدة لحما ودما ، أريدها أن تبقى الحلم الذي سرى إلي عبر صوتها ، فغدت الصوتَ الآسر واللحن الخلاب ، وبات صوتها مزيجا من نجاحي وإخفاقي ، من دراستي وعملي ونشاطي وصداقاتي ، من قراءاتي وكتاباتي ، من حبي وفرحي ، من حزني وألمي ، من سهري ونومي وصحوي ...
وإن أردت قول الحقيقة كاملة ، فلم يكن صوتها وحده صاحب هذا التأثير كله ، بل كانت كلمات وألحان كل من عاصي ومنصور وإلياس وزياد الرحباني وكذلك محمد عبد الوهاب ومحمد محسن وزكي ناصيف وفيلمون وهبي وسعيد عقل وغيرهم وغيرهم ، وراء كل ذلك التأثير الذي غلف كثيرا من أفكارنا بكثير من المعطيات والسلوكيات القومية والوطنية والإنسانية والأخلاقية ، بما فيها من صدق ومروءة وإيثار وإباء وشمم ومحبة وإخلاص ووفاء وحض على التسامي عن الصغائر والدنايا ، كل ذلك عبروا عنه بوضوح فكري أخاذ ، وأسلوب فني رائع قلّ نظيره ..
وبعد يا صديقي التل ....
سأعترف لك مجددا ، أنني ـ ومؤخرا على وجه التحديد ـ درتُ حولك مراتٍ ومراتٍ وأنا أرمق جوانبك وأطرافك المتآكلة ، كما عبرتُ الطريق الذي يمر من سفحك الغربي خلف البلدية مرات ومرات ، راغبا في الوصول إلى سفحك الأعلى ، لكن شيئا ما كان يمنعني من تسلق الطريق المؤدي إلى سفحك العالي المعشوشب بفعل شتائنا الربيعي هذا العام ، وقد حاولت أن أطلّ عليك من المبنى الجديد على جدارك الجنوبي ، كما فعلت الشتاء الماضي ، لكني لم أوفق .. حقا كأن قوة ما لا أعرف كنهَهَا لكنها قوية بالفعل ، منعتني من الوصول إلى سفحك الأعلى ، وحالت بيني وبينك ، ولم تستطع قدماي التقدم باتجاهك رغم محاولتي وإصراري ... أيكون ذلك لأننا نراك كبيرا جدا ، أم لأنك ترانا ما زلنا صغارا ؟؟
أرجو أن تعذرني يا صديقي التل ، فأنا أرى أن بينك وبين فيروز قاسما مشتركا أعظمَ :
إنكما كبيران في خيالي ، ولا أريد لأحدكما أن يتضاءل أمام واقع غير محسوب ....
مع حبي....
17/02/2010
التعليقات (0)